الباحث القرآني

﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ . جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، انْتَقَلَ بِها أُسْلُوبُ الكَلامِ مِن مُخاطَبَةِ اللَّهِ المُشْرِكِينَ عَلى لِسانِ الرَّسُولِ ﷺ إلى إخْبارٍ عامٍّ كَسائِرِ أخْبارِ القُرْآنِ. أظْهَرَ اللَّهُ دَلِيلًا عَلى صِدْقِ الرَّسُولِ فِيما جاءَ بِهِ بَعْدَ شَهادَةِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي في قَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ١٩]، فَإنَّهُ لَمّا جاءَ ذِكْرُ القُرْآنِ هُنالِكَ وقَعَ هَذا الِانْتِقالُ لِلِاسْتِشْهادِ عَلى صِدْقِ القُرْآنِ المُتَضَمِّنِ صِدْقَ مَن جاءَ بِهِ، لِأنَّهُ هو الآيَةُ المُعْجِزَةُ العامَّةُ الدّائِمَةُ. وقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أنَّ الواحِدِيَّ ذَكَرَ أنَّ رُؤَساءَ المُشْرِكِينَ قالُوا لِلنَّبِيءِ ﷺ: قَدْ سَألْنا عَنْكَ اليَهُودَ والنَّصارى فَزَعَمُوا أنْ لَيْسَ عِنْدَهم ذِكْرُكَ ولا صِفَتُكُ إلى آخِرِهِ؛ فَإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ التَّعَرُّضُ لِأهْلِ الكِتابِ هُنا إبْطالًا لِما قالُوهُ أنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهم ذِكْرُ النَّبِيءِ ولا صِفَتُهُ، أيْ فَهم (p-١٧١)وأنْتُمْ سَواءٌ في جَحْدِ الحَقِّ، وإنْ لَمْ تَجْعَلِ الآيَةَ مُشِيرَةً إلى ما ذُكِرَ في أسْبابِ النُّزُولِ تَعَيَّنَ أنْ تَجْعَلَ المُرادَ بِـ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ بَعْضَ أهْلِ الكِتابِ، وهُمُ المُنْصِفُونَ مِنهم مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ ومُخَيْرِيقٍ، فَقَدْ كانَ المُشْرِكُونَ يُقَدِّرُونَ أهْلَ الكِتابِ ويَثِقُونَ بِعِلْمِهِمْ ورُبَّما اتَّبَعَ بَعْضُ المُشْرِكِينَ دِينَ أهْلِ الكِتابِ وأقْلَعُوا عَنِ الشِّرْكِ مِثْلِ ورَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَلِذَلِكَ كانَتْ شَهادَتُهم في مَعْرِفَةِ صِحَّةِ الدِّينِ مَوْثُوقًا بِها عِنْدَهم إذا أدَّوْها ولَمْ يَكْتُمُوها. وفِيهِ تَسْجِيلٌ عَلى أهْلِ الكِتابِ بِوُجُوبِ أداءِ هَذِهِ الشَّهادَةِ إلى النّاسِ. فالضَّمِيرُ المَنصُوبُ في قَوْلِهِ يَعْرِفُونَهُ عائِدٌ إلى القُرْآنِ الَّذِي في قَوْلِهِ: ﴿وأُوحِيَ إلَيَّ هَذا القُرْآنُ﴾ [الأنعام: ١٩] . والمُرادُ أنَّهم يَعْرِفُونَ أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ ويَعْرِفُونَ ما تَضَمَّنَهُ مِمّا أخْبَرَتْ بِهِ كُتُبُهم، ومِن ذَلِكَ رِسالَةُ مَن جاءَ بِهِ، وهو مُحَمَّدٌ ﷺ لِما في كُتُبِهِمْ مِنَ البِشارَةِ بِهِ. والمُرادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ عُلَماءُ اليَهُودِ والنَّصارى كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ [الرعد: ٤٣] . والتَّشْبِيهُ في قَوْلِهِ: ﴿كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمُ﴾ تَشْبِيهُ المَعْرِفَةِ بِالمَعْرِفَةِ. فَوَجْهُ الشَّبَهِ هو التَّحَقُّقُ والجَزْمُ بِأنَّهُ هو الكِتابُ المَوْعُودُ بِهِ، وإنَّما جُعِلَتِ المَعْرِفَةُ المُشَبَّهُ بِها هي مَعْرِفَةَ أبْنائِهِمْ لِأنَّ المَرْءَ لا يَضِلُّ عَنْ مَعْرِفَةِ شَخْصِ ابْنِهِ وذاتِهِ إذا لَقِيَهُ وأنَّهُ هو ابْنُهُ المَعْرُوفُ، وذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُلازَمَةِ الأبْناءِ آباءَهم عُرْفًا. وقِيلَ: إنَّ ضَمِيرَ (يَعْرِفُونَهُ) عائِدٌ إلى التَّوْحِيدِ المَأْخُوذِ مِن قَوْلِهِ ﴿إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ﴾ [الأنعام: ١٩]، وهَذا بِعِيدٌ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى النَّبِيءِ ﷺ مَعَ أنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِيما تَقَدَّمَ صَرِيحًا ولا تَأْوِيلًا. ويَقْتَضِي أنْ يَكُونَ المُخاطَبُ غَيْرَ الرَّسُولِ ﷺ وهو غَيْرُ مُناسِبٍ عَلى أنَّ في عَوْدِهِ إلى القُرْآنِ غُنْيَةً عَنْ ذَلِكَ مَعَ زِيادَةِ إثْباتِهِ بِالحُجَّةِ وهي القُرْآنُ. وقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٢] اسْتِئْنافٌ لِزِيادَةِ إيضاحِ تَصَلُّبِ المُشْرِكِينَ وإصْرارِهِمْ، فَهُمُ المُرادُ بِالَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم، كَما أُرِيدُوا بِنَظِيرِهِ السّابِقِ الواقِعِ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿لَيَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [الأنعام: ١٢] . فَهَذا مِنَ التَّكْرِيرِ لِلتَّسْجِيلِ وإقامَةِ الحُجَّةِ وقَطْعِ المَعْذِرَةِ، وأنَّهم مُصِرُّونَ عَلى الكُفْرِ حَتّى ولَوْ شَهِدَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ (p-١٧٢)أهْلُ الكِتابِ، كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠] . وقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمْ أهْلُ الكِتابِ، أيِ الَّذِينَ كَتَمُوا الشَّهادَةَ، فَيَكُونُ ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا﴾ [الأنعام: ١٢] بَدَلًا مِنَ ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب