﴿وَٱلَّذِینَ لَا یَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا۟ بِٱللَّغۡوِ مَرُّوا۟ كِرَامࣰا﴾ [الفرقان ٧٢]
عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ:
﴿والَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾قالَ: لا يُمالِئُونَ أهْلَ الشِّرْكِ عَلى شِرْكِهِمْ ولا يُخالِطُونَهُمْ، ونَحْوُهُ عَنِ الضَّحّاكِ.
وقال محمد ابن الحنفية: "الزور هاهنا الغناء"، وقاله ليث عن مجاهد.
وقال الكلبي: لا يحضرون مجالس الباطل.
واللغو في اللغة: كل ما يلغى ويطرح، والمعنى: لا يحضرون مجالس الباطل، وإذا مروا بكل ما يلغى من قول وعمل أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه أو يميلوا إليه.
ويدخل في هذا: أعياد المشركين، كما فسرها به السلف، والغناء، وأنواع الباطل كلها.
قال الزجاج: "لا يجالسون أهل المعاصي، ولا يمالئونهم عليها، ومروا مر الكرام الذين لا يرضون باللغو، لأنهم يكرمون أنفسهم عن الدخول فيه، والاختلاط بأهله".
وقد روى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: مَرَّ بِلَهْوٍ فأعرض عنه، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"إنْ أصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيمًا"
وقد أثنى الله سبحانه على من أعرض عن اللغو إذا سمعه فقال:
﴿وَإذا سَمِعُوا اللغو أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكُمْ﴾ [القصص: ٥٥].
وهذه الآية، وإن كان سبب نزولها خاصًا، فمعناها عام، متناول لكل من سمع لغوًا فأعرض عنه، وقال بلسانه أو بقلبه لأصحابه: "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم".
وتأمل كيف قال سبحانه
﴿لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ولم يقل: بالزور، لأن يشهدون بمعنى: يحضرون. فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور، فكيف بالتكلم به، وفعله؟
والغناء من أعظم الزور.
والزور: يقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل، وعلى العين نفسها كما في حديث معاوية لما أخذ قصة من شعر يوصل به، فقال: "هذا الزور"
فالزور: القول، والفعل، والمحل.
وأصل اللفظة من الميل، ومنه الزور بالفتح، ومنه: زرت فلانا، إذا ملت إليه، وعدلت إليه، فالزور: ميل عن الحق الثابت إلى الباطل الذي لا حقيقة له قولًا وفعلًا.
* (فصل)
وَقَوْلِهِ:
﴿وَإذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا﴾قالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الحَنَفِيَّةِ: هو الغِناءُ، وقالَ الحَسَنُ أوْ غَيْرُهُ: أكْرَمُوا نُفُوسَهم عَنْ سَماعِهِ.
قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الغِناءُ يُنْبِتُ النِّفاقَ في القَلْبِ كَما يُنْبِتُ الماءُ البَقْلَ، وهَذا كَلامُ عارِفٍ بِأثَرِ الغِناءِ وثَمَرَتِهِ، فَإنَّهُ ما اعْتادَهُ أحَدٌ إلّا نافَقَ قَلْبُهُ وهو لا يَشْعُرُ، ولَوْ عَرَفَ حَقِيقَةَ النِّفاقِ وغايَتَهُ لَأبْصَرَهُ في قَلْبِهِ، فَإنَّهُ ما اجْتَمَعَ في قَلْبِ عَبْدٍ قَطُّ مَحَبَّةُ الغِناءِ ومَحَبَّةُ القُرْآنِ إلّا طَرَدَتْ إحْداهُما الأُخْرى، وقَدْ شاهَدْنا نَحْنُ وغَيْرُنا ثِقَلَ القُرْآنِ عَلى أهْلِ الغِناءِ وسَماعِهِ، وتَبَرُّمَهم بِهِ، وصِياحَهم بِالقارِئِ إذا طَوَّلَ عَلَيْهِمْ، وعَدَمَ انْتِفاعِ قُلُوبِهِمْ بِما يَقْرَؤُهُ، فَلا تَتَحَرَّكُ ولا تَطْرَبُ، ولا تُهَيِّجُ مِنها بَواعِثَ الطَّلَبِ، فَإذا جاءَ قُرْآنُ الشَّيْطانِ فَلا إلَهَ إلّا اللَّهُ، كَيْفَ تَخْشَعُ مِنهُمُ الأصْواتُ، وتَهْدَأُ الحَرَكاتُ، وتَسْكُنُ القُلُوبُ وتَطْمَئِنُ، ويَقَعُ البُكاءُ والوَجْدُ، والحَرَكَةُ الظّاهِرَةُ والباطِنَةُ، والسَّماحَةُ بِالأثْمانِ والثِّيابِ، وطِيبُ السَّهَرِ، وتَمَنِّي طُولِ اللَّيْلِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ هَذا نِفاقًا فَهو آخِيَّةُ النِّفاقِ وأساسُهُ.
تُلِيَ الكِتابُ فَأطْرَقُوا لا خِيفَةً ∗∗∗ لَكِنَّهُ إطْراقُ ساهٍ لاهِي
وَأتى الغِناءُ فَكالَذُّبابِ تَراقَصُوا ∗∗∗ واللَّهِ ما رَقَصُوا مِن أجْلِ اللَّهِ
دُفٌّ ومِزْمارٌ ونَغْمَةُ شاهِدٍ ∗∗∗ فَمَتى شَهِدْتَ عِبادَةً بِمَلاهِي
ثَقُلَ الكِتابُ عَلَيْهِمُ لَمّا رَأوْا ∗∗∗ تَقْيِيدَهُ بِأوامِرٍ ونَواهِي
وَعَلَيْهِمُ خَفَّ الغِنا لَمّا رَأوْا ∗∗∗ إطْلاقَهُ في اللَّهْوِ دُونَ مَناهِي
يا فِرْقَةً ما ضَرَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ∗∗∗ وجَنى عَلَيْهِ ومَلَّهُ إلّا هِي
سَمِعُوا لَهُ رَعْدًا وبَرْقًا إذْ حَوى ∗∗∗ زَجْرًا وتَخْوِيفًا بِفِعْلِ مَناهِي
وَرَأوْهُ أعْظَمَ قاطِعٍ لِلنَّفْسِ عَنْ ∗∗∗ شَهَواتِها يا ويْحَها المُتَناهِي
وَأتى السَّماعُ مُوافِقًا أغْراضَها ∗∗∗ فَلِأجْلِ ذاكَ غَدًا عَظِيمَ الجاهِ
أيْنَ المُساعِدُ لِلْهَوى مِن قاطَعٍ ∗∗∗ أسْبابَهُ عِنْدَ الجَهُولِ السّاهِي
إنْ لَمْ يَكُنْ خَمْرَ الجُسُومِ فَإنَّهُ ∗∗∗ خَمْرُ العُقُولِ مُماثِلٌ ومُضاهِي
فانْظُرْ إلى النَّشْوانِ عِنْدَ شَرابِهِ ∗∗∗ وانْظُرْ إلى النَّشْوانِ عِنْدَ تَلاهِي
وانْظُرْ إلى تَمْزِيقِ ذا أثْوابَهُ ∗∗∗ مِن بَعْدِ تَمْزِيقِ الفُؤادِ اللّاهِي
فاحْكم بِأيِّ الخَمْرَتَيْنِ أحَقُّ بِال ∗∗∗ تَّحْرِيمِ والتَّأْثِيمِ عِنْدَ اللَّهِ
وَكَيْفَ يَكُونُ السَّماعُ الَّذِي يَسْمَعُهُ العَبْدُ بِطَبْعِهِ وهَواهُ أنْفَعَ لَهُ مِنَ الَّذِي يَسْمَعُهُ بِاللَّهِ ولِلَّهِ وعَنِ اللَّهِ؟