الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَخْفَى غَيْبَهُ عَلَى الْخَلْقِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ لِئَلَّا يَأْمَنَ أَحَدٌ مِنْ عَبِيدِهِ مَكْرَهُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ حِينَ سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَ "مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَعْنَى: قُلْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّهُ بدل من "مَنْ" قاله الزجاج. الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا رُفِعَ مَا بَعْدَ "إِلَّا" لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا جَحْدٌ، كَقَوْلِهِ: مَا ذَهَبَ أَحَدٌ إِلَّا أَبُوكَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ نَصَبَ نَصَبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، يَعْنِي فِي الْكَلَامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُهُ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ صَدَّقَ مُنَجِّمًا، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكْفُرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي "الْأَنْعَامِ" [[راجع ج ٧ ص ١ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.]] مُسْتَوْفًى. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: "قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ مُنَجِّمٌ فَاعْتَقَلَهُ الْحَجَّاجُ، ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَاتٍ فَعَدَّهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: كَمْ فِي يَدِي مِنْ حَصَاةٍ؟ فَحَسَبَ الْمُنَجِّمُ ثُمَّ قَالَ: كَذَا، فَأَصَابَ. ثُمَّ اعْتَقَلَهُ فَأَخَذَ حَصَيَاتٍ لَمْ يَعُدُّهُنَّ فَقَالَ: كَمْ فِي يَدِي؟ فَحَسَبَ فَأَخْطَأَ ثُمَّ حَسَبَ فَأَخْطَأَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَظُنُّكَ لَا تَعْرِفُ عَدَدَهَا، قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنِّي لَا أُصِيبُ. قَالَ: فَمَا الْفَرْقُ؟ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ أَحْصَيْتَهُ فَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْغَيْبِ، وَهَذَا لَمْ تُحْصِهِ فَهُوَ غَيْبٌ وَ "لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي "آلِ عِمْرَانَ" [[راجع ج ٤ ص ١٧ طبعه أولى أو ثانية.]] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ هَذِهِ قِرَاءَةُ أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْهُمْ عَاصِمٌ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحُمَيْدٌ: "بَلْ أَدْرَكَ" مِنَ الْإِدْرَاكِ. وَقَرَأَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَأَخُوهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالْأَعْمَشُ [[لم تذكر كتب التفسير الأخرى الأعمش في هذه القراءة. ولعل هذه رواية أخرى عنه غير الرواية المتقدمة.]] "بَلْ ادَّرَكَ" غَيْرَ مَهْمُوزٍ مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ ابن محيصن: "بل أأدرك" عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "بَلَى" بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ "أَدَّارَكَ" بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ وَأَلِفٌ بَعْدَهَا، قَالَ النَّحَّاسُ: وَإِسْنَادُهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، هُوَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ يَرْفَعُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وزعم هرون الْقَارِئُ أَنَّ قِرَاءَةَ أُبَيٍّ "بَلْ تَدَارَكَ عِلْمُهُمْ" الْقِرَاءَةُ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، لِأَنَّ أَصْلَ "ادَّارَكَ" تدارك، أدغمت الدال في التاء وجئ بِأَلِفِ الْوَصْلِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى بَلْ تَكَامَلَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا كُلَّ مَا وُعِدُوا بِهِ مُعَايَنَةً فَتَكَامَلَ علمهم بِهِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّ الْمَعْنَى: بَلْ تَتَابَعَ عِلْمُهُمُ الْيَوْمَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالُوا تَكُونُ وَقَالُوا لا تكون. القراءة الثانية فيها قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ كَمُلَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ يُدْرَكُ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَيَعْلَمُونَهَا إِذَا عَايَنُوهَا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ عِلْمُهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُكَذِّبِينَ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّهُ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ بَعْدَهُ "بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ" أَيْ لَمْ يُدْرِكْ عِلْمُهُمْ عِلْمَ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: بَلْ ضَلَّ وَغَابَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهَا عِلْمٌ. وَالْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ: "بَلِ أدرك" فهي بمعنى "بَلِ ادَّارَكَ" وقد يجئ افْتَعَلَ وَتَفَاعَلَ بِمَعْنًى، وَلِذَلِكَ صُحِّحَ ازْدَوَجُوا حِيْنَ كَانَ بِمَعْنَى تَزَاوَجُوا. الْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: لَيْسَ فِيهَا إِلَّا قَوْلٌ وَاحِدٌ يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، كَمَا تَقُولُ: أَأَنَا قَاتَلْتُكَ؟! فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَمْ يُدْرِكْ، وَعَلَيْهِ تَرْجِعُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ ابن عباس: "بلى ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ" أَيْ لَمْ يُدْرِكْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ كَأَنَّهُ وَجَّهَهُ إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ، كَقَوْلِكَ لِرَجُلٍ تُكَذِّبُهُ: بَلَى لَعَمْرِي قَدْ أَدْرَكْتَ السَّلَفَ فَأَنْتَ تَرْوِي مَا لَا أَرْوِي وَأَنْتَ تُكَذِّبُهُ. وَقِرَاءَةٌ سَابِعَةٌ: "بَلَ ادَّرَكَ" بِفَتْحِ اللَّامِ، عَدَلَ إِلَى الْفَتْحَةِ لِخِفَّتِهَا. وَقَدْ حُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ قُطْرُبٍ فِي "قُمِ اللَّيْلَ" فَإِنَّهُ عَدَلَ إِلَى الْفَتْحِ. وَكَذَلِكَ وَ (بِعَ الثَّوْبَ) وَنَحْوَهُ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكتاب: وقرى "بل أأدرك" بهمزتين "بل آأدرك" بِأَلِفٍ بَيْنَهُمَا "بَلَى أَأَدَّرَكَ" "أَمْ تَدَارَكَ" "أَمْ أَدَّرَكَ" فَهَذِهِ ثِنْتَا عَشْرَةَ قِرَاءَةً، ثُمَّ أَخَذَ يُعَلِّلُ وُجُوهَ الْقِرَاءَاتِ وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ فَمَا وجه قراءة "بل أأدرك" عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؟ قُلْتُ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِإِدْرَاكِ عِلْمِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ "أَمْ أَدَّرَكَ" وَ "أَمْ تَدَارَكَ" لِأَنَّهَا أَمِ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةِ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ "بَلَى أَأَدَّرَكَ" عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَمَعْنَاهُ بَلَى يَشْعُرُونَ مَتَى يُبْعَثُونَ، ثُمَّ أَنْكَرَ عِلْمَهُمْ بِكَوْنِهَا، وَإِذَا أَنْكَرَ عِلْمَهُمْ بِكَوْنِهَا لَمْ يَتَحَصَّلْ لَهُمْ شُعُورٌ وَقْتَ كَوْنِهَا، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوَقْتِ الْكَائِنِ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِكَوْنِ الْكَائِنِ. "فِي الْآخِرَةِ" فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ وَمَعْنَاهَا. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أَيْ فِي الدُّنْيَا. (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أَيْ بقلوبهم واحدهم عموم. وَقِيلَ: عَمٍ، وَأَصْلُهُ عَمْيُونَ حُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَلَمْ يَجُزْ تَحْرِيكُهَا لِثِقَلِ الْحَرَكَةِ فِيهَا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب