الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿قُلْ لِمَن ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ هَذا احْتِجاجٌ عَلَيْهِمْ وتَبْكِيتٌ لَهم. والمَعْنى: قُلْ لَهم هَذا القَوْلَ فَإنْ قالُوا فَقُلْ لِلَّهِ، وإذا ثَبَتَ أنَّ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ إمّا بِاعْتِرافِهِمْ، أوْ بِقِيامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فاللَّهُ قادِرٌ عَلى أنْ يُعاجِلَهم بِالعِقابِ، ولَكِنَّهُ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ: أيْ وعَدَ بِها فَضْلًا مِنهُ وتَكَرُّمًا، وذِكْرُ النَّفْسِ هُنا عِبارَةٌ عَنْ تَأكُّدِ وعْدِهِ وارْتِفاعِ الوَسائِطِ دُونَهُ، وفي الكَلامِ تَرْغِيبٌ لِلْمُتَوَلِّينَ عَنْهُ إلى الإقْبالِ إلَيْهِ وتَسْكِينِ خَواطِرِهِمْ بِأنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبادِهِ لا يُعاجِلُهم بِالعُقُوبَةِ وأنَّهُ يَقْبَلُ مِنهُمُ الإنابَةَ والتَّوْبَةَ، ومِن رَحْمَتِهِ لَهم إرْسالُ الرُّسُلِ، وإنْزالُ الكُتُبِ، ونَصْبُ الأدِلَّةِ. قَوْلُهُ: ﴿لَيَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ اللّامُ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. قالَ الفَرّاءُ وغَيْرُهُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَمامُ الكَلامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: الرَّحْمَةَ ويَكُونُ ما بَعْدَها مُسْتَأْنَفًا عَلى جِهَةِ التَّبْيِينِ فَيَكُونُ المَعْنى لَيَجْمَعَنَّكم لَيُمْهِلَنَّكم ولَيُؤَخِّرَنَّ جَمْعَكم. وقِيلَ: المَعْنى: لَيَجْمَعَنَّكم في القُبُورِ إلى اليَوْمِ الَّذِي أنْكَرْتُمُوهُ. وقِيلَ: " إلى " بِمَعْنى في: أيْ لَيَجْمَعَنَّكم في يَوْمِ القِيامَةِ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَوْضِعُ لَيَجْمَعَنَّكم النَّصْبَ عَلى البَدَلِ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَتَكُونُ اللّامُ بِمَعْنى أنْ. والمَعْنى: كَتَبَ رَبُّكم عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أنْ يَجْمَعَنَّكم كَما قالُوا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ بَدا لَهم مِن بَعْدِ ما رَأوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ [يوسف: ٣٥] أيْ أنْ يَسْجِنُوهُ، وقِيلَ: إنَّ جُمْلَةَ لَيَجْمَعَنَّكم مَسُوقَةٌ لِلتَّرْهِيبِ بَعْدَ التَّرْغِيبِ، ولِلْوَعِيدِ بَعْدَ الوَعْدِ: أيْ إنْ أمْهَلَكم بِرَحْمَتِهِ فَهو مُجازِيكم بِجَمْعِكم في مُعاقَبَةِ مَن يَسْتَحِقُّ عُقُوبَتَهُ مِنَ العُصاةِ، والضَّمِيرُ في ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ لِلْيَوْمِ أوْ لِلْجَمْعِ. قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ . قالَ الزَّجّاجُ: إنَّ المَوْصُولَ مُرْتَفِعٌ عَلى الِابْتِداءِ، وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ كَما تَقُولُ: الَّذِي يُكْرِمُنِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، فالفاءُ لِتَضَمُّنِ المُبْتَدَأِ مَعْنى الشَّرْطِ. وقالَ الأخْفَشُ: إنْ شِئْتَ كانَ " الَّذِينَ " في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى البَدَلِ مِنَ الكافِ والمِيمِ في لَيَجْمَعَنَّكم أيْ لَيَجْمَعَنَّ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم، وأنْكَرَهُ المُبَرِّدُ وزَعَمَ أنَّهُ خَطَأٌ، لِأنَّهُ لا يُبْدَلُ مِنَ المُخاطِبِ ولا مِنَ المُخاطَبِ. لا يُقالُ: مَرَرْتُ بِكَ زَيْدٌ ولا مَرَرْتَ بِي زِيدٌ، وقِيلَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ " الَّذِينَ " مَجْرُورًا عَلى البَدَلِ مِنَ المُكَذِّبِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم أوْ عَلى النَّعْتِ لَهم، وقِيلَ: إنَّهُ مُنادى وحَرْفُ النِّداءِ مُقَدَّرٌ. قَوْلُهُ: ﴿ولَهُ ما سَكَنَ في اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ أيْ لِلَّهِ، وخَصَّ السّاكِنَ بِالذِّكْرِ، لِأنَّ ما يَتَّصِفُ بِالسُّكُونِ أكْثَرُ مِمّا يَتَّصِفُ بِالحَرَكَةِ، وقِيلَ: المَعْنى: ما سَكَنَ فِيهِما أوْ تَحَرَّكَ فاكْتَفى بِأحَدِ الضِّدَّيْنِ عَنِ الآخَرِ، وهَذا مِن جُمْلَةِ الِاحْتِجاجِ عَلى الكَفَرَةِ. قَوْلُهُ: ﴿قُلْ أغَيْرَ اللَّهِ أتَّخِذُ ولِيًّا﴾ الِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ، قالَ لَهم: ذَلِكَ لَمّا دَعَوْهُ إلى عِبادَةِ الأصْنامِ، ولَمّا كانَ الإنْكارُ لِاتِّخاذِ غَيْرِ اللَّهِ ولِيًّا، لا لِاتِّخاذِ الوَلِيِّ مُطْلَقًا دَخَلَتِ الهَمْزَةُ عَلى المَفْعُولِ لا عَلى الفِعْلِ. والمُرادُ بِالوَلِيِّ هُنا: المَعْبُودُ: أيْ كَيْفَ أتَّخِذُ غَيْرَ اللَّهِ مَعْبُودًا ؟ و﴿فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ مَجْرُورٌ عَلى أنَّهُ نَعَتٌ لِاسْمِ اللَّهِ، وأجازَ الأخْفَشُ الرَّفْعَ عَلى إضْمارِ مُبْتَدَأٍ، وأجازَ الزَّجّاجُ النَّصْبَ عَلى المَدْحِ، وأجازَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ نَصْبَهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: أتْرُكُ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ ؟ ! . قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ العَيْنِ في الأوَّلِ، وضَمِّها وفَتْحِ العَيْنِ في الثّانِي: أيْ يَرْزُقُ ولا يُرْزَقُ، وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ والأعْمَشُ بِفَتْحِ الياءِ في الثّانِي وفَتْحِ العَيْنِ، وقُرِئَ بِفَتْحِ الياءِ والعَيْنِ في الأوَّلِ وضَمِّها وكَسْرِ العَيْنِ في الثّانِي عَلى أنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلى الوَلِيِّ المَذْكُورِ، وخَصَّ الإطْعامَ دُونَ غَيْرِهِ مِن ضُرُوبِ الإنْعامِ لِأنَّ الحاجَةَ إلَيْهِ أمَسُّ. قَوْلُهُ: ﴿قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أكُونَ أوَّلَ مَن أسْلَمَ﴾ أمَرَهُ سُبْحانَهُ بَعْدَما تَقَدَّمَ مِنَ اتِّخاذِ غَيْرِ اللَّهِ ولِيًّا أنْ يَقُولَ لَهم: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِأنْ يَكُونَ أوَّلَ مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ مِن قَوْمِهِ، وأخْلَصَ مِن أُمَّتِهِ، وقِيلَ: مَعْنى أسْلَمَ اسْتَسْلَمَ لِأمْرِ اللَّهِ، ثُمَّ نَهاهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أنْ يَكُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ. والمَعْنى: أُمِرْتُ بِأنْ أكُونَ أوَّلَ مَن أسْلَمَ ونُهِيتُ عَنِ الشِّرْكِ: أيْ يَقُولُ لَهم: هَذا. ثُمَّ أمَرَهُ أنْ يَقُولَ: ﴿إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أيْ إنْ عَصَيْتُهُ بِعِبادَةِ غَيْرِهِ أوْ مُخالَفَةِ أمْرِهِ أوْ نَهْيِهِ. والخَوْفُ: تَوَقُّعُ المَكْرُوهِ، وقِيلَ: هو بِمَعْنى العِلْمِ: أيْ إنِّي أعْلَمُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي أنَّ لِي عَذابًا عَظِيمًا. قَوْلُهُ: ﴿مَن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ . قَرَأ أهْلُ المَدِينَةِ وأهْلُ مَكَّةَ وابْنُ عامِرٍ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ: أيْ مَن يُصْرَفْ عَنْهُ العَذابُ، واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ سِيبَوَيْهِ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ وهو (p-٤١٢)اخْتِيارُ أبِي حاتِمٍ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ لِلَّهِ. ومَعْنى يَوْمَئِذٍ يَوْمَ العَذابِ العَظِيمِ ﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ اللَّهُ أيْ نَجّاهُ وأنْعَمَ عَلَيْهِ وأدْخَلَهُ الجَنَّةَ، والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى الصَّرْفِ أوْ إلى الرَّحْمَةِ: أيْ فَذَلِكَ الصَّرْفُ أوِ الرَّحْمَةُ ﴿الفَوْزُ المُبِينُ﴾ أيِ الظّاهِرُ الواضِحُ، وقَرَأ أُبَيٌّ " مَن يَصْرِفِ اللَّهُ عَنْهُ " . قَوْلُهُ: ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ أيْ إنْ يُنْزِلِ اللَّهُ بِكَ ضُرًّا مِن فَقْرٍ أوْ مَرَضٍ ﴿فَلا كاشِفَ لَهُ إلّا هُوَ﴾ أيْ لا قادِرَ عَلى كَشْفِهِ سِواهُ ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾ مِن رَخاءٍ أوْ عافِيَةٍ ﴿فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ومِن جُمْلَةِ ذَلِكَ المَسِّ بِالشَّرِّ والخَيْرِ. قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ﴾ القَهْرُ: الغَلَبَةُ، والقاهِرُ: الغالِبُ، وأُقْهِرَ الرَّجُلُ: إذا صارَ مَقْهُورًا ذَلِيلًا، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎تَمَنّى حُصَيْنٌ أنْ يَسُودَ خُزاعَةَ فَأمْسى حُصَيْنٌ قَدْ أذَلَّ وأقْهَرا ومَعْنى: ﴿فَوْقَ عِبادِهِ﴾ فَوْقِيَّةُ الِاسْتِعْلاءِ بِالقَهْرِ والغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ، لا فَوْقِيَّةَ المَكانِ كَما تَقُولُ: السُّلْطانُ فَوْقَ رَعِيَّتِهِ: أيْ بِالمَنزِلَةِ والرِّفْعَةِ. وفِي القَهْرِ مَعْنًى زائِدٌ لَيْسَ في القُدْرَةِ، وهو مَنعُ غَيْرِهِ عَنْ بُلُوغِ المُرادِ ﴿وهُوَ الحَكِيمُ﴾ في أمْرِهِ الخَبِيرُ بِأفْعالِ عِبادِهِ. قَوْلُهُ: ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً﴾ أيُّ: مُبْتَدَأٌ، وأكْبَرُ: خَبَرُهُ، وشَهادَةً تَمْيِيزٌ، والشَّيْءُ يُطْلَقُ عَلى القَدِيمِ والحادِثِ، والمُحالِ والمُمْكِنِ. والمَعْنى: أيُّ شَهِيدٍ أكْبَرُ شَهادَةً، فَوُضِعَ شَيْءٌ مَوْضِعَ شَهِيدٍ، وقِيلَ: إنَّ " شَيْءٍ " هُنا مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ اسْمِ اللَّهِ. والمَعْنى: اللَّهُ أكْبَرُ شَهادَةً: أيِ انْفِرادُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وقِيامُ البَراهِينِ عَلى تَوْحِيدِهِ أكْبَرُ شَهادَةً وأعْظَمُ فَهو شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكم، وقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ هو الجَوابُ، لِأنَّهُ إذا كانَ الشَّهِيدُ بَيْنَهُ وبَيْنَهم كانَ أكْبَرُ شَهادَةً لَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، وقِيلَ: إنَّهُ قَدْ تَمَّ الجَوابُ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ يَعْنِي اللَّهُ أكْبَرُ شَهادَةً، ثُمَّ ابْتَدَأ فَقالَ: ﴿شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ أيْ هو شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكم. قَوْلُهُ: ﴿وأُوحِيَ إلَيَّ هَذا القُرْآنُ لِأُنْذِرَكم بِهِ ومَن بَلَغَ﴾ أيْ أوْحى اللَّهُ إلَيَّ هَذا القُرْآنَ الَّذِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكم لِأجْلِ أنْ أُنْذِرَكم بِهِ وأُنْذِرَ بِهِ مَن بَلَغَ إلَيْهِ: أيْ كُلُّ مَن بَلَغَ إلَيْهِ مِن مَوْجُودٍ ومَعْدُومٍ سَيُوجَدُ في الأزْمِنَةِ المُسْتَقْبَلَةِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى شُمُولِ أحْكامِ القُرْآنِ لِمَن سَيُوجَدُ كَشُمُولِها لِمَن قَدْ كانَ مَوْجُودًا وقْتَ النُّزُولِ ما لا يَحْتاجُ مَعَهُ إلى تِلْكَ الخُزَعْبَلاتِ المَذْكُورَةِ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ، وقَرَأ أبُو نَهِيكٍ " وأوْحى " عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ، وقَرَأ مَن عَداهُ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ. قَوْلُهُ: ﴿أئِنَّكم لَتَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى﴾ الِاسْتِفْهامُ لِلتَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ بِهَمْزَتَيْنِ عَلى الأصْلِ أوْ بِقَلْبِ الثّانِيَةِ، وأمّا مَن قَرَأ عَلى الخَبَرِ فَقَدْ حَقَّقَ عَلَيْهِمْ شِرْكَهم، وإنَّما قالَ: آلِهَةً أُخْرى لِأنَّ الآلِهَةَ جَمْعٌ والجَمْعُ يَقَعُ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ، كَذا قالَ الفَرّاءُ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [الأعراف: ١٨٠] وقالَ: ﴿فَما بالُ القُرُونِ الأُولى﴾ [طه: ٥١] ﴿قُلْ لا أشْهَدُ﴾ أيْ فَأنا لا أشْهَدُ مَعَكم فَحُذِفَ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ لِكَوْنِ هَذِهِ الشَّهادَةِ باطِلَةً، ومِثْلُهُ ﴿فَإنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٠] و" ما " في ﴿مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ مَوْصُولَةٌ أوْ مَصْدَرِيَّةٌ: أيْ مِنَ الأصْنامِ الَّتِي تَجْعَلُونَها آلِهَةً، أوْ مِن إشْراكِكم بِاللَّهِ. قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمُ﴾ الكِتابُ لِلْجِنْسِ فَيَشْمَلُ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ وغَيْرَهُما،: أيْ يَعْرِفُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - . قالَ بِهِ جَماعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الزَّجّاجُ، وقِيلَ: إنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إلى الكِتابِ: أيْ يَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةً مُحَقَّقَةً بِحَيْثُ لا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ مِنهُ شَيْءٌ، و﴿كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمُ﴾ بَيانٌ لِتَحَقُّقِ تِلْكَ المَعْرِفَةِ وكَمالِها وعَدَمِ وُجُودِ شَكٍّ فِيها، فَإنَّ مَعْرِفَةَ الآباءِ لِلْأبْناءِ هي البالِغَةُ إلى غايَةِ الإتْقانِ إجْمالًا وتَفْصِيلًا. قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ ﴿فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ ودُخُولُ الفاءِ في الخَبَرِ لِتَضَمُّنِ المُبْتَدَأِ مَعْنى الشَّرْطِ: وقِيلَ: إنَّ المَوْصُولَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وقِيلَ: هو نَعْتٌ لِلْمَوْصُولِ الأوَّلِ. وعَلى الوَجْهَيْنِ الأخِيرَيْنِ يَكُونُ ﴿فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ مَعْطُوفًا عَلى جُمْلَةِ ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ . والمَعْنى عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ أنَّ الكُفّارَ الخاسِرِينَ لِأنْفُسِهِمْ بِعِنادِهِمْ وتَمَرُّدِهِمْ لا يُؤْمِنُونَ بِما جاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، وعَلى الوَجْهَيْنِ الأخِيرَيْنِ أنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتاهُمُ اللَّهُ الكِتابَ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم بِسَبَبِ ما وقَعُوا فِيهِ مِنَ البُعْدِ عَنِ الحَقِّ وعَدَمِ العَمَلِ بِالمَعْرِفَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ لَهم فَهم لا يُؤْمِنُونَ. قَوْلُهُ: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أيِ اخْتَلَقَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ فَقالَ: إنَّ في التَّوْراةِ أوِ الإنْجِيلِ ما لَمْ يَكُنْ فِيهِما ﴿أوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ﴾ الَّتِي يَلْزَمُهُ الإيمانُ بِها مِنَ المُعْجِزَةِ الواضِحَةِ البَيِّنَةِ، فَجَمَعَ بَيْنَ كَوْنِهِ كاذِبًا عَلى اللَّهِ ومُكَذِّبًا بِما أمَرَهُ اللَّهُ بِالإيمانِ بِهِ، ومَن كانَ هَكَذا فَلا أحَدَ مِن عِبادِ اللَّهِ أظْلَمُ مِنهُ، والضَّمِيرُ في ﴿إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ﴾ لِلشَّأْنِ. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ قالَ: إنّا نَجِدُ في التَّوْراةِ أنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ، ثُمَّ جَعَلَ مِائَةَ رَحْمَةٍ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ، ثُمَّ خَلَقَ الخَلْقَ فَوَضَعَ بَيْنَهم رَحْمَةً واحِدَةً وأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وتِسْعِينَ رَحْمَةً فَبِها يَتَراحَمُونَ، وبِها يَتَعاطَفُونَ، وبِها يَتَباذَلُونَ، وبِها يَتَزاوَرُونَ وبِها تَحِنُّ النّاقَةُ، وبِها تُنْتِجُ البَقَرَةُ، وبِها تَيْعَرُ الشّاةُ، وبِها تَتابَعُ الطَّيْرُ، وبِها تَتابَعُ الحِيتانُ في البَحْرِ، فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ جَمَعَ تِلْكَ الرَّحْمَةَ إلى ما عِنْدَهُ، ورَحْمَتُهُ أفْضَلُ وأوْسَعُ. وقَدْ أخْرَجَ مُسْلِمٌ وأحْمَدُ، وغَيْرُهُما، عَنْ سَلْمانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «خَلَقَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ: مِنها رَحْمَةٌ يَتَراحَمُ بِها الخَلْقُ، وتِسْعَةٌ وتِسْعُونَ لِيَوْمِ القِيامَةِ، فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أكْمَلَها بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ»، وثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «لَمّا قَضى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ كِتابًا فَوَضَعَهُ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» . وقَدْ رُوِيَ مِن طُرُقٍ أُخْرى بِنَحْوِ هَذا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قَوْلِهِ: ﴿ولَهُ ما سَكَنَ في اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ يَقُولُ: (p-٤١٤)ما اسْتَقَرَّ في اللَّيْلِ والنَّهارِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أغَيْرَ اللَّهِ أتَّخِذُ ولِيًّا﴾ قالَ: أمّا الوَلِيُّ فالَّذِي تَوَلّاهُ ويُقِرُّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ قالَ: بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ. وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ في فَضائِلِهِ وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ الأنْبارِيِّ عَنْهُ قالَ: كُنْتُ لا أدْرِي ما فَطَرَ السَّماواتِ والأرْضَ ؟ حَتّى أتانِي أعْرابِيّانِ يَخْتَصِمانِ في بِئْرٍ فَقالَ أحَدُهُما: أنا فَطَرْتُها، يَقُولُ: أنا ابْتَدَأْتُها. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قَوْلِهِ: ﴿وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ﴾ قالَ: يَرْزُقُ ولا يُرْزَقُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ: ﴿مَن يُصْرَفْ عَنْهُ﴾ قالَ: مَن يُصْرَفْ عَنْهُ العَذابُ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾ يَقُولُ: بِعافِيَةٍ. وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: «جاءَ النَّمّامُ بْنُ زَيْدٍ وقَرْدَمُ بْنُ كَعْبٍ وبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ ما تَعْلَمُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا غَيْرَهُ ؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، بِذَلِكَ بُعِثْتُ وإلى ذَلِكَ أدْعُو، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً﴾ الآيَةَ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿وأُوحِيَ إلَيَّ هَذا القُرْآنُ لِأُنْذِرَكم بِهِ﴾ يَعْنِي أهْلَ مَكَّةَ ومَن بَلَغَ يَعْنِي مَن بَلَغَهُ هَذا القُرْآنُ مِنَ النّاسِ فَهو لَهُ نَذِيرٌ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أنَسٍ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿وأُوحِيَ إلَيَّ هَذا القُرْآنُ﴾ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - إلى كِسْرى وقَيْصَرَ والنَّجاشِيِّ وكُلِّ جَبّارٍ يَدْعُوهم إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ولَيْسَ بِالنَّجاشِيِّ الَّذِي صَلّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ والخَطِيبُ وابْنُ النَّجّارِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «مَن بَلَغَهُ القُرْآنُ فَكَأنَّما شافَهْتُهُ بِهِ، ثُمَّ قَرَأ ﴿وأُوحِيَ إلَيَّ هَذا القُرْآنُ لِأُنْذِرَكم بِهِ ومَن بَلَغَ﴾» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ الضُّرَيْسِ وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ قالَ: " مَن بَلَغَهُ القُرْآنُ فَكَأنَّما رَأى النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ " وفي لَفْظٍ: " مَن بَلَغَهُ القُرْآنُ حَتّى تَفَهَّمَهُ وتَعَقَّلَهُ كانَ كَمَن عايَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وكَلَّمَهُ " . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وأُوحِيَ إلَيَّ هَذا القُرْآنُ لِأُنْذِرَكم بِهِ﴾ قالَ: العَرَبُ ومَن بَلَغَ قالَ: العَجَمُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: قالَ النَّضْرُ وهو مِن بَنِي عَبْدِ الدّارِ: إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللّاتُ والعُزّى، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ الآيَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب