الباحث القرآني

تأمل كيف جاءت السماوات مجموعة في قوله: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلاّ اللَّهُ﴾ لما كان المراد نفي علم الغيب عن كل مَن هو في واحدة من السماوات أتى بها مجموعة. * (فصل) قوله تعالى: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرض الغَيْبَ إلاّ اللَّهُ﴾ قال الزمخشري: "هو استثناء منقطع جاء على لغة تميم لأن الله تعالى وإن صح الإخبار عنه بأنه في السماوات والأرض فإنما ذلك على المجاز لأنه مقدس عن الكون في المكان بخلاف غيره فإن الإخبار عنه أنه في السماء أو في الأرض ليس بمجاز وإنما هو حقيقة ولا يصح حمل اللفظ في حال واحد على الحقيقة والمجاز". قلت: وقوله على لغة تميم يريد أن من لغتهم أن الاستثناء المنقطع يجوز إتباعه كالمتصل إن صح الاستثناء به عن المستثنى به وقد صح هاهنا إذ يصح أن يقال لا يعلم الغيب إلا الله. قال ابن مالك: "والصحيح عندي أن الاستثناء في الآية متصل و (في) متعلقة بفعل غير استقر من الأفعال المنسوبة حقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين كذكر ويذكر ونحوه كأنه؟ قيل: لا يعلم من يذكر في السماوات والأرض الغيب إلا الله تعالى. قال: "ويجوز تعليق (في) بـ (استقر) مستند إلى مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه والأصل لا يعلم من استقر ذكره في السماوات والأرض الغيب إلا الله ثم حذف الفعل والمضاف واستتر المضمر لكونه مرفوعا وهذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة والمجاز في حال واحد وليس عندي ممتنعا لقولهم القلم أحد اللسانين والخال أحد الأبوين وقوله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيّ﴾ وقوله ﷺ: "الأيدي ثلاثة يد الله ويد المعطى ويد السائل" تم كلامه. فهذا كلام هذين الفاضلين في هذه الآية. وأنت ترى ما فيه من التكلف الظاهر الذي لا حاجة بالآية إليه بل الأمر فيها أوضح من ذلك الصواب في الاستثناء في هذه الآية والصواب أن الاستثناء متصل، وليس في الآية استعمال اللفظ في حقيقة ومجازة لأن من في السماوات والأرض هاهنا أبلغ صيغ العموم وليس المراد بها معينا فهي في قوة أحد المنفي بقولك: لا يعلم أحد الغيب إلا الله وأتى في هذا بذكر السماوات والأرض أحد المنفي بقولك: لا يعلم أحد الغيب إلا الله وأتى في هذا بذكر السماوات والأرض تحقيقا لإرادة العموم والإحاطة فالكلام مؤد معنى لا يعلم أحد الغيب إلا الله وإنما نشأ الوهم في ظنهم أن الظرف هاهنا للتخصيص والتقييد وليس كذلك بل لتحقيق الاستغراق والإحاطة فهو نظير الصفة في قوله تعالى: ﴿وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ فإنها ليست للتخصيص والتقييد بل لتحقيق الطيران المدلول عليه بـ طائر فكذلك قوله: ﴿مَن في السَّماواتِ والأرض﴾ لتحقيق الاستغراق المقصود بالنفي ومن تأمل الآية علم أنه لم يقصد بها إلا ذلك وقد قيل أنه لا يمتنع أن يطلق عليه تعالى أنه في السماوات كما أطلقه على نفسه وأطلق عليه رسوله قالوا ولا يلزم أن يكون هذا الإطلاق مجاز بل له منه الحقيقة التي تليق بجلاله ولا يشابهه فيها شيء من مخلوقاته وهذا كما يطلق عليه أنه سميع بصير عليم قدير حي مريد حقيقة ويطلق ذلك على خلقه حقيقة والحقيقة المختصة به لا تماثل الحقيقة التي لخلقه فتناول الإطلاق بطريق الحقيقة لهما لا يستلزم تماثلهما حتى يفر منه إلى المجاز. وأما قوله: "إن الظرف متعلق بفعل غير استقر من الأفعال المنسوبة إلى الله وإلى المخلوقين حقيقة كذكر ويذكر" إلى آخره فيقال: حذف عامل الظرف لا يجوز إلا إذا كان كونا عاما أو استقرارا عاما فإذا كان استقرار أو كونا خاصا مقيدا لم يجز حذفه وعلى هذا جاء مصرحا به في قوله تعالى فلما رآه مستقرا عنده لأن المراد به الاستقرار الذي هو الثبات واللزوم لا مطلق الحصول عنده فكيف يسوغ حذف عامل الظرف في موضع ليس بمعهود حذفه فيه وأبعد من هذا التقدير ما ذكره في التقدير الثاني أن عامل الظرف استقرار مضاف إلى ذكر محذوف استغنى به عن المضاف إليه والتقدير استقر ذكره فإن هذا لا نظير له وهو حذف لا دليل عليه والمضاف يجوز أن يستغنى به عن المضاف إليه بشرطين أن يكون مذكورا وأن يكون معلوم الوضع مدلولا عليه لئلا يلزم اللبس. وأما ادعاء أضافه شيء محذوف إلى شيء محذوف ثم يضاف المضاف إليه إلى شيء آخر محذوف من غير دلالة في اللفظ عليه فهذا مما يصان عنه الكلام الفصيح فضلا عن كلام رب العالمين. وأما قوله على أنه لا يمتنع إرادة الحقيقة والمجاز معا واستدلاله على ذلك بقولهم القلم أحد اللسانين فلا حاجة فيه لأن اللسانين اسم مثنى فهو قائم مقام النطق باسمين أريد بأحدهما الحقيقة وبالآخر المجاز وكذلك الخال أحد الأبوين وكذلك الأيدي ثلاثة. وأما قوله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيّ﴾ فالاستدلال به أبعد من هذا كله فإن الصلاة على النبي ﷺ الله وملائكته حقيقة بلا ريب والحقيقة المضافة إلى الله من ذلك لا تماثل الحقيقة المضافة إلى الملائكة كما إذا قيل الله ورسوله والمؤمنون يعلمون أن القرآن كلام الله لم يجز أن يقال إن هذا استعمال اللفظ في حقيقتة ومجازه وإن كان العلم المضاف إلى الله غير مماثل للعلم المضاف إلى الرسول والمؤمنين فتأمل هذه النكت البديعة ولله الحمد والمنة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب