الباحث القرآني
﴿ومِنَ النّاسِ والدَّوابِّ والأنْعامِ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ﴾ مَوْقِعُهُ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ ﴿ومِنَ الجِبالِ جُدَدٌ﴾ [فاطر: ٢٧]، ولا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ مُسَوِّغُ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ غَيْرَ مُفِيدٍ مَعْنًى آخَرَ، فَإنَّ تَقْدِيمَ الخَبَرِ هُنا سَوَّغَ الِابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ.
واخْتِلافُ ألْوانِ النّاسِ مِنهُ اخْتِلافٌ عامٌّ وهو ألْوانُ أصْنافِ البَشَرِ وهي الأبْيَضُ والأسْوَدُ والأصْفَرُ والأحْمَرُ حَسَبَ الِاصْطِلاحِ الجُغْرافِيِّ. ولِلْعَرَبِ في كَلامِهِمْ تَقْسِيمٌ آخَرُ لِألْوانِ أصْنافِ البَشَرِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿واخْتِلافُ ألْسِنَتِكم وألْوانِكُمْ﴾ [الروم: ٢٢] في سُورَةِ الرُّومِ.
و”مِن“ تَبْعِيضِيَّةٌ. والمَعْنى: أنَّ المُخْتَلِفَ ألْوانُهُ بَعْضٌ مِنَ النّاسِ، ومَجْمُوعُ المُخْتَلِفاتِ كُلُّهُ هو النّاسُ كُلُّهم وكَذَلِكَ الدَّوابُّ والأنْعامُ، وهو نَظْمٌ دَقِيقٌ دَعا إلَيْهِ الإيجازُ.
وجِيءَ في جُمْلَةِ ﴿ومِنَ الجِبالِ جُدَدٌ﴾ [فاطر: ٢٧] و﴿ومِنَ النّاسِ والدَّوابِّ والأنْعامِ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ﴾ بِالِاسْمِيَّةِ دُونَ الفِعْلِيَّةِ كَما في الجُمْلَةِ السّابِقَةِ لِأنَّ اخْتِلافَ ألْوانِ الجِبالِ والحَيَوانِ الدّالِّ عَلى اخْتِلافِ أحْوالِ الإيجادِ اخْتِلافًا دائِمًا لا يَتَغَيَّرُ وإنَّما يَحْصُلُ مَرَّةً واحِدَةً عِنْدَ الخَلْقِ وعِنْدَ تَوَلُّدِ النَّسْلِ.
* * *
(p-٣٠٤)﴿كَذَلِكَ إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ الأظْهَرُ عِنْدِي أنَّ ”كَذَلِكَ“ ابْتِداءُ كَلامٍ يَتَنَزَّلُ مَنزِلَةَ الإخْبارِ بِالنَّتِيجَةِ عَقِبَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ. والمَعْنى: كَذَلِكَ أمْرُ الِاخْتِلافِ في ظَواهِرِ الأشْياءِ المُشاهَدِ في اخْتِلافِ ألْوانِها وهو تَوْطِئَةٌ لِما يَرِدُ بَعْدَهُ مِن تَفْصِيلِ الِاسْتِنْتاجِ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ﴾ أيْ إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِنَ البَشَرِ المُخْتَلِفَةِ ألْوانُهُمُ العُلَماءُ مِنهم، فَجُمْلَةُ ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ عَنْ جُمْلَةِ ”كَذَلِكَ“، وإذا عُلِمَ ذَلِكَ دَلَّ بِالِالتِزامِ عَلى أنَّ غَيْرَ العُلَماءِ لا تَتَأتّى مِنهم خَشْيَةُ اللَّهِ فَدَلَّ عَلى أنَّ البَشَرَ في أحْوالِ قُلُوبِهِمْ ومَدارِكِهِمْ مُخْتَلِفُونَ. وهَذا مِثْلُ قَوْلِهِ ﴿إنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ﴾ [فاطر: ١٨] .
وأُوثِرَ هَذا الأُسْلُوبُ في الدَّلالَةِ تَخَلُّصًا لِلتَّنْوِيهِ بِأهْلِ العِلْمِ والإيمانِ لِيَنْتَقِلَ إلى تَفْصِيلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ﴾ [فاطر: ٢٩] الآيَةَ.
فَقَوْلُهُ ”كَذَلِكَ“ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ المَقامُ. والتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ الِاخْتِلافُ، أوْ كَذَلِكَ الأمْرُ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الكَهْفِ ﴿كَذَلِكَ وقَدْ أحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْرًا﴾ [الكهف: ٩١] وهو مِن فَصْلِ الخِطابِ كَما عَلِمْتَ هُنالِكَ ولِذَلِكَ يَحْسُنُ الوَقْفُ عَلى ما قَبْلَهُ ويُسْتَأْنَفُ ما بَعْدَهُ.
وأمّا جَعْلُ ”كَذَلِكَ“ مِن تَوابِعِ الكَلامِ السّابِقِ فَلا يُناسِبُ نَظْمَ القُرْآنِ لِضَعْفِهِ.
والقَصْرُ المُسْتَفادُ مِن ”إنَّما“ قَصْرٌ إضافِيٌّ، أيْ لا يَخْشاهُ الجُهّالُ، وهم أهْلُ الشِّرْكِ فَإنَّ مِن أخَصِّ أوْصافِهِمْ أنَّهم أهْلُ الجاهِلِيَّةِ، أيْ عَدَمِ العِلْمِ، فالمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ هُمُ العُلَماءُ، والمُشْرِكُونَ جاهِلُونَ نُفِيَتْ عَنْهم خَشْيَةُ اللَّهِ. ثُمَّ إنَّ العُلَماءَ في مَراتِبِ الخَشْيَةِ مُتَفاوِتُونَ في الدَّرَجاتِ تَفاوُتًا كَثِيرًا. وتَقْدِيمُ مَفْعُولِ ”يَخْشى“ عَلى فاعِلِهِ لِأنَّ المَحْصُورَ فِيهِمْ خَشْيَةُ اللَّهِ هُمُ العُلَماءُ فَوَجَبَ تَأْخِيرُهُ عَلى سُنَّةِ تَأْخِيرِ المَحْصُورِ فِيهِ.
والمُرادُ بِالعُلَماءِ: العُلَماءُ بِاللَّهِ وبِالشَّرِيعَةِ، وعَلى حَسَبِ مِقْدارِ العِلْمِ في ذَلِكَ تَقْوى الخَشْيَةُ، فَأمّا العُلَماءُ بِعُلُومٍ لا تَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وثَوابِهِ وعِقابِهِ مَعْرِفَةً عَلى (p-٣٠٥)وجْهِها فَلَيْسَتْ عُلُومُهم بِمُقَرِّبَةٍ لَهم مِن خَشْيَةِ اللَّهِ، ذَلِكَ لِأنَّ العالِمَ بِالشَّرِيعَةِ لا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِ حَقائِقُ الأسْماءِ الشَّرْعِيَّةِ فَهو يَفْهَمُ مَواقِعَها حَقَّ الفَهْمِ ويَرْعاها في مَواقِعِها ويَعْلَمُ عَواقِبَها مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، فَهو يَأْتِي ويَدَعُ مِنَ الأعْمالِ ما فِيهِ مُرادُ اللَّهِ ومَقْصِدُ شَرْعِهِ، فَإنْ هو خالَفَ ما دَعَتْ إلَيْهِ الشَّرِيعَةُ في بَعْضِ الأحْوالِ أوْ في بَعْضِ الأوْقاتِ لِداعِي شَهْوَةٍ أوْ هَوًى أوْ تَعَجُّلِ نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ كانَ في حالِ المُخالَفَةِ مُوقِنًا أنَّهُ مُوَرَّطٌ فِيما لا تُحْمَدُ عُقْباهُ، فَذَلِكَ الإيقانُ لا يَلْبَثُ أنْ يَنْصَرِفَ بِهِ عَنْ الِاسْتِرْسالِ في المُخالَفَةِ بِالإقْلاعِ أوِ الإقْلالِ.
وغَيْرُ العالِمِ إنِ اهْتَدى بِالعُلَماءِ فَسَعْيُهُ مِثْلُ سَعْيِ العُلَماءِ وخَشْيَتُهُ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ خَشْيَةِ العُلَماءِ. قالَ الشَّيْخُأبُو مُحَمَّدِ بْنُ أبِي زَيْدٍ والعِلْمُ دَلِيلٌ عَلى الخَيْراتِ وقائِدٌ إلَيْها، وأقْرَبُ العُلَماءِ إلى اللَّهِ أوْلاهم بِهِ وأكْثَرُهم لَهُ خَشْيَةً وفِيما عِنْدَهُ رَغْبَةً.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ تَكْمِيلٌ لِلدَّلالَةِ عَلى اسْتِغْناءِ اللَّهِ تَعالى عَنْ إيمانِ المُشْرِكِينَ ولَكِنَّهُ يُرِيدُ لَهُمُ الخَيْرَ. ولَمّا كانَ في هَذا الوَصْفِ ضَرْبٌ مِنَ الإعْراضِ عَنْهم مِمّا قَدْ يُحْدِثُ يَأْسًا في نُفُوسِ المُقارِبِينَ مِنهم، أُلِّفَتْ قُلُوبُهم بِاتِّباعِ وصْفِ ”عَزِيزٌ“، بِوَصْفِ ”غَفُورٌ“ أيْ فَهو يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنهم إنْ تابُوا إلى ما دَعاهُمُ اللَّهُ إلَيْهِ عَلى أنَّ في صِفَةِ ”غَفُورٌ“ حَظًّا عَظِيمًا لِأحَدِ طَرَفَيِ القَصْرِ وهو العُلَماءُ، أيْ غَفُورٌ لَهم.
{"ayah":"وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَاۤبِّ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ كَذَ ٰلِكَۗ إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ غَفُورٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق