الباحث القرآني

﴿وما نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إلّا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ فَمَن آمَنَ وأصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ العَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ . عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هم يَصْدِفُونَ﴾ [الأنعام: ٤٦] . والمُناسَبَةُ أنَّ صُدُوفَهم وإعْراضَهم كانُوا يَتَعَلَّلُونَ لَهُ بِأنَّهم يَرُومُونَ آياتٍ عَلى وفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ وأنَّهم لا يَقْنَعُونَ بِآياتِ الوَحْدانِيَّةِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسراء: ٩٠] إلى آخِرِ ما حُكِيَ عَنْهم في تِلْكَ الآيَةِ، فَأنْبَأهُمُ اللَّهُ بِأنَّ إرْسالَ الرُّسُلِ لِلتَّبْلِيغِ والتَّبْشِيرِ والنِّذارَةِ لا لِلتَّلَهِّي بِهِمْ بِاقْتِراحِ الآياتِ. وعَبَّرَ بِـ (نُرْسِلُ) دُونَ أرْسَلْنا لِلدَّلالَةِ عَلى تَجَدُّدِ الإرْسالِ مُقارِنًا لِهَذَيْنِ الحالَيْنِ، أيْ ما أرْسَلْنا وما نُرْسِلُ. فَقَوْلُهُ ﴿مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ﴾ حالانِ مُقَدَّرَتانِ بِاعْتِبارِ المُسْتَقْبَلِ ومُحَقَّقَتانِ بِاعْتِبارِ الماضِي. والِاسْتِثْناءُ مِن أحْوالٍ مَحْذُوفَةٍ، أيْ ما أرْسَلْناهم إلّا في حالَةِ كَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ. والقَصْرُ إضافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلى مَن زَعَمُوا أنَّهُ إنْ لَمْ يَأْتِهِمْ بِآيَةٍ كَما اقْتَرَحُوا فَلَيْسَ بِرَسُولٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ، فَهو قَصْرُ قَلْبٍ؛ أيْ لَمْ نُرْسِلِ الرَّسُولَ لِلْإعْجابِ بِإظْهارِ خَوارِقِ العاداتِ. وكَنّى بِالتَّبْشِيرِ والإنْذارِ عَنِ التَّبْلِيغِ لِأنَّ التَّبْلِيغَ يَسْتَلْزِمُ الأمْرَيْنِ وهُما التَّرْغِيبُ والتَّرْهِيبُ، فَحَصَلَ بِهَذِهِ الكِنايَةِ إيجازٌ إذِ اسْتَغْنى بِذِكْرِ اللّازِمِ عَنِ الجَمْعِ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَلْزُومِ. والفاءُ في قَوْلِهِ فَمَن آمَنَ لِلتَّفْرِيعِ، أيْ فَمَن آمَنَ مِنَ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ فَلا خَوْفٌ إلَخْ. (p-٢٣٩)و(مِنَ) الأظْهَرُ أنَّها مَوْصُولَةٌ كَما يُرَجِّحُهُ عَطْفُ والَّذِينَ كَذَّبُوا عَلَيْهِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً لا سِيَّما وهي في مَعْنى التَّفْصِيلِ لِقَوْلِهِ ﴿مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ﴾ . فَإنْ كانَتْ شَرْطِيَّةً فاقْتِرانُ فَلا خَوْفٌ بِالفاءِ بَيِّنٌ، وإنْ جُعِلَتْ مَوْصُولَةً فالفاءُ لِمُعامَلَةِ المَوْصُولِ مُعامَلَةَ الشَّرْطِ، والِاسْتِعْمالانِ مُتَقارِبانِ. ومَعْنى (أصْلَحَ) فَعَلَ الصَّلاحَ، وهو الطّاعَةُ لِلَّهِ فِيما أمَرَ ونَهى، لِأنَّ اللَّهَ ما أرادَ بِشَرْعِهِ إلّا إصْلاحَ النّاسِ كَما حَكى عَنْ شُعَيْبٍ ﴿إنْ أُرِيدُ إلّا الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ﴾ [هود: ٨٨] . والمَسُّ حَقِيقَتُهُ مُباشَرَةُ الجِسْمِ بِاليَدِ وهو مُرادِفُ اللَّمْسِ والجَسِّ، ويُسْتَعارُ لِإصابَةِ جِسْمٍ جِسْمًا آخَرَ كَما في هَذِهِ الآيَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [المائدة: ٧٣] في سُورَةِ المائِدَةِ. ويُسْتَعارُ أيْضًا لِلتَّكَيُّفِ بِالأحْوالِ كَما يُقالُ: بِهِ مَسٌّ مِنَ الجُنُونِ. قالَ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهم طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإذا هم مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠١] . وجَمَعَ الضَّمائِرَ العائِدَةَ إلى (مِن) مُراعاةً لِمَعْناها، وأمّا إفْرادُ فِعْلِ (آمَنَ) و(أصْلَحَ) فَلِرَعْيِ لَفْظِها. والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، و(ما) مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ. والفِسْقُ حَقِيقَتُهُ الخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الخَيْرِ. وشاعَ اسْتِعْمالُهُ في القُرْآنِ في مَعْنى الكُفْرِ وتَجاوُزِ حُدُودِ اللَّهِ تَعالى. وتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وجِيءَ بِخَبَرِ (كانَ) جُمْلَةً مُضارِعَةً لِلْإشارَةِ إلى أنَّ فِسْقَهم كانَ مُتَجَدِّدًا مُتَكَرِّرًا، عَلى أنَّ الإتْيانَ بِـ (كانَ) أيْضًا لِلدَّلالَةِ عَلى الِاسْتِمْرارِ لِأنَّ (كانَ) إذا لَمْ يُقْصَدْ بِها انْقِضاءُ خَبَرِها فِيما مَضى دَلَّتْ عَلى اسْتِمْرارِ الخَبَرِ بِالقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب