الباحث القرآني
فالعُلَماءُ بِهِ وبِأمْرِهِ هم أهْلُ خَشْيَتِهِ، قالَ النَّبِيُّ ﷺ
«أنا أعْلَمُكم بِاللَّهِ وأشَدُّكم لَهُ خَشْيَةً».
* (فصل)
(الوَجَلُ) و(الخَوْفُ) و(الخَشْيَةُ) و(الرَّهْبَةُ)
ألْفاظٌ مُتَقارِبَةٌ غَيْرُ مُتَرادِفَةٍ، قالَ أبُو القاسِمِ الجُنَيْدُ: الخَوْفُ تَوَقُّعُ العُقُوبَةِ عَلى مَجارِي الأنْفاسِ.
وَقِيلَ: الخَوْفُ اضْطِرابُ القَلْبِ وحَرَكَتُهُ مِن تَذَكُّرِ المَخُوفِ.
وَقِيلَ: الخَوْفُ قُوَّةُ العِلْمِ بِمَجارِي الأحْكامِ، وهَذا سَبَبُ الخَوْفِ، لا أنَّهُ نَفْسُهُ
وَقِيلَ: الخَوْفُ هَرَبُ القَلْبِ مِن حُلُولِ المَكْرُوهِ عِنْدَ اسْتِشْعارِهِ.
و(الخَشْيَةُ) أخَصُّ مِنَ الخَوْفِ، فَإنَّ الخَشْيَةَ لِلْعُلَماءِ بِاللَّهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطر: ٢٨] فَهي خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِمَعْرِفَةٍ، وقالَ النَّبِيُّ ﷺ «إنِّي أتْقاكم لِلَّهِ، وأشَدُّكم لَهُ خَشْيَةً».
فالخَوْفُ حَرَكَةٌ، والخَشْيَةُ انْجِماعٌ، وانْقِباضٌ وسُكُونٌ، فَإنَّ الَّذِي يَرى العَدُوَّ والسَّيْلَ ونَحْوَ ذَلِكَ لَهُ حالَتانِ:
إحْداهُما: حَرَكَةٌ لِلْهَرَبِ مِنهُ، وهي حالَةُ الخَوْفِ.
والثّانِيَةُ: سُكُونُهُ وقَرارُهُ في مَكانٍ لا يَصِلُ إلَيْهِ فِيهِ، وهي الخَشْيَةُ، ومِنهُ: انْخَشى الشَّيْءُ، والمُضاعَفُ والمُعْتَلُّ أخَوانِ، كَتَقَضِّي البازِيِّ وتَقَضَّضَ.
وَأمّا الرَّهْبَةُ فَهي الإمْعانُ في الهَرَبِ مِنَ المَكْرُوهِ، وهي ضِدُّ الرَّغْبَةِ الَّتِي هي سَفَرُ القَلْبِ في طَلَبِ المَرْغُوبِ فِيهِ.
وَبَيْنَ الرَّهَبِ والهَرَبِ تَناسُبٌ في اللَّفْظِ والمَعْنى، يَجْمَعُهُما الِاشْتِقاقُ الأوْسَطُ الَّذِي هو عَقْدُ تَقالِيبِ الكَلِمَةِ عَلى مَعْنًى جامِعٍ.
وَأمّا الوَجَلُ فَرَجَفانُ القَلْبِ، وانْصِداعُهُ لِذِكْرِ مَن يُخافُ سُلْطانُهُ وعُقُوبَتُهُ، أوْ لِرُؤْيَتِهِ.
وَأمّا الهَيْبَةُ فَخَوْفٌ مُقارِنٌ لِلتَّعْظِيمِ والإجْلالِ، وأكْثَرُ ما يَكُونُ مَعَ المَحَبَّةِ والمَعْرِفَةِ. والإجْلالُ: تَعْظِيمٌ مَقْرُونٌ بِالحُبِّ.
فالخَوْفُ لِعامَّةِ المُؤْمِنِينَ، والخَشْيَةُ لِلْعُلَماءِ العارِفِينَ، والهَيْبَةُ لِلْمُحِبِّينَ، والإجْلالُ لِلْمُقَرَّبِينَ، وعَلى قَدْرِ العِلْمِ والمَعْرِفَةِ يَكُونُ الخَوْفُ والخَشْيَةُ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ «إنِّي لَأعْلَمُكم بِاللَّهِ، وأشَدُّكم لَهُ خَشْيَةً»
وَفِي رِوايَةٍ " خَوْفًا " وقالَ «لَوْ تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، ولَما تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّساءِ عَلى الفُرُشِ ولَخَرَجْتُمْ إلى الصُّعُداتِ تَجْأرُونَ إلى اللَّهِ تَعالى».
فَصاحِبُ الخَوْفِ يَلْتَجِئُ إلى الهَرَبِ، والإمْساكِ، وصاحِبُ الخَشْيَةِ يَلْتَجِئُ إلى الِاعْتِصامِ بِالعِلْمِ، ومَثَلُهُما مَثَلُ مَن لا عِلْمَ لَهُ بِالطِّبِّ، ومَثَلُ الطَّبِيبِ الحاذِقِ، فالأوَّلُ يَلْتَجِئُ إلى الحِمْيَةِ والهَرَبِ، والطَّبِيبُ يَلْتَجِئُ إلى مَعْرِفَتِهِ بِالأدْوِيَةِ والأدْواءِ.
قالَ أبُو حَفْصٍ: الخَوْفُ سَوْطُ اللَّهِ، يُقَوِّمُ بِهِ الشّارِدِينَ عَنْ بابِهِ، وقالَ: الخَوْفُ سِراجٌ في القَلْبِ، بِهِ يُبْصَرُ ما فِيهِ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، وكُلُّ أحَدٍ إذا خِفْتَهُ هَرَبْتَ مِنهُ إلّا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، فَإنَّكَ إذْ خِفْتَهُ هَرَبْتَ إلَيْهِ.
فالخائِفُ هارِبٌ مِن رَبِّهِ إلى رَبِّهِ.
قالَ أبُو سُلَيْمانَ: ما فارَقَ الخَوْفُ قَلْبًا إلّا خَرِبَ، وقالَ إبْراهِيمُ بْنُ سُفْيانَ: إذا سَكَنَ الخَوْفُ القُلُوبَ أحْرَقَ مَواضِعَ الشَّهَواتِ مِنها، وطَرَدَ الدُّنْيا عَنْها، وقالَ ذُو النُّونِ: النّاسُ عَلى الطَّرِيقِ ما لَمْ يَزُلْ عَنْهُمُ الخَوْفُ، فَإذا زالَ عَنْهُمُ الخَوْفُ ضَلُّوا الطَّرِيقَ، وقالَ حاتِمٌ الأصَمُّ: لا تَغْتَرَّ بِمَكانٍ صالِحٍ، فَلا مَكانَ أصْلَحُ مِنَ الجَنَّةِ، ولَقِيَ فِيها آدَمُ ما لَقِيَ، ولا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ العِبادَةِ، فَإنَّ إبْلِيسَ بَعْدَ طُولِ العِبادَةِ لَقِيَ ما لَقِيَ، ولا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ العِلْمِ، فَإنَّ بَلْعامَ بْنَ باعُورا لَقِيَ ما لَقِيَ وكانَ يَعْرِفُ الِاسْمَ الأعْظَمَ، ولا تَغْتَرَّ بِلِقاءِ الصّالِحِينَ ورُؤْيَتِهِمْ، فَلا شَخْصَ أصْلَحُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، ولَمْ يَنْتَفِعْ بِلِقائِهِ أعْداؤُهُ والمُنافِقُونَ.
والخَوْفُ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذاتِهِ، بَلْ هو مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ قَصْدَ الوَسائِلِ، ولِهَذا يَزُولُ بِزَوالِ المَخُوفِ، فَإنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ.
والخَوْفُ يَتَعَلَّقُ بِالأفْعالِ، والمَحَبَّةُ تَتَعَلَّقُ بِالذّاتِ والصِّفاتِ، ولِهَذا تَتَضاعَفُ مَحَبَّةُ المُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ إذا دَخَلُوا دارَ النَّعِيمِ، ولا يَلْحَقُهم فِيها خَوْفٌ، ولِهَذا كانَتْ مَنزِلَةُ المَحَبَّةِ ومَقامُها أعْلى وأرْفَعَ مِن مَنزِلَةِ الخَوْفِ ومَقامِهِ.
والخَوْفُ المَحْمُودُ الصّادِقُ: ما حالَ بَيْنَ صاحِبِهِ وبَيْنَ مَحارِمِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، فَإذا تَجاوَزَ ذَلِكَ خِيفَ مِنهُ اليَأْسُ والقُنُوطُ.
قالَ أبُو عُثْمانَ: صِدْقُ الخَوْفِ هو الوَرَعُ عَنِ الآثامِ ظاهِرًا وباطِنًا.
* [فصل: مَن هو العالِمُ صاحِبُ الحَقِّ؟]
واعْلَمْ أنَّ الإجْماعَ والحُجَّةَ والسَّوادَ الأعْظَمَ هو العالِمُ صاحِبُ الحَقِّ، وإنْ كانَ وحْدَهُ، وإنْ خالَفَهُ أهْلُ الأرْضِ، قالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الأوْدِيُّ: صَحِبْت مُعاذًا بِاليَمَنِ، فَما فارَقْته حَتّى وارَيْته في التُّرابِ بِالشّامِ، ثُمَّ صَحِبْت مِن بَعْدِهِ أفْقَهَ النّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَسَمِعْته يَقُولُ: عَلَيْكم بِالجَماعَةِ، فَإنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الجَماعَةِ، ثُمَّ سَمِعْته يَوْمًا مِن الأيّامِ وهو يَقُولُ: سَيُوَلّى عَلَيْكم وُلاةٌ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ مَواقِيتِها، فَصَلُّوا الصَّلاةَ لِمِيقاتِها؛ فَهي الفَرِيضَةُ، وصَلُّوا مَعَهم فَإنَّها لَكم نافِلَةٌ، قالَ: قُلْت يا أصْحابَ مُحَمَّدٍ ما أدْرِي ما تُحَدِّثُونَ، قالَ: وما ذاكَ؟ قُلْت: تَأْمُرُنِي بِالجَماعَةِ وتَحُضُّنِي عَلَيْها ثُمَّ تَقُولُ لِي: صَلِّ الصَّلاةَ وحْدَك وهي الفَرِيضَةُ، وصَلِّ مَعَ الجَماعَةِ وهي نافِلَةٌ قالَ: يا عَمْرُو بْنَ مَيْمُونٍ قَدْ كُنْت أظُنُّك مِن أفْقَهِ أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ، أتَدْرِي ما الجَماعَةُ؟ قُلْت: لا، قالَ: إنّ جُمْهُورَ الجَماعَةِ هم الَّذِينَ فارَقُوا الجَماعَةَ، الجَماعَةُ ما وافَقَ الحَقَّ وإنْ كُنْت وحْدَك، وفي لَفْظٍ آخَرَ: فَضَرَبَ عَلى فَخِذِي وقالَ: ويْحَك، إنّ جُمْهُورَ النّاسِ فارَقُوا الجَماعَةَ، وإنَّ الجَماعَةَ ما وافَقَ طاعَةَ اللَّهِ تَعالى.
وَقالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمّادٍ: إذا فَسَدَتْ الجَماعَةُ فَعَلَيْك بِما كانَتْ عَلَيْهِ الجَماعَةُ قَبْلَ أنْ تَفْسُدَ، وإنْ كُنْت وحْدَك، فَإنَّك أنْتَ الجَماعَةُ حِينَئِذٍ، ذَكَرَها البَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُ.
وَقالَ بَعْضُ أئِمَّةِ الحَدِيثِ وقَدْ ذُكِرَ لَهُ السَّوادُ الأعْظَمُ، فَقالَ: أتَدْرِي ما السَّوادُ الأعْظَمُ؟ هو مُحَمَّدُ بْنُ أسْلَمَ الطُّوسِيُّ وأصْحابُهُ. فَمُسِخَ المُخْتَلِفُونَ الَّذِينَ جُعِلُوا السَّوادَ الأعْظَمَ والحُجَّةَ والجَماعَةُ هم الجُمْهُورُ وجَعَلُوهم عِيارًا عَلى السُّنَّةِ، وجَعَلُوا السُّنَّةَ بِدْعَةً، والمَعْرُوفَ مُنْكَرًا لِقِلَّةِ أهْلِهِ وتَفَرُّدِهِمْ في الأعْصارِ والأمْصارِ، وقالُوا: مَن شَذَّ شَذَّ اللَّهُ بِهِ في النّارِ، وما عَرَفَ المُخْتَلِفُونَ أنَّ الشّاذَّ ما خالَفَ الحَقَّ وإنْ كانَ النّاسُ كُلُّهم عَلَيْهِ إلّا واحِدًا مِنهم فَهم الشّاذُّونَ.
وَقَدْ شَذَّ النّاسُ كُلُّهم زَمَنَ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إلّا نَفَرًا يَسِيرًا؛ فَكانُوا هم الجَماعَةُ، وكانَتْ القُضاةُ حِينَئِذٍ والمُفْتُونَ والخَلِيفَةُ وأتْباعُهُ كُلُّهم هم الشّاذُّونَ، وكانَ الإمامُ أحْمَدُ وحْدَهُ هو الجَماعَةُ، ولَمّا لَمْ يَتَحَمَّلْ هَذا عُقُولُ النّاسِ قالُوا لِلْخَلِيفَةِ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ أتَكُونُ أنْتَ وقُضاتُك ووُلاتُك والفُقَهاءُ والمُفْتُونَ كُلُّهم عَلى الباطِلِ وأحْمَدُ وحْدَهُ هو عَلى الحَقِّ؟ فَلَمْ يَتَّسِعْ عِلْمُهُ لِذَلِكَ؛ فَأخَذَهُ بِالسِّياطِ والعُقُوبَةِ بَعْدَ الحَبْسِ الطَّوِيلِ؛ فَلا إلَهَ إلّا اللَّهُ، ما أشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالبارِحَةِ، وهي السَّبِيلُ المَهْيَعُ لِأهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ حَتّى يَلْقَوْا رَبَّهُمْ، مَضى عَلَيْها سَلَفُهُمْ، ويَنْتَظِرُها خَلَفُهُمْ: ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنهم مَن قَضى نَحْبَهُ ومِنهم مَن يَنْتَظِرُ وما بَدَّلُوا تَبْدِيلا﴾ [الأحزاب: ٢٣] ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
* (فصل)
قال عكرمة: "الدماء كلها جهالة ومما يبين ذلك قوله: ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾
وكل مَن خشيه فأطاعه بفعل أوامره وترك نواهيه فهو عالم كما قال تعالى: ﴿أمَّنْ هو قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وقائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ "
وقال رجل للشعبي: أيها العالم فقال: "لسنا بعلماء إنما العالم من يخشى الله"
وقال ابن مسعود: "وكفى بخشية الله علما وبالاغترار بالله جهلا"
وقوله ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ يقتضي الحصر من الطرفين:
أن لا يخشاه إلا العلماء ولا يكون عالما إلا من يخشاه فلا يخشاه إلا عالم وما من عالم إلا وهو يخشاه فإذا انتفى العلم انتفت الخشية وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم لكن وقع الغلط في مسمى العلم اللازم للخشية حيث يظن أنه يحصل بدونها وهذا ممتنع فإنه ليس في الطبيعة أن لا يخشى النار والأسد والعدو من هو عالم بها مواجه لها، وأنه لا يخشى الموت من ألقى نفسه من شاهق ونحو ذلك، فأمنه في هذه المواطن دليل عدم علمه وأحسن أحواله أن يكون معه ظن لا يصل إلى رتبة العلم اليقيني.
فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بمعصية إبليس فإنها كانت عن علم لا عن جهل وبقوله: ﴿وَأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ وقال: ﴿وَآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ وقال عن قوم فرعون: ﴿وَجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا وعُلُوًّا﴾ وقال: ﴿وَعادًا وثَمُودَ وقَدْ تَبَيَّنَ لَكم مِن مَساكِنِهِمْ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهم فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ وقال موسى لفرعون: ﴿قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلاّ رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ بَصائِرَ﴾ وقال: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُونَ﴾ وقال: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ﴾ يعني القرآن أو محمدا ﷺ وقال: ﴿يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ وتَكْتُمُونَ الحَقَّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وقال: ﴿فَإنَّهم لا يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ والجحود إنكار الحق بعد معرفته وهذا كثير في القرآن؟
قيل حجج الله لا تتناقص بل كلها حق يصدق بعضها بعضا وإذا كان سبحانه قد أثبت الجهالة لمن عمل السوء وقد أقر به وبرسالته، وبأنه حرم ذلك وتوعد عليه بالعقاب ومع ذلك يحكم عليه بالجهالة التي لأجلها عمل السوء فكيف بمن أشرك به وكفر بآياته وعادى رسله أليس ذلك أجهل الجاهلين؟! وقد سمى تعالى أعداءه جاهلين بعد إقامة الحجة عليهم فقال: ﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾
فأمره بالإعراض عنهم بعد أن أقام عليهم الحجة وعلموا أنه صادق وقال: ﴿وَإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ فالجاهلون هم الكفار الذين علموا أنه رسول الله فها العلم لا ينافي الحكم على صاحبه بالجهل بل يثبت له العلم وينافي عنه في موضع واحد كما قال تعالى عن السحرة من اليهود: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ فأثبت لهم العلم الذي تقوم به عليهم الحجة ونفى عنهم العلم النافع الموجب لترك الضار.
وهذا نكتة المسألة وسر الجواب فما دخل النار إلا عالم ولا دخلها إلا جاهل.
وهذا العلم لا يجتمع مع الجهل في الرجل الواحد يوضحه أن الهوى والغفلة والإعراض تصد عن كماله واستحضاره ومعرفة موجبه على التفصيل، وتقيم لصاحبه شبها وتأويلات تعارضه فلا يزال المقتضى يضعف والعارض يعمل عمله حتى كأنه لم يكن ويصير صاحبه بمنزلة الجاهل من كل وجه، فلو علم إبليس أن تركه للسجود لآدم يبلغ به ما بلغ وأنه يوجب له أعظم العقوبة وتيقن ذلك لم يتركه، ولكن حال الله بينه وبين هذا العلم ليقضي أمره وينفذ قضائه وقدره، ولو ظن آدم وحواء أنهما إذا أكلا من الشجرة خرجا من الجنة وجرى عليهما ما جرى ما قرباها، ولو علم أعداء الرسل تفاصيل ما يجري عليهم وما يصيبهم يوم القيامة وجزموا بذلك لما عادوهم قال تعالى عن قوم فرعون: ﴿وَلَقَدْ أنْذَرَهم بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ﴾
وقال: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأشْياعِهِمْ مِن قَبْلُ إنَّهم كانُوا في شَكٍّ مُرِيبٍ﴾
وقال عن المنافقين وقد شاهدوا آيات الرسول وبراهين صدقه عيانا: ﴿وارْتابَتْ قُلُوبُهم فَهم في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾
وقال: ﴿وَلَكِنَّكم فَتَنْتُمْ أنْفُسَكم وتَرَبَّصْتُمْ وارْتَبْتُمْ﴾ وقال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ وهو الشك ولو كان هذا لعدم العلم الذي تقوم به الحجة عليهم لما كانوا في الدرك الأسفل من النار، بل هذا بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم الذي لم ينفعهم فالعلم يضعف قطعا بالغفلة والإعراض واتّباع الهوى، وإيثار الشهوات.
وهذه الأمور توجب شبهات وتأويلات تضاده.
فتأمل هذا الموضع حق تأمل فإنه من أسرار القدر والشرع والعدل، فالعلم يراد به العلم التام المستلزم لأثره ويراد به المقتضى وإن لم يتم بوجود شروطه وانتقاء موانعه فالثاني يجامع الجهل دون الأول فتبين أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم وإن كان كذلك فعدم العلم ليس أمرا وجوديا بل هو لعدم السمع والبصر والقدرة والإرادة والعدم ليس شيئا حتى يستدعي فاعلا مؤثرا فيه بل يكفي فيه عدم مشيئة ضده وعدم السبب الموجب لضده والعدم المحض لا يضاف إلى الله فإنه شر والشر ليس إليه فإذا انتفى هذا الجازم عن العبد ونفسه بطبعها متحركة مريدة وذلك من لوازم شأنها تحركت بمقتضى الطبع والشهوة وغلب ذلك فيها على داعي العلم والمعرفة فوقعت في أسباب الشر ولا بد.
* (فصل: في مدح العلماء العاملين)
ابن عيينة عن محمد بن المنكدر قال: "إن العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم".
وقال سهل بن عبد الله: "من أراد أن ينظر إلى محاسن الأنبياء فلينظر إلى محاسن العلماء يجيء الرجل فيقول: يا فلان إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا فيقول: طلقت امرأته وهذا مقام للأنبياء فاعرفوا لهم ذلك".
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله ﷺ يسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول ما منهم من أحد إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".
وقال ابن مسعود: "من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون"، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال حصين الأسدي: "إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر"، وعن الحسن والشعبي مثله.
وقال الحاكم: سمعت أبا عبد الله الصفار يقول: سمعت عبد الله ابن أحمد يقول: سمعت أبي: يقول سمعت الشافعي يقول: سمعت مالك ابن أنس يقول: سمعت محمد بن عجلان يقول: "إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله"
وروى ذلك بنحوه عن ابن عباس.
وذكر أبو عمر عن القاسم بن محمد أنه جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم: "لا أحسنه فجعل الرجل يقول إني دفعت إليك لا أعرف غيرك فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله لا أحسنه فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيت في مجلس أبيك مثل اليوم فقال القاسم: والله لئن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا أعلم".
وذكر أبو عمر عن ابن عيينة وسحنون: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما".
وكان مالك بن أنس يقول: "من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة أو النار وكيف يكون خلاصه في الآخرة".
سئل عن مسألة فقال: "لا أدري"
فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة فغضب وقال: "ليس في العلم شيء خفيف ألم تسمع قوله جل ثناؤه: ﴿إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾
فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة.
* (فصل)
اعلمْ أن من نالَ شَيْئا من شرف الدُّنْيا والآخِرَة فَإنَّما ناله بِالعلمِ.
وتأمل ما حصل لآدم من تميزه على المَلائِكَة واعترافهم لَهُ بتعليم الله لَهُ الأسماء كلها، ثمَّ ما حصل لَهُ من تدارك المُصِيبَة والتعويض عَن سُكْنى الجنَّة بِما هو خير لَهُ مِنها بِعلم الكَلِمات الَّتِي تلقاها من ربه.
وَما حصل ليوسف من التَّمْكِين في الأرض والعزة والعَظَمَة بِعِلْمِهِ بتعبير تِلْكَ الرُّؤْيا، ثمَّ علمه بِوُجُوه اسْتِخْراج أخيه من إخْوَته بِما يقرونَ بِهِ ويحكمون هم بِهِ حَتّى آل الأمر إلى ما آل إليه من العِزّ والعاقبَة الحميدة، وكَمال الحال الَّتِي توصل إليها بِالعلمِ، كَما أشار إليها سُبْحانَهُ في قَوْله ﴿كَذَلِك كدنا ليوسف ما كانَ ليَأْخُذ أخاه في دين الملك إلّا أن يَشاء الله نرفع دَرَجات من نشاء وفَوق كل ذِي علم عليم﴾
جاءَ في تَفْسِيرها نرفع دَرَجات من نشاء بِالعلمِ كَما رفعنا دَرَجَة يُوسُف على إخوته بِالعلمِ.
وَقالَ في إبْراهِيم ﴿وَتلك حجتنا آتيناها إبْراهِيم على قومه نرفع دَرَجات من نشاء﴾
فَهَذِهِ رفْعَة بِعلم الحجَّة، والأول رفْعَة بِعلم السياسة.
وَكَذَلِكَ ما حصل للخضر بِسَبَب علمه من تلمذة كليم الرَّحْمَن لَهُ وتلطفه مَعَه في السُّؤال حَتّى قالَ ﴿هَل أتبعك على أن تعلمن مِمّا علمت رشدا﴾
وَكَذَلِكَ ما حصل لِسُلَيْمان من علم منطق الطير حَتّى وصل إلى ملك سبأ وقهر ملكتهم واحتوى على سَرِير ملكها، ودخولها تَحت طاعَته، ولذَلِك ﴿قالَ ياأيها النّاس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شَيْء إن هَذا لَهو الفضل المُبين﴾
وَكَذَلِكَ ما حصل لداود من علمه نسج الدروع من الوِقايَة من سلاح الأعداء، وعدد سُبْحانَهُ هَذِه النِّعْمَة بِهَذا العلم على عباده فَقالَ ﴿وعلمناه صَنْعَة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فَهَل أنتم شاكرون﴾
وَكَذَلِكَ ما حصل للمسيح من علم الكتاب والحكمَة والتوراة والإنجيل ما رَفعه الله بِهِ إليه وفضله وكَرمه، وكَذَلِكَ ما حصل لسَيِّد ولد آدم من العلم الَّذِي ذكره الله بِهِ نعْمَة عَلَيْهِ فَقالَ ﴿وَأنْزلْ الله عَلَيْك الكتاب والحكمَة وعلمك ما لم تكن تعلم وكانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما﴾.
{"ayah":"وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَاۤبِّ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ كَذَ ٰلِكَۗ إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ غَفُورٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق