الباحث القرآني
﴿إذا رَأتْهم مِن مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وزَفِيرًا﴾ ﴿وإذا أُلْقُوا مِنها مَكانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا﴾ ﴿لا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ .
تَخَلَّصَ مِنَ اليَأْسِ مِنِ اقْتِناعِهِمْ إلى وصْفِ السَّعِيرِ الَّذِي أُعِدَّ لَهم، وأُجْرِيَ عَلى السَّعِيرِ ضَمِيرُ (رَأتْهم) بِالتَّأْنِيثِ لِتَأْوِيلِ السَّعِيرِ بِجَهَنَّمَ إذْ هو عَلَمٌ عَلَيْها بِالغَلَبَةِ كَما تَقَدَّمَ.
وإسْنادُ الرُّؤْيَةِ إلى النّارِ اسْتِعارَةٌ. والمَعْنى: إذا سِيقُوا إلَيْها فَكانُوا مِنَ النّارِ بِمَكانٍ ما يَرى الرّائِي مَن وصَلَ إلَيْهِ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وزَفِيرًا مِن مَكانٍ (p-٣٣٣)بَعِيدٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى (رَأتْهم) رَآهم مَلائِكَتُها، أطْلَقُوا مَنافِذَها فانْطَلَقَتْ ألْسِنَتُها بِأصْواتِ اللَّهِيبِ كَأصْواتِ المُتَغَيِّظِ وزَفِيرِهِ فَيَكُونُ إسْنادُ الرُّؤْيَةِ إلى جَهَنَّمَ مَجازًا عَقْلِيًّا.
والتَّغَيُّظُ: شِدَّةُ الغَيْظِ. والغَيْظُ: الغَضَبُ الشَّدِيدُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: (﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ﴾ [آل عمران: ١١٩]) في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. فَصِيغَةُ التَّفَعُّلِ هُنا المَوْضُوعَةُ في الأصْلِ لِتَكَلُّفِ الفِعْلِ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجازًا في قُوَّتِهِ؛ لِأنَّ المُتَكَلِّفَ لِفِعْلٍ يَأْتِي بِهِ كَأشَدِّ ما يَكُونُ.
والمُرادُ بِهِ هُنا صَوْتُ المُتَغَيِّظِ، بِقَرِينَةِ تَعَلُّقِهِ بِفِعْلِ (سَمِعُوا) فَهو تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
والزَّفِيرُ: امْتِدادُ النَّفَسِ مِن شِدَّةِ الغَيْظِ وضِيقِ الصَّدْرِ، أيْ صَوْتًا كالزَّفِيرِ فَهو تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أيْضًا. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ خَلَقَ لِجَهَنَّمَ إدْراكًا لِلْمَرْئِيّاتِ بِحَيْثُ تَشْتَدُّ أحْوالُها عِنْدَ انْطِباعِ المَرْئِيّاتِ فِيها فَتَضْطَرِبُ وتَفِيضُ وتَتَهَيَّأُ لِالتِهامِ بَعْثِها فَتَحْصُلُ مِنها أصْواتُ التَّغَيُّظِ والزَّفِيرِ فَيَكُونُ إسْنادُ الرُّؤْيَةِ والتَّغَيُّظِ والزَّفِيرِ حَقِيقَةً، وأُمُورُ العالَمِ الأُخْرى لا تُقاسُ عَلى الأحْوالِ المُتَعارَفَةِ في الدُّنْيا.
وعَلى هَذَيْنِ الِاحْتِمالَيْنِ يُحْمَلُ ما ورَدَ في القُرْآنِ والحَدِيثِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وتَقُولُ هَلْ مِن مَزِيدٍ﴾ [ق: ٣٠])، وقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ: «اشْتَكَتِ النّارُ إلى رَبِّها فَقالَتْ: يا رَبِّ، أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأذِنَ لَها بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ في الصَّيْفِ ونَفَسٍ في الشِّتاءِ» رَواهُ في المُوَطَّأِ. زادَ في رِوايَةِ مُسْلِمٍ «فَما تَرَوْنَ مِن شِدَّةِ البَرْدِ فَذَلِكَ مِن زَمْهَرِيرِها وما تَرَوْنَ مِن شِدَّةِ الحَرِّ فَهو مِن سَمُومِها» .
وجُعِلَ إزْجاؤُهم إلى النّارِ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ زِيادَةً في النِّكايَةِ بِهِمْ؛ لِأنَّ بُعْدَ المَكانِ يَقْتَضِي زِيادَةَ المَشَقَّةِ إلى الوُصُولِ ويَقْتَضِي طُولَ الرُّعْبِ مِمّا سَمِعُوا.
ووَصَفَ وُصُولَهم إلى جَهَنَّمَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ ووَضْعَهم فِيها بِقَوْلِهِ: (﴿وإذا أُلْقُوا مِنها مَكانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا﴾) فَصِيغَ نَظْمُهُ في صُورَةِ تَوْصِيفِ ضَجِيجِ أهْلِ النّارِ مِن قَوْلِهِ (﴿دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا﴾) وأدْمَجَ في خِلالِ (p-٣٣٤)ذَلِكَ وصْفَ داخِلِ جَهَنَّمَ ووَصْفَ وضْعِ المُشْرِكِينَ فِيها بِقَوْلِهِ: (﴿مَكانًا ضَيِّقًا﴾) وقَوْلِهِ: (مُقَرَّنِينَ) تَفَنُّنًا في أُسْلُوبِ الكَلامِ.
والإلْقاءُ: الرَّمْيُ، وهو هُنا كِنايَةٌ عَنِ الإهانَةِ.
وانْتَصَبَ (مَكانًا) عَلى نَزْعِ الخافِضِ، أيْ: في مَكانٍ ضَيِّقٍ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ (ضَيِّقًا) بِتَشْدِيدِ الياءِ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ (ضَيْقًا) بِسُكُونِ الياءِ وكِلاهُما لِلْمُبالَغَةِ في الوَصْفِ مِثْلُ: مَيِّتٍ ومَيْتٍ؛ لِأنَّ الضَّيِّقَ بِالتَّشْدِيدِ صِيغَةُ تَمَكُّنِ الوَصْفِ مِنَ المَوْصُوفِ، والضَّيْقَ بِالسُّكُونِ وصْفٌ بِالمَصْدَرِ.
و(مُقَرَّنِينَ) حالٌ مِن ضَمِيرِ (أُلْقُوا) أيْ: مُقَرَّنًا بَعْضُهم في بَعْضٍ كَحالِ الأسْرى، والمَساجِينِ أنْ يُقْرَنَ عَدَدٌ مِنهم في وِثاقٍ واحِدٍ، كَما قالَ تَعالى: (﴿وآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الأصْفادِ﴾ [ص: ٣٨]) . والمُقَرَّنُ: المَقْرُونُ، صِيغَتْ لَهُ مادَّةُ التَّفْعِيلِ لِلْإشارَةِ إلى شِدَّةِ القَرْنِ.
والدُّعاءُ: النِّداءُ بِأعْلى الصَّوْتِ، والثُّبُورُ: الهَلاكُ، أيْ نادَوْا: يا ثُبُورَنا، أوْ واثُبُوراهُ بِصِيغَةِ النُّدْبَةِ، وعَلى كِلا الِاحْتِمالَيْنِ فالنِّداءُ كِنايَةٌ عَنِ التَّمَنِّي، أيْ تَمَنَّوْا حُلُولَ الهَلاكِ فَنادَوْهُ كَما يُنادى مَن يُطْلَبُ حُضُورُهُ، أوْ نَدَبُوهُ كَما يُنْدَبُ مَن يُتَحَسَّرُ عَلى فَقْدِهِ، أيْ: تَمَنَّوُا الهَلاكَ لِلِاسْتِراحَةِ مِن فَظِيعِ العَذابِ.
وجُمْلَةُ (﴿لا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا﴾) إلى آخِرِها مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أيْ يُقالُ لَهم، ووَصَفَ الثُّبُورَ بِالكَثِيرِ إمّا لِكَثْرَةِ نِدائِهِ بِالتَّكْرِيرِ وهو كِنايَةٌ عَنْ عَدَمِ حُصُولِ الثُّبُورِ؛ لِأنَّ انْتِهاءَ النِّداءِ يَكُونُ بِحُضُورِ المُنادى، أوْ هو يَأْسٌ يَقْتَضِي تَكْرِيرَ التَّمَنِّي أوِ التَّحَسُّرِ.
{"ayahs_start":12,"ayahs":["إِذَا رَأَتۡهُم مِّن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ سَمِعُوا۟ لَهَا تَغَیُّظࣰا وَزَفِیرࣰا","وَإِذَاۤ أُلۡقُوا۟ مِنۡهَا مَكَانࣰا ضَیِّقࣰا مُّقَرَّنِینَ دَعَوۡا۟ هُنَالِكَ ثُبُورࣰا","لَّا تَدۡعُوا۟ ٱلۡیَوۡمَ ثُبُورࣰا وَ ٰحِدࣰا وَٱدۡعُوا۟ ثُبُورࣰا كَثِیرࣰا"],"ayah":"إِذَا رَأَتۡهُم مِّن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ سَمِعُوا۟ لَهَا تَغَیُّظࣰا وَزَفِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق