الباحث القرآني

﴿وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ عَطَفَ عَلى إذْ قالَ إبْراهِيمُ أيْ أعْلَنَ تِلْكَ المَقالَةَ في قَوْمِهِ مُعاصِرِيهِ وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ يَنْقُلُونَها إلى مُعاصِرِيهِمْ مِنَ الأُمَمِ. إذْ أوْصى بِها بَنِيهِ وأنْ يُوصُوا بَنِيهِمْ بِها، قالَ تَعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ ”﴿إذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أسْلِمْ قالَ أسْلَمْتُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [البقرة: ١٣١] ﴿وأوْصى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢]“، فَبِتِلْكَ الوَصِيَّةِ أبْقى إبْراهِيمُ تَوْحِيدَ اللَّهِ بِالإلَهِيَّةِ والعِبادَةِ في عَقِبِهِ يَبُثُّونَهُ في النّاسِ. ولِذَلِكَ قالَ يُوسُفُ لِصاحِبَيْهِ في السَّجْنِ ﴿يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أأرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ﴾ [يوسف: ٣٩] وقالَ لَهُما ﴿إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ [يوسف: ٣٧] ﴿واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ [يوسف: ٣٨] إلى قَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٤٠] . فَضَمِيرُ الرَّفْعِ في جَعَلَها عائِدٌ إلى إبْراهِيمَ وهو الظّاهِرُ مِنَ السِّياقِ والمُناسِبُ لِقَوْلِهِ ﴿لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [يوسف: ٦٢] ولِأنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمِ اسْمُ الجَلالَةِ لِيَعُودَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ جَعَلَها. وحَكى في الكَشّافِ أنَّهُ قِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى اللَّهِ وجَزَمَ بِهِ القُرْطُبِيُّ وهو ظاهِرُ كَلامِ أبِي بَكْرِ بْنِ العَرَبِيِّ. والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في قَوْلِهِ وجَعَلَها عائِدٌ إلى الكَلامِ المُتَقَدِّمِ. وأُنِّثَ الضَّمِيرُ لِتَأْوِيلِ الكَلامِ بِالكَلِمَةِ نَظَرًا لِوُقُوعِ مَفْعُولِهِ الثّانِي لَفْظَ كَلِمَةٍ لِأنَّ الكَلامَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلِمَةٌ كَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ المُؤْمِنِينَ ﴿إنَّها كَلِمَةٌ هو قائِلُها﴾ [المؤمنون: ١٠٠]، أيْ (p-١٩٤)قَوْلُ الكافِرِ ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ [المؤمنون: ٩٩] ﴿لَعَلِّي أعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون: ١٠٠] . وقالَ تَعالى ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ﴾ [الكهف: ٥] وهي قَوْلُهُمُ اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا وقَدْ قالَ تَعالى (﴿وأوْصى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ﴾ [البقرة: ١٣٢])، أيْ بِقَوْلِهِ ﴿أسْلَمْتُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [البقرة: ١٣١] فَأعادَ عَلَيْها ضَمِيرَ التَّأْنِيثِ عَلى تَأْوِيلِ (الكَلِمَةِ) . واعْلَمْ أنَّهُ إنَّما يُقالُ لِلْكَلامِ كَلِمَةٌ إذا كانَ كَلامًا سائِرًا عَلى الألْسِنَةِ مُتَمَثَّلًا بِهِ، كَما في قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «أصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها شاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ ألا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللَّهَ باطِلُ»، أوْ كانَ الكَلامُ مَجْعُولًا شِعارًا كَقَوْلِهِمْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ كَلِمَةُ الإسْلامِ وقالَ تَعالى ﴿ولَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ﴾ [التوبة: ٧٤] . فالمَعْنى: جَعَلَ إبْراهِيمُ قَوْلَهُ ﴿إنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٦] ﴿إلّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: ٢٧] شِعارًا لِعَقِبِهِ، أيْ جَعَلَها هي وما يُرادِفُها قَوْلًا باقِيًا في عَقِبِهِ عَلى مَرِّ الزَّمانِ فَلا يَخْلُو عَقِبُ إبْراهِيمَ مِن مُوَحِّدِينَ لِلَّهِ نابِذِينَ لِلْأصْنامِ. وأشْعَرَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ بِأنَّ هاتِهِ الكَلِمَةَ لَمْ تَنْقَطِعْ بَيْنَ عَقِبِ إبْراهِيمَ دُونَ أنْ تَعُمَّ العَقِبَ، فَإنْ أُرِيدَ بِالعَقِبِ مَجْمُوعُ أعْقابِهِ فَإنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ لَمْ تَنْقَطِعْ مِنَ اليَهُودِ وانْقَطَعَتْ مِنَ العَرَبِ بَعْدَ أنْ تَقَلَّدُوا عِبادَةَ الأصْنامِ إلّا مَن تَهَوَّدَ مِنهم أوْ تَنَصَّرَ، وإنْ أُرِيدَ مِن كُلِّ عَقِبٍ فَإنَّ العَرَبَ لَمْ يَخْلُوا مِن قائِمٍ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مِثْلَ المُتَنَصِّرِينَ مِنهم كالقَبائِلِ المُتَنَصِّرَةِ ووَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، ومِثْلَ المُتَحَنِّفِينَ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وأُمِّيَّةَ بْنِ أبِي الصَّلْتِ. وذَلِكَ أنَّ (في) تَرِدُ لِلتَّبْعِيضِ كَما ذَكَرْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وارْزُقُوهم فِيها واكْسُوهُمْ﴾ [النساء: ٥] في سُورَةِ النِّساءِ وقالَ سَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو الفَقْعَسِيُّ مِنَ الحَماسَةِ: ؎ونَشْرَبُ في أثْمانِها ونُقامِرُ والعَقِبُ: الذُّرِّيَّةُ الَّذِينَ لا يَنْفَصِلُونَ مِن أصْلِهِمْ بِأُنْثى، أيْ جَعَلَ إبْراهِيمُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ باقِيَةً في عَقِبِهِ بِالوِصايَةِ عَلَيْها راجِيًا أنَّهم يَرْجِعُونَ، أيْ يَتَذَكَّرُونَ بِها التَّوْحِيدَ إذا رانَ رَيْنٌ عَلى قُلُوبِهِمْ، أوِ اسْتَحْسَنُوا عِبادَةَ الأصْنامِ كَما قالَ قَوْمُ مُوسى ﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨] فَيَهْتَدُونَ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ حِينَ يَضِيقُ الزَّمانُ عَنْ بَسْطِ الحُجَّةِ. وهَذا شَأْنُ الكَلامِ الَّذِي يُجْعَلُ شِعارًا لِشَيْءٍ فَإنَّهُ يَكُونُ أصْلًا مَوْضُوعًا قَدْ تَبَيَّنَ (p-١٩٥)صِدْقُهُ وإصابَتُهُ، فاسْتِحْضارُهُ يُغْنِي عَنْ إعادَةِ بَسْطِ الحُجَّةِ لَهُ. وجُمْلَةُ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ”﴿وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ﴾“ لِأنَّ جَعْلَهُ كَلِمَةَ ﴿إنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٦] باقِيَةً في عَقِبِهِ، أرادَ مِنها مَصالِحَ لِعَقِبِهِ مِنها أنَّهُ رَجا بِذَلِكَ أنْ يَرْجِعُوا إلى نَبْذِ عِبادَةِ الأصْنامِ إنْ فُتِنُوا بِعِبادَتِها أوْ يَتَذَكَّرُوا بِها الإقْلاعَ عَنْ عِبادَةِ الأصْنامِ إنْ عَبَدُوها، فَمَعْنى الرُّجُوعِ، العَوْدُ إلى ما تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الكَلِمَةُ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وأخَذْناهم بِالعَذابِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٤٨]، أيْ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ. فَحَرْفُ (لَعَلَّ) لِإنْشاءِ الرَّجاءِ، والرَّجاءُ هَنا رَجاءُ إبْراهِيمَ لا مَحالَةَ، فَتَعَيَّنَ أنْ يُقَدَّرَ مَعْنى قَوْلٍ صادِرٍ مِن إبْراهِيمَ بِإنْشاءِ رَجائِهِ، بِأنْ يُقَدَّرَ: قالَ: لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ، أوْ قائِلًا: لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ. والرُّجُوعُ مُسْتَعارٌ إلى تَغْيِيرِ اعْتِقادٍ طارِئٍ بِاعْتِقادٍ سابِقٍ، شَبَّهَ تَرْكَ الِاعْتِقادِ الطّارِئِ والأخْذَ بِالِاعْتِقادِ السّابِقِ بِرُجُوعِ المُسافِرِ إلى وطَنِهِ أوْ رُجُوعِ السّاعِي إلى بَيْتِهِ. والمَعْنى: يَرْجِعُ كُلُّ مَن حادَ عَنْها إلَيْها، وهَذا رَجاؤُهُ قَدْ تَحَقَّقَ في بَعْضِ عَقِبِهِ ولَمْ يَتَحَقَّقْ في بَعْضٍ كَما قالَ تَعالى ﴿قالَ ومِن ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] أيِ المُشْرِكِينَ. ولَعَلَّ مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِيهِ رَجاءُ إبْراهِيمَ عَمُودُ نَسَبِ النَّبِيءِ ﷺ وإنَّما كانُوا يَكْتُمُونَ دِينَهم تَقِيَّةً مِن قَوْمِهِمْ، وقَدْ بَسَطْتُ القَوْلَ في هَذا المَعْنى وفي أحْوالِ أهْلِ الفَتْرَةِ في هَذِهِ الآيَةِ في رِسالَةِ طَهارَةِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ مِنَ النَّقائِصِ. وفِي قَوْلِهِ ﴿وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ﴾ إشْعارٌ بِأنَّ وحْدانِيَّةَ اللَّهِ كانَتْ غَيْرَ مَجْهُولَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيَتَّجِهُ أنَّ الدَّعْوَةَ إلى العِلْمِ بِوُجُودِ اللَّهِ ووَحْدانِيَّتِهِ كانَتْ بالِغَةً لِأكْثَرِ الأُمَمِ بِما تَناقَلُوهُ مِن أقْوالِ الرُّسُلِ السّابِقِينَ، ومِن تِلْكَ الأُمَمِ العَرَبُ، فَيَتَّجِهُ مُؤاخَذَةُ المُشْرِكِينَ عَلى الإشْراكِ قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ لِأنَّهم أهْمَلُوا النَّظَرَ فِيما هو شائِعٌ بَيْنَهم أوْ تَغافَلُوا عَنْهُ أوْ أعْرَضُوا. فَيَكُونُ أهْلُ الفَتْرَةِ مُؤاخَذِينَ عَلى نَبْذِ (p-١٩٦)التَّوْحِيدِ في الدُّنْيا ومُعاقَبِينَ عَلَيْهِ في الآخِرَةِ وعَلَيْهِ يُحْمَلُ ما ورَدَ في صِحاحِ الآثارِ مِن تَعْذِيبِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الَّذِي سَنَّ عِبادَةَ الأصْنامِ وما رُوِيَ أنَّ امْرَأ القَيْسِ حامِلُ لِواءِ الشُّعَراءِ إلى النّارِ يَوْمَ القِيامَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وهَذا الَّذِي يُناسِبُ أنْ يَكُونَ نَظَرَ إلَيْهِ أهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ واجِبَةٌ بِالشَّرْعِ لا بِالعَقْلِ وهو المَشْهُورُ عَنِ الأشْعَرِيِّ، والَّذِينَ يَقُولُونَ مِنهم إنَّ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ الفَتْرَةِ مُخَلَّدُونَ في النّارِ عَلى الشِّرْكِ. وأمّا الَّذِينَ قالُوا بِأنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ واجِبَةٌ عَقْلًا وهو قَوْلُ جَمِيعِ الماتُرِيدِيَّةِ وبَعْضِ الشّافِعِيَّةِ فَلا إشْكالَ عَلى قَوْلِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب