الباحث القرآني

ولَمّا أكَّدَ هَذا بِما دَلَّ عَلى خُلُوصِهِ؛ قَدَّمَ ذِكْرَ الِاخْتِلافِ عَلَيْهِ؛ (p-٤٧)ولَمّا ذَكَرَ (تَعالى) ما الأغْلَبُ فِيهِ الماءُ؛ مِمّا اسْتَحالَ إلى آخَرَ بَعِيدٍ مِنَ الماءِ؛ وأتْبَعَهُ التُّرابَ الصِّرْفَ؛ خَتَمَ بِما الأغْلَبُ فِيهِ التُّرابُ؛ مِمّا اسْتَحالَ إلى ما هو في غايَةِ البُعْدِ مِنَ التُّرابِ؛ فَقالَ: ﴿ومِنَ النّاسِ﴾؛ أيْ: المُتَحَرِّكِينَ؛ بِالفِعْلِ؛ والِاخْتِيارِ؛ ﴿والدَّوابِّ﴾؛ ولَمّا كانَتِ الدّابَّةُ في الأصْلِ لِما دَبَّ عَلى الأرْضِ؛ ثُمَّ غَلَبَ إطْلاقُهُ عَلى ما يُرْكَبُ؛ قالَ: ﴿والأنْعامِ﴾؛ لِيَعُمَّ الكُلَّ صَرِيحًا؛ ﴿مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ﴾؛ أيْ: ألْوانُ ذَلِكَ البَعْضِ الَّذِي أفْهَمَتْهُ ”مِن“؛ ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أيْ: مِثْلَ الثِّمارِ؛ والأراضِي؛ فَمِنهُ ما هو ذُو لَوْنٍ واحِدٍ؛ ومِنهُ ما هو ذُو ألْوانٍ؛ مَعَ أنَّ كُلُّ ما ذُكِرَ فَهو مِنَ الأراضِي مُتَجانِسُ الأعْيانِ؛ مُخْتَلِفُ الأوْصافِ؛ ونِسْبَتُهُ إلَيْها وإلى السَّماءِ واحِدَةٌ؛ فَأيْنَ حُكْمُ الطَّبائِعِ؟ ولَمّا ثَبَتَ بِهَذا البُرْهانِ أنَّهُ - سُبْحانَهُ - فاعِلٌ بِالِاخْتِيارِ؛ فَهو يَفْعَلُ فِيما يَشاءُ؛ ومَن يَشاءُ؛ ما يَشاءُ؛ فَيَجْعَلُ الشَّيْءَ الواحِدَ لِقَوْمٍ نُورًا؛ ولِقَوْمٍ عَمًى؛ وكانَ ذَلِكَ مُرَغِّبًا في خِدْمَتِهِ؛ مُرَهِّبًا مِن سَطْوَتِهِ - سُبْحانَهُ وتَعالى؛ وتَقَدَّسَ -؛ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ؛ وكانَ السِّياقُ لِإنْذارِ مَن يَخْشى بِالغَيْبِ؛ فَثَبَتَ أنَّ الإنْذارَ بِهَذا القُرْآنِ يَكُونُ لِقَوْمٍ أرادَ اللَّهُ خَشْيَتَهم خَشْيَةً؛ ولِقَوْمٍ أرادَ اللَّهُ قَسْوَتَهم (p-٤٨)قَسْوَةً؛ التَفَتَتِ النَّفْسُ إلى طَلَبِ قانُونٍ يُعْرَفُ بِهِ مَن يَخْشى؛ ومَن لا يَخْشى؛ فَقالَ - عَلى سَبِيلِ الِاسْتِنْتاجِ مِن ذَلِكَ؛ دَفْعًا لِظَنِّ مَن يَحْسَبُ أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ولِيٌّ جاهِلًا -: ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ جَمِيعُ الكَمالِ؛ ولا كَمالَ لِغَيْرِهِ؛ إلّا مِنهُ؛ ودَلَّ عَلى أنَّ كُلَّ مَن سِواهُ في قَبْضَتِهِ؛ وتَحْتَ قَهْرِهِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن عِبادِهِ﴾؛ ثُمَّ ذَكَرَ مَحَطَّ الفائِدَةِ؛ وهو مَن يَنْفَعُ إنْذارُهُ؛ فَقالَ: ﴿العُلَماءُ﴾؛ أيْ: لا سِواهُمْ؛ وإنْ كانُوا عُبّادًا؛ وإنْ بَلَغَتْ عِبادَتُهم ما عَسى أنْ تَبْلُغَ؛ لِأنَّهُ لا يَخْشى أحَدٌ أحَدًا إلّا مَعَ مَعْرِفَتِهِ؛ ولا يَعْرِفُهُ جاهِلٌ؛ فَصارَ المَعْنى كَأنَّهُ قِيلَ: ”إنَّما يَنْفَعُ الإنْذارُ أهْلَ الخَشْيَةِ؛ وإنَّما يَخْشى العُلَماءُ“؛ والعالِمُ هو الفَقِيهُ العامِلُ بِعِلْمِهِ؛ قالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ؛ في البابِ الثّالِثِ مِن عَوارِفِهِ: فَيَنْتَفِي العِلْمُ عَمَّنْ لا يَخْشى اللَّهَ؛ كَما إذا قالَ: إنَّما يَدْخُلُ الدّارَ بَغْدادِيٌّ؛ فَيَنْتَفِي دُخُولُ غَيْرِ البَغْدادِيِّ الدّارَ؛ هَذا مَعْنى القِراءَةِ المَشْهُورَةِ. ولَمّا كانَ سَبَبُ الخَشْيَةِ التَّعْظِيمَ والإجْلالَ؛ وكانَ كُلُّ أحَدٍ لا يُجِلُّ إلّا مَن أجَلَّهُ؛ وكانَ قَدْ ثَبَتَ أنَّ العُلَماءَ يُجِلُّونَ اللَّهَ؛ وكانَ سَبَبُ إجْلالِهِمْ لَهُ إجْلالَهُ لَهُمْ؛ كانَ هَذا مَعْنى القِراءَةِ الأُخْرى؛ فَكانَ كَأنَّهُ قِيلَ: ”إنَّما يَنْفَعُ الإنْذارُ مَن يُجِلُّ اللَّهَ؛ فاللَّهُ يُجِلُّهُ لِعِلْمِهِ“؛ وسُئِلَ شَيْخُنا؛ مُحَقِّقُ زَمانِهِ؛ قاضِي الشّافِعِيَّةِ بِمِصْرَ؛ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ القاياتِيُّ عَنْ تَوْجِيهِ هَذِهِ القِراءَةِ؛ فَأطْرَقَ يَسِيرًا؛ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقالَ: ؎أهابُكَ إجْلالًا وما بِكَ قُدْرَةٌ ∗∗∗ عَلَيَّ ولَكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُها (p-٤٩)ولَمّا ثَبَتَ بِهَذا السِّياقِ أنَّهُ - سُبْحانَهُ - فاعِلُ هَذِهِ الأشْياءِ المُتَضادَّةِ؛ عَلَّلَ ذَلِكَ؛ لِيُفِيدَ أنَّ قُدْرَتَهُ عَلى كُلِّ ما يُرِيدُهُ كَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؛ بِقَوْلِهِ - عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ - سُبْحانَهُ - لا يَعْسُرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ وأنَّهُ أهْلٌ لِأنْ يُخْشى؛ ولِذَلِكَ أظْهَرَ الِاسْمَ الأعْظَمَ -: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾؛ أيْ: المُحِيطَ بِالجَلالِ والإكْرامِ؛ ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أيْ: غالِبٌ عَلى جَمِيعِ أمْرِهِ؛ ولَمّا كانَ هَذا مُرَهِّبًا مِن سَطْوَتِهِ؛ مُوجِبًا لِخَشْيَتِهِ؛ لِإفْهامِهِ أنَّهُ يَمْنَعُ الَّذِينَ لا يَخْشَوْنَ مِن رَحْمَتِهِ؛ رَغَّبَهم بِقَوْلِهِ: ﴿غَفُورٌ﴾؛ في أنَّهُ يَمْحُو ذُنُوبَ مَن يُرِيدُ مِنهُمْ؛ فَيُقْبِلُ بِقَلْبِهِ إلَيْهِ؛ وهو أيْضًا مِن مَعانِي العِزَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب