الباحث القرآني

(p-٩)﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ ﴿أشَهِدُوا خَلْقَهم سَتُكْتَبُ شَهادَتُهم ويُسْألُونَ﴾ ﴿وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهم ما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ﴾ ﴿أمْ آتَيْناهم كِتابًا مِن قَبْلِهِ فَهم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ ﴿بَلْ قالُوا إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ ﴿وكَذَلِكَ ما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إلّا قالَ مُتْرَفُوها إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ ﴿قالَ أوَلَوْ جِئْتُكم بِأهْدى مِمّا وجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكم قالُوا إنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾ ﴿فانْتَقَمْنا مِنهم فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ إنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ﴾ ﴿إلّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ ﴿وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وآباءَهم حَتّى جاءَهُمُ الحَقُّ ورَسُولٌ مُبِينٌ﴾ ﴿ولَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ قالُوا هَذا سِحْرٌ وإنّا بِهِ كافِرُونَ﴾ ﴿وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ ﴿أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهم مَعِيشَتَهم في الحَياةِ الدُّنْيا ورَفَعْنا بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهم بَعْضًا سُخْرِيًّا ورَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ (p-١٠)لَمْ يَكْفِهِمْ أنْ جَعَلُوا لِلَّهِ ولَدًا، وجَعَلُوهُ إناثًا، وجَعَلُوهم مِنَ المَلائِكَةِ، وهَذا مِن جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وصِفاتِهِ، واسْتِخْفافِهِمْ بِالمَلائِكَةِ، حَيْثُ نَسَبُوا إلَيْهِمُ الأُنُوثَةَ. وقَرَأ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، والحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ، وقَتادَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، والأعْرَجُ، والِابْنانِ، ونافِعٌ: عِنْدَ الرَّحْمَنِ، ظَرْفًا، وهو أدَلُّ عَلى رَفْعِ المَنزِلَةِ وقُرْبِ المَكانَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦] . وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وعَلْقَمَةُ، وباقِي السَّبْعَةِ: عِبادُ الرَّحْمَنِ، جَمْعَ عَبْدٍ لِقَوْلِهِ: ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦] . وقَرَأ الأعْمَشُ: عِبادَ الرَّحْمَنِ، جَمْعًا. وبِالنَّصْبِ، حَكاها ابْنُ خالَوَيْهِ، قالَ: وهي في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَذَلِكَ، والنَّصْبُ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ، أيِ الَّذِينَ هم خُلِقُوا عِبادَ الرَّحْمَنِ، وأنْشَئُوا عِبادَ الرَّحْمَنِ إناثًا. وقَرَأ أُبَيٌّ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مُفْرَدًا، ومَعْناهُ الجَمْعُ، لِأنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أشَهِدُوا، بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ داخِلَةً عَلى شَهِدُوا، ماضِيًا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، أيْ أحَضَرُوا خَلْقَهم، ولَيْسَ ذَلِكَ مِن شَهادَةٍ تَحْمِلُ المَعانِيَ الَّتِي تُطْلَبُ أنْ تُؤَدّى. وقِيلَ: سَألَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”ما يُدْرِيكم أنَّهم إناثٌ“ ؟ فَقالُوا: سَمِعْنا ذَلِكَ مِن آبائِنا، ونَحْنُ نَشْهَدُ أنَّهم لَمْ يَكْذِبُوا، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿سَتُكْتَبُ شَهادَتُهم ويُسْألُونَ﴾ عَنْها، أيْ في الآخِرَةِ. وقَرَأ نافِعٌ: بِهَمْزَةٍ داخِلَةٍ عَلى أُشْهِدُوا، رُباعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِلا مَدٍّ بَيْنَ الهَمْزَتَيْنِ. والمُسَيَّبِيُّ عَنْهُ: بِمَدَّةٍ بَيْنَهُما، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وفي رِوايَةِ أبِي عَمْرٍو، ونافِعٍ: بِتَسْهِيلِ الثّانِيَةِ بِلا مَدٍّ، وجَماعَةٌ: كَذَلِكَ بِمَدٍّ بَيْنَهُما. وعَنْ عَلِيٍّ والمُفَضَّلِ، عَنْ عاصِمٍ: تَحْقِيقُهُما بِلا مَدٍّ، والزُّهْرِيُّ وناسٌ: أُشْهِدُوا بِغَيْرِ اسْتِفْهامٍ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ رُباعِيًّا، فَقِيلَ: المَعْنى عَلى الِاسْتِفْهامِ، حُذِفَتِ الهَمْزَةُ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْها. وقِيلَ: الجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْإناثِ، أيْ إناثًا مُشْهَدًا مِنهم خَلْقُهم، وهم لَمْ يَدَّعُوا أنَّهم شَهِدُوا خَلْقَهم، لَكِنْ لَمّا ادَّعَوْا لِجَراءَتِهِمْ أنَّهم إناثٌ، صارُوا كَأنَّهُمُ ادَّعَوْا ذَلِكَ وإشْهادَهم خَلْقَهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: إناثًا، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: أُنُثًا، جَمْعَ جَمْعِ الجَمْعِ. قِيلَ: ومَعْنى وجَعَلُوا: سَمُّوا، وقالُوا: والأحْسَنُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: وصَيَّرُوا اعْتِقادَهُمُ المَلائِكَةَ إناثًا، وهَذا الِاسْتِفْهامُ فِيهِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، والمَعْنِيُّ إظْهارُ فَسادِ عُقُولِهِمْ، وأنَّ دَعاوِيَهم مُجَرَّدَةٌ مِنَ الحُجَّةِ، وهَذا نَظِيرُ الآيَةِ الطّاعِنَةِ عَلى أهْلِ التَّنْجِيمِ والطَّبائِعِ: ﴿ما أشْهَدْتُهم خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضِ ولا خَلْقَ أنْفُسِهِمْ﴾ [الكهف: ٥١] . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿سَتُكْتَبُ﴾، بِالتّاءِ مِن فَوْقٍ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. شَهادَتُهم: بِالرَّفْعِ مُفْرَدًا، والزُّبَيْرِيُّ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ بِالياءِ، والحَسَنُ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ بِالتّاءِ وجَمْعِ شَهادَتِهِمْ، وابْنُ عَبّاسٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وأبُو جَفْعَرٍ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، والجَحْدَرِيُّ، والأعْرَجُ: بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، شَهادَتُهم عَلى الإفْرادِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: سَيَكْتُبُ بِالياءِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، أيِ اللَّهُ، شَهادَتَهم: بِفَتْحِ التّاءِ. والمَعْنى: أنَّهُ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهم عَلى المَلائِكَةِ بِأُنُوثَتِهِمْ. ويُسْألُونَ، وهَذا وعِيدٌ. ﴿وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهُمْ﴾: الضَّمِيرُ لِلْمَلائِكَةِ. قالَ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ: في آخَرِينَ. وقالَ مُجاهِدٌ: الأوْثانَ، عَلَّقُوا انْتِفاءَ العِبادَةِ عَلى المَشِيئَةِ، لَكِنَّ العِبادَةَ وُجِدَتْ لَمّا انْتَفَتِ المَشِيئَةُ، فالمَعْنى: أنَّهُ شاءَ العِبادَةَ، ووَقَعَ ما شاءَ، وقَدْ جَعَلُوا إمْهالَ اللَّهِ لَهم وإحْسانَهُ إلَيْهِمْ، وهم يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، دَلِيلًا عَلى أنَّهُ يَرْضى ذَلِكَ دِينًا. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في أواخِرِ الأنْعامِ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ، أيْ فَنَحْنُ لا نُؤاخَذُ بِذَلِكَ، إذْ هو وِفْقُ مَشِيئَةِ اللَّهِ، ولِهَذا قالَ: ﴿ما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ﴾، أيْ بِما تَرَتَّبَ عَلى عِبادَتِهِمْ مِنَ العِقابِ، ﴿إنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ﴾: أيْ يَكْذِبُونَ. وقِيلَ: الإشارَةُ بِذَلِكَ إلى ادِّعائِهِمْ أنَّ المَلائِكَةَ إناثٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُما كَفْرَتانِ مَضْمُومَتانِ إلى الكَفَراتِ الثَّلاثِ، وهم: عِبادَتُهُمُ المَلائِكَةَ (p-١١)مِن دُونِ اللَّهِ، وزَعْمُهم أنَّ عِبادَتَهم بِمَشِيئَتِهِ، كَما يَقُولُ إخْوانُهُمُ المُجْبِرَةُ. انْتَهى. جَعْلُ أهْلِ السُّنَّةِ أخَواتٍ لِلْكَفَرَةِ عُبّادِ المَلائِكَةِ، ثُمَّ أوْرَدَ سُؤالًا وجَوابًا جارِيًا عَلى ما اخْتارَهُ مِن مَذْهَبِ الِاعْتِزالِ، يُوقِفُ عَلى ذَلِكَ في كِتابِهِ، ولَمّا نَفى عَنْهم عِلْمَ تَرْكِ عِقابِهِمْ عَلى عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، أيْ لَيْسَ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ عَقْلٌ. نَفى أيْضًا أنْ يَدُلَّ عَلى ذَلِكَ سَمْعٌ، فَقالَ: ﴿أمْ آتَيْناهم كِتابًا﴾ مِن قَبْلِ نُزُولِ القُرْآنِ، أوْ مِن قَبْلِ إنْذارِ الرُّسُلِ، يَدُلُّ عَلى تَجْوِيزِ عِبادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، وأنَّهُ لا يَتَرَتَّبُ عَلى ذَلِكَ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهم في ذَلِكَ مُقَلِّدُونَ لِآبائِهِمْ، ولا دَلِيلَ لَهم مِن عَقْلٍ ولا نَقْلٍ. ومَعْنى: (عَلى أُمَّةٍ): أيْ: طَرِيقَةٍ ودِينٍ وعادَةٍ، فَقَدْ سَلَكْنا مَسْلَكَهم، ونَحْنُ مُهْتَدُونَ في اتِّباعِ آثارِهِمْ، ومِنهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ: ؎كُنّا عَلى أُمَّةِ آبائِنا ويَقْتَدِي بِالأوَّلِ الآخِرُ وقَرَأ الجُمْهُورُ: أُمَّةٍ، بِضَمِّ الهَمْزَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ، وقُطْرُبٌ: عَلى مِلَّةٍ. وقالَ الجَوْهَرِيُّ: والأُمَّةُ: الطَّرِيقَةُ، والَّذِي يُقالُ: فُلانٌ لا أُمَّةَ لَهُ: أيْ لا دِينَ ولا نِحْلَةَ. قالَ الشّاعِرُ: ؎وهَلْ يَسْتَوِي ذُو أُمَّةٍ وكَفُورٍ وتَقَدَّمَ الكَلامُ في أُمَّةٍ في قَوْلِهِ: ﴿وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: ٤٥] . وقَرَأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والجَحْدَرِيُّ: بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وهي الطَّرِيقَةُ الحَسَنَةُ لُغَةً في الأُمَّةِ بِالضَّمِّ، قالَهُ الجَوْهَرِيُّ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: أمَّةٍ. بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، أيْ عَلى قَصْدٍ وحالٍ، والخِلافُ في الحَرْفِ الثّانِي كَهو في الأوَّلِ. وحَكى مُقاتِلٌ: أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، وأبِي سُفْيانَ، وأبِي جَهْلٍ، وعُتْبَةَ، وشَيْبَةَ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ مِن قُرَيْشٍ، أيْ كَما قالَ مَن قَبْلَهم أيْضًا، يُسَلِّي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ. والمُتْرَفُ: المُنَعَّمُ، أبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ، فَآثَرُوا الشَّهَواتِ، وكَرِهُوا مَشاقَّ التَّكالِيفِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (قُلْ) عَلى الأمْرِ، وابْنُ عامِرٍ وحَفْصٌ: قالَ عَلى الخَبَرِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: جِئْتُكم، بِتاءِ المُتَكَلِّمِ، وأُبَيٌّ، وشَيْبَةُ، وابْنُ مِقْسَمٍ، والزَّعْفَرانِيُّ، وأبُو شَيْخٍ الهُنائِيُّ، وخالِدٌ: (جِئْناكم)، بِنُونِ المُتَكَلِّمِينَ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في قالَ، أوْ في قُلْ، لِلرَّسُولِ، أيْ: قُلْ يا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ: أتَتَّبِعُونَ آباءَكم، ولَوْ جِئْتُكم بِدِينٍ أهْدى مِنَ الدِّينِ الَّذِي وجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكم ؟ وهَذا تَجْهِيلٌ لَهم، حَيْثُ يُقَلِّدُونَ ولا يَنْظُرُونَ في الدَّلائِلِ. ﴿قالُوا إنّا بِما أُرْسِلْتُمْ﴾، أنْتَ والرُّسُلُ قَبْلَكَ. غَلَبَ الخِطابُ عَلى الغَيْبَةِ. ﴿فانْتَقَمْنا مِنهُمْ﴾ بِالقَحْطِ والقَتْلِ والسَّبْيِ والجَلاءِ. ﴿فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ مَن كَذَّبَكَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: في قالَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى النَّذِيرِ، وباقِي الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ (قُلْ) في قِراءَةِ مَن قَرَأها لَيْسَتْ بِأمْرٍ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وإنَّما هي حِكايَةٌ لِما أمَرَ بِهِ النَّذِيرُ. ولَوْ في هَذا المَوْضِعِ، كَأنَّها شَرْطِيَّةٌ بِمَعْنى: إنْ، كَأنَّ مَعْنى الآيَةِ: أوْ إنْ جِئْتُكم بِأبْيَنَ وأوْضَحَ مِمّا كانَ عَلَيْهِ آباؤُكم، يَصْحَبُكم لِجاجُكم وتَقْلِيدُكم، فَأجابَ الكُفّارُ حِينَئِذٍ مِنَ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ بِأنْبِيائِها، كَما كَذَّبَتْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ ولا يَتَعَيَّنُ ما قالَهُ، بَلِ الظّاهِرُ هو ما قَدَّمْناهُ. ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ﴾: وذَكِّرِ العَرَبَ بِحالِ جَدِّهِمُ الأعْلى ونَهْيِهِ عَنْ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وإفْرادِهِ بِالتَّوْحِيدِ والعِبادَةِ هُزُؤًا لَهم، لِيَكُونَ لَهم رُجُوعٌ إلى دِينِ جَدِّهِمْ، إذْ كانَ أشْرَفَ آبائِهِمْ والمُجْمَعَ عَلى مَحَبَّتِهِ، وأنَّهُ ﷺ لَمْ يُقَلِّدْ أباهُ في عِبادَةِ الأصْنامِ، فَيَنْبَغِي أنْ تَقْتَدُوا بِهِ في تَرْكِ تَقْلِيدِ آبائِكُمُ الأقْرَبِينَ، وتَرْجِعُوا إلى النَّظَرِ واتِّباعِ الحَقِّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بَراءٌ، مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ المُفْرَدُ والمُذَكَّرُ ومُقابِلُهُما، يُقالُ: نَحْنُ البَراءُ مِنكَ، وهي لُغَةُ العالِيَةِ. وقَرَأ الزَّعْفَرانِيُّ والقَوْرَصِيُّ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ، وابْنُ المَناذِرِيِّ، عَنْ نافِعٍ: بِضَمِّ الباءِ، والأعْمَشُ: بَرِيءٌ، وهي لُغَةُ نَجْدٍ وشَيْخَيْهِ، ويُجْمَعُ ويُؤَنَّثُ، وهَذا نَحْوُ طَوِيلٍ وطِوالٍ، وكَرِيمٍ وكِرامٍ. وقَرَأ الأعْمَشُ: إنِّي، بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ دُونَ نُونِ الوِقايَةِ، والجُمْهُورُ: إنَّنِي، بِنُونَيْنِ، الأُولى مُشَدَّدَةٌ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، إذْ كانُوا لا يَعْبُدُونَ اللَّهَ مَعَ أصْنامِهِمْ. وقِيلَ: كانُوا يُشْرِكُونَ أصْنامَهم مَعَهُ تَعالى في العِبادَةِ، فَيَكُونُ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا. وعَلى (p-١٢)الوَجْهَيْنِ، فالَّذِي في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وإذا كانَ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا، كانَتْ ما شامِلَةً مَن يَعْلَمُ ومَن لا يَعْلَمُ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ الَّذِي مَجْرُورًا بَدَلًا مِنَ المَجْرُورِ بِمَن، كَأنَّهُ قالَ: إنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ، إلّا مِنَ الَّذِي. وأنْ تَكُونَ إلّا صِفَةً بِمَعْنى غَيْرٍ، عَلى أنَّ ما في ما تَعْبُدُونَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ تَقْدِيرُهُ: إنَّنِي بَراءٌ مِن آلِهَةٍ تَعْبُدُونَها غَيْرَ الَّذِي فَطَرَنِي، فَهو نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢] . انْتَهى. ووَجْهُ البَدَلِ لا يَجُوزُ، لِأنَّهُ إنَّما يَكُونُ في غَيْرِ المُوجَبِ مِنَ النَّفْيِ والنَّهْيِ والِاسْتِفْهامِ. ألا تَرى أنَّهُ يَصْلُحُ ما بَعْدَ إلّا لِتَفْرِيغِ العامِلِ لَهُ ؟ وإنَّنِي بَرِيءٌ، جُمْلَةٌ مُوجَبَةٌ، فَلا يَصْلُحُ أنْ يُفَرَّغَ العامِلُ فِيها لِلَّذِي هو بَرِيءٌ لِما بَعْدَ إلّا. وعَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ كَوْنُ ”بَرِيءٌ“ فِيهِ مَعْنى الِانْتِفاءِ، ومَعَ ذَلِكَ فَهو مُوجَبٌ لا يَجُوزُ أنْ يُفَرَّغَ لِما بَعْدَ إلّا. وأمّا تَقْدِيرُهُ ما نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، فَلَمْ يُبْقِها مَوْصُولَةً، لِاعْتِقادِهِ أنَّ إلّا لا تَكُونُ صِفَةً إلّا لِنَكِرَةٍ. وهَذِهِ المَسْألَةُ فِيها خِلافٌ، مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَن قالَ: تُوصَفُ بِها النَّكِرَةُ والمَعْرِفَةُ، فَعَلى هَذا تَبْقى ما مَوْصُولَةً، ويَكُونُ إلّا في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْمَعْرِفَةِ، وجَعْلُهُ فَطَرَنِي في صِلَةِ الَّذِي تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ لا يُعْبَدُ ولا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ إلّا الخالِقُ لِلْعِبادِ. ﴿فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾: أيْ يُدِيمُ هِدايَتِي، وفي مَكانٍ آخَرَ: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨]، فَهو هادِيهِ في المُسْتَقْبَلِ والحالِ، والضَّمِيرُ في جَعَلَها المَرْفُوعُ عائِدٌ عَلى إبْراهِيمَ، وقِيلَ عَلى اللَّهِ. والضَّمِيرُ المَنصُوبُ عائِدٌ عَلى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِها، وهي قَوْلُهُ: ﴿إنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ﴾ ﴿إلّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ . وقالَ قَتادَةُ ومُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وإنْ لَمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ، لِأنَّ اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُها. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَلِمَةُ الإسْلامِ لِقَوْلِهِ: ﴿ومِن ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨]، ﴿إذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أسْلِمْ قالَ أسْلَمْتُ﴾ [البقرة: ١٣١]، ﴿هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ﴾ [الحج: ٧٨] . وقَرَأ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: كِلْمَةً، بِكَسْرِ الكافِ وسُكُونِ اللّامِ. وقُرِئَ: في عَقْبِهِ، بِسُكُونِ القافِ، أيْ في ذُرِّيَّتِهِ. وقُرِئَ: في عاقِبِهِ، أيْ مِن عَقِبِهِ، أيْ خَلْفِهِ. فَلا يَزالُ فِيهِمْ مَن يُوَحِّدُ اللَّهَ ويَدْعُو إلى تَوْحِيدِهِ. لَعَلَّهم: أيْ لَعَلَّ مَن أشْرَكَ مِنهم يَرْجِعُ بِدُعاءِ مَن وحَّدَ مِنهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿بَلْ مَتَّعْتُ﴾، بِتاءِ المُتَكَلِّمِ، والإشارَةُ بِهَؤُلاءِ لِقُرَيْشٍ ومَن كانَ مِن عَقِبِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ العَرَبِ. لَمّا قالَ: ﴿فِي عَقِبِهِ﴾، قالَ تَعالى: لَكِنْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وأنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ في كُفْرِهِمْ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ تُعَقَّبُ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ فِيهِمْ. وقَرَأ قَتادَةُ والأعْمَشُ: بَلْ مَتَّعْتَ، بِتاءِ الخِطابِ، ورَواها يَعْقُوبُ عَنْ نافِعٍ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: وهي مِن مُناجاةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَبَّهُ تَعالى. والظّاهِرُ أنَّهُ مِن مُناجاةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، أيْ: قالَ يا رَبِّ بَلْ مَتَّعْتَ. وقَرَأ الأعْمَشُ: مَتَّعْنا، بِنُونِ العَظَمَةِ، وهي تُعَضِّدُ قِراءَةَ الجُمْهُورِ. ﴿حَتّى جاءَهُمُ الحَقُّ﴾، وهو القُرْآنُ، ﴿ورَسُولٌ مُبِينٌ﴾، هو مُحَمَّدٌ ﷺ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: فَما وجْهُ مَن قَرَأ: بَلْ مَتَّعْتَ، بِفَتْحِ التّاءِ ؟ قُلْتُ: كَأنَّ اللَّهَ تَعالى اعْتَرَضَ عَلى ذاتِهِ في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾، فَقالَ: بَلْ مَتَّعْتُهم بِما مَتَّعْتُهم بِهِ مِن طُولِ العُمُرِ والسَّعَةِ في الرِّزْقِ، حَتّى شَغَلَهم ذَلِكَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. وأرادَ بِذَلِكَ الإطْنابَ في تَعْيِيرِهِمْ، لِأنَّهُ إذا مَتَّعَهم بِزِيادَةِ النِّعَمِ، وجَبَ عَلَيْهِمْ أنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ سَبَبًا في زِيادَةِ الشُّكْرِ والثَّباتِ عَلى التَّوْحِيدِ والإيمانِ، لا أنْ يُشْرِكُوا بِهِ ويَجْعَلُوا لَهُ أنْدادًا، فَمِثالُهُ: أنْ يَشْكُوَ الرَّجُلُ إساءَةَ مَن أحْسَنَ إلَيْهِ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: أنْتَ السَّبَبُ في ذَلِكَ بِمَعْرُوفِكَ وإحْسانِكَ، وغَرَضُهُ بِهَذا الكَلامِ تَوْبِيخُ المُسِيءِ لا تَقْبِيحُ فِعْلِهِ. فَإنْ قُلْتَ: قَدْ جَعَلَ مَجِيءَ الحَقِّ والرَّسُولِ غايَةً لِلتَّمْتِيعِ، ثُمَّ أرْدَفَهُ قَوْلَهُ: ﴿ولَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ قالُوا هَذا سِحْرٌ﴾، فَما طَرِيقَةُ هَذا النَّظْمِ ومُؤَدّاهُ ؟ قُلْتُ: المُرادُ بِالتَّمْتِيعِ: ما هو سَبَبٌ لَهُ، وهو اشْتِغالُهم بِالِاسْتِمْتاعِ عَنِ التَّوْحِيدِ ومُقْتَضَياتِهِ. فَقالَ عَزَّ وعَلا: بَلِ اشْتَغَلُوا عَنِ التَّوْحِيدِ ﴿حَتّى جاءَهُمُ الحَقُّ ورَسُولٌ مُبِينٌ﴾، فَخَيَّلَ بِهَذِهِ الغايَةِ أنَّهم تَنَبَّهُوا عِنْدَها عَنْ غَفْلَتِهِمْ لِاقْتِضائِها التَّنَبُّهَ. ثُمَّ ابْتَدَأ قِصَّتَهم عِنْدَ مَجِيءِ الحَقِّ فَقالَ: ﴿ولَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ﴾، جاءُوا بِما هو شَرٌّ مِن غَفْلَتِهِمُ الَّتِي (p-١٣)كانُوا عَلَيْها، وهو أنْ ضَمُّوا إلى شِرْكِهِمْ مُعانَدَةَ الحَقِّ، ومُكابَرَةَ الرَّسُولِ ومُعاداتَهُ، والِاسْتِخْفافَ بِكِتابِ اللَّهِ وشَرائِعِهِ، والإصْرارَ عَلى أفْعالِ الكَفَرَةِ، والِاحْتِكامَ عَلى حِكْمَةِ اللَّهِ في تَخَيُّرِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِن أهْلِ زَمانِهِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾، وهي الغايَةُ في تَشْوِيهِ صُورَةِ أمْرِهِمْ. انْتَهى، وهو حَسَنٌ لَكِنْ فِيهِ إسْهابٌ. والضَّمِيرُ في: وقالُوا لِقُرَيْشٍ، كانُوا قَدِ اسْتَبْعَدُوا أنْ يُرْسِلَ اللَّهُ مِنَ البَشَرِ رَسُولًا، فاسْتَفاضَ عِنْدَهم أمْرَ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى وغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَلَمّا لَمْ يَكُنْ لَهم في ذَلِكَ مَدْفَعٌ، ناقَضُوا فِيما يَخُصُّ مُحَمَّدًا ﷺ فَقالُوا: لِمَ كانَ مُحَمَّدًا، ولَمْ يَكُنِ القُرْآنُ يُنَزَّلُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ؟ أشارُوا إلى مَن عَظُمَ قَدْرُهُ بِالسِّنِّ والقِدَمِ والجاهِ وكَثْرَةِ المالِ. وقُرِئَ: عَلى رَجُلٍ، بِسُكُونِ الجِيمِ. مِنَ القَرْيَتَيْنِ: أيْ مِن إحْدى القَرْيَتَيْنِ. وقِيلَ: مِن رَجُلِ القَرْيَتَيْنِ، وهُما مَكَّةُ والطّائِفُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: والَّذِي مِن مَكَّةَ: الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيُّ، ومِنَ الطّائِفِ: حَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ. وقالَ مُجاهِدٌ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وكِنانَةُ بْنُ عَبْدِ يالِيلَ. وقالَ قَتادَةُ: الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، وعُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ. قالَ قَتادَةُ: بَلَغَنا أنَّهُ لَمْ يَبْقَ فَخْذٌ مِن قُرَيْشٍ إلّا ادَّعاهُ، وكانَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ يُسَمّى رَيْحانَةَ قُرَيْشٍ، وكانَ يَقُولُ: لَوْ كانَ ما يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَزَلَ عَلَيَّ أوْ عَلى ابْنِ مَسْعُودٍ، يَعْنِي عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، وكانَ يُكَنّى أبا مَسْعُودٍ. ﴿أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ ؟ فِيهِ تَوْبِيخٌ وتَعْجِيبٌ مِن جَهْلِهِمْ، كَأنَّهُ قِيلَ: عَلى اخْتِيارِهِمْ وإرادَتِهِمْ تُقْسَمُ الفَضائِلُ مِنَ النُّبُوَّةِ وغَيْرِها. ثُمَّ في إضافَتِهِ في قَوْلِهِ: (رَحْمَةَ رَبِّكَ)، تَشْرِيفٌ لَهُ ﷺ، وأنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَكَ لَيْسَتْ إلّا مِن رَبِّكَ المُصْلِحِ لِحالِكَ والمُرَبِّيكَ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ هو الَّذِي قَسَمَ المَعِيشَةَ بَيْنَهم، فَلَمْ يَحْصُلْ لِأحَدٍ إلّا ما قَسَمَهُ تَعالى. وإذا كانَ هو الَّذِي تَوَلّى ذَلِكَ، وفاوَتَ بَيْنَهم، وذَلِكَ في الأمْرِ الفانِي، فَكَيْفَ لا يَتَوَلّى الأمْرَ الخَطِيرَ، وهو إرْسالُ مَن يَشاءُ، فَلَيْسَ لَكم أنْ تَتَخَيَّرُوا مَن يَصْلُحُ لِذَلِكَ، بَلْ أنْتُمْ عاجِزُونَ عَنْ تَدْبِيرِ أُمُورِكم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: مَعِيشَتَهم، عَلى الإفْرادِ، وعَبْدُ اللَّهِ، والأعْمَشُ، وابْنُ عَبّاسٍ، وسُفْيانُ: مَعائِشَهم، عَلى الجَمْعِ. والجُمْهُورُ: سُخْرِيًّا، بِضَمِّ السِّينِ، وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وأبُو رَجاءٍ، والوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وابْنُ عامِرٍ: بِكَسْرِها، وهو مِنَ التَّسْخِيرِ، بِمَعْنى الِاسْتِعْبادِ والِاسْتِخْدامِ، لِيَرْتَفِقَ بَعْضُهم بِبَعْضٍ ويَصِلُوا إلى مَنافِعِهِمْ. ولَوْ تَوَلّى كُلُّ واحِدٍ جَمِيعَ أشْغالِهِ بِنَفْسِهِ، ما أطاقَ ذَلِكَ وضاعَ وهَلَكَ. ويَبْعُدُ أنْ يَكُونَ سُخْرِيًّا هُنا مِنَ الهُزْءِ، وقَدْ قالَ بَعْضُهم: أيْ يَهْزَأُ الغَنِيُّ بِالفَقِيرِ. وفي قَوْلِهِ: ﴿نَحْنُ قَسَمْنا﴾، تَزْهِيدٌ في الإكْبابِ عَلى طَلَبِ الدُّنْيا، وهَوْنٌ عَلى التَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ. وقالَ مُقاتِلٌ: فاضَلْنا بَيْنَهم، فَمَن رَئِيسٌ ومَرْءُوسٌ. وقالَ قَتادَةُ: تَلْقى ضَعِيفَ القُوَّةِ، قَلِيلَ الحِيلَةِ، غَنِيَّ اللِّسانِ، وهو مَبْسُوطٌ لَهُ، وتَلْقى شَدِيدَ الحِيلَةِ، بَسِيطَ اللِّسانِ، وهو مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ. وقالَ الشّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: ؎ومِنَ الدَّلِيلِ عَلى القَضاءِ وكَوْنِهِ ∗∗∗ بُؤْسُ الفَقِيرِ وطِيبُ عَيْشِ الأحْمَقِ ﴿ورَحْمَةُ رَبِّكَ﴾: قِيلَ النُّبُوَّةُ، وقِيلَ: الهِدايَةُ والإيمانُ. وقالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ: الجَنَّةُ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُ هَؤُلاءِ مِن حُطامِ الدُّنْيا، وفي هَذا اللَّفْظِ تَحْقِيرٌ لِلدُّنْيا وما جُمِعَ فِيها مِن مَتاعِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب