الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا رَأتْهُمْ﴾ إلى آخِرِهِ صِفَةً لِلسَّعِيرِ والتَّأْنِيثِ بِاعْتِبارِ النّارِ، وقِيلَ لِأنَّهُ عَلِمَ لِجَهَنَّمَ كَما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ، وفِيهِ أنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لامْتَنَعَ دُخُولَ ألْ عَلَيْهِ ولَمُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ والعَلَمِيَّةِ. وأُجِيبُ بِأنَّ دُخُولَ ألْ لِلَمْحِ الصِّفَةِ وهي تَدْخُلُ الإعْلامَ لِذَلِكَ كالحَسَنِ والعَبّاسِ وبِأنَّهُ صُرِّفَ لِلتَّناسُبِ ورِعايَةِ الفاصِلَةِ. أوْ لِتَأْوِيلِهِ بِالمَكانِ وتَأْنِيثِهِ هُنا لِلتَّفَنُّنِ، وإسْنادُ الرُّؤْيَةِ إلَيْها حَقِيقَةٌ عَلى ما هو الظّاهِرُ وكَذا نِسْبَةُ التَّغَيُّظِ والزَّفِيرِ فِيما بَعْدُ إذْ لا امْتِناعَ في أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعالى النّارَ حَيَّةً مُغْتاظَةً زافِرَةً عَلى الكُفّارِ فَلا حاجَةَ إلى تَأْوِيلِ الظَّواهِرِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ لَها إدْراكًا كَهَذِهِ الآيَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وتَقُولُ هَلِ مِن مَزِيدٍ﴾ [قْ: 30] وقَوْلُهُ ﷺ كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ ««شَكَتِ النّارُ إلى رَبِّها فَقالَتْ: رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بِعَضًا فَأذَنَ لَها بِنَفْسَيْنِ نَفَسٌ في الشِّتاءِ ونَفَسٌ في الصَّيْفِ»» إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وإذا صَحَّ ما أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدُويَهٍ مِن طَرِيقِ مَكْحُولٍ عَنْ أبِي أمامَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن بَيْنِ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لِجَهَنَّمَ مِن عَيْنٍ؟ قالَ: نَعَمْ أمّا سَمِعْتُمُ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: ﴿إذا رَأتْهم مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ فَهَلْ تَراهم إلّا بِعَيْنَيْنِ»» كانَ ما قُلْناهُ هو الصَّحِيحُ. وإسْنادُها إلَيْها لا إلَيْهِمْ لِلْإيذانِ بِأنَّ التَّغَيُّظَ والزَّفِيرَ مِنها لِهَيَجانِ غَضَبِها عَلَيْهِمْ عِنْدَ رُؤْيَتِها إيّاهم ﴿مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ هو أقْصى ما يُمْكِنُ أنْ يَرى مِنهُ، ورُوِيَ أنَّهُ هُنا مَسِيرَةُ خَمْسَمِائَةِ عامٍ. وأخْرَجَ آدَمُ بْنُ أبِي إياسٍ في تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ مَسِيرَةَ مِائَةِ عامٍ وحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ السَّدِّيِّ والكَلْبِيِّ ورُوِيَ أيْضًا عَنْ كَعْبٍ، وقِيلَ: مَسِيرَةُ سَنَةٍ وحَكاهُ الطَّبَرْسِيُّ عَنِ الإمامِ أبِي عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ونَسَبَهُ في إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ الى السَّدِّيِّ. والكَلْبِيُّ ﴿سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا﴾ أيْ صَوْتِ تَغَيُّظٍ لِيَصِحَّ تَعَلُّقُ السَّماعِ بِهِ. وفي مُفْرَداتِ الرّاغِبِ الغَيْظُ أشَدُّ الغَضَبِ والتَّغَيُّظُ هو إظْهارُ الغَيْظِ وقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ صَوْتٍ مَسْمُوعٍ كَما في هَذِهِ الآيَةِ، وقِيلَ: أُرِيدَ بِالسَّماعِ مُطْلَقَ الإدْراكِ كَأنَّهُ قِيلَ: أدْرَكُوا لَها تَغَيُّظًا ﴿وزَفِيرًا﴾ هو إخْراجُ النَّفْسِ بَعْدَ مُدَّةٍ عَلى ما في القامُوسِ، وقالَ الرّاغِبُ: هو تَرْدِيدُ النَّفْسِ حَتّى تَنْتَفِخَ الضُّلُوعُ مِنهُ وشاعَ اسْتِعْمالُهُ في نَفْسِ صَوْتِ ذَلِكَ النَّفْسِ، ولا شُبْهَةَ في أنَّهُ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِهِ السَّماعُ ولِذا اسْتَشْكِلُوا تَعَلُّقَ السَّماعِ بِالتَّغَيُّظِ دُونَ الزَّفِيرِ فَأوَّلُوا لِذَلِكَ بِما سَمِعْتَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ ما ذُكِرَ مِن قُبَيْلِ قَوْلِهِ: ؎ورَأيْتَ زَوْجَكَ قَدْ غَدًا مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحًا وهُوَ بِتَقْدِيرِ سَمِعُوا لَها وأدْرَكُوا تَغَيُّظًا وزَفِيرًا ويُعادُ كُلٌّ إلى ما يُناسِبُهُ. ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: الكَلامُ خارِجٌ مَخْرَجَ المُبالِغَةِ بِجَعْلِ التَّغَيُّظِ مَعَ أنَّهُ لَيْسَ مَنِ المَسْمُوعاتِ مَسْمُوعًا، والتَّنْوِينُ فِيهِ وفي ( زَفِيرًا ) لِلتَّفْخِيمِ. وقَدْ جاءَ في الآثارِ ما يَدُلُّ عَلى شِدَّةِ زَفِيرِها أعاذَنا اللَّهُ تَعالى مِنها، فَفي خَبَرٍ أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ (p-243)بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها تَزْفِرُ زَفْرَةً لا يَبْقى أحَدٌ إلّا خافَ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُما عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أنَّهُ قالَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَمِعُوا لَها﴾ إلَخْ: إنَّ جَهَنَّمَ لَتَزْفِرُ زَفْرَةً لا يَبْقى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إلّا تُرْعِدُ فَرائِصَهُ حَتّى أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِيَجْثُوَ عَلى رُكْبَتَيْهِ ويَقُولَ: يا رَبِّ لا أسْألُكَ اليَوْمَ إلّا نَفْسِي. وأخْرَجَ أبُو نَعِيمٍ عَنْ كَعْبٍ قالَ: إذا كانَ يَوْمَ القِيامَةِ جَمَعَ اللَّهُ تَعالى الأوَّلِينَ والآخَرِينَ في صَعِيدٍ واحِدٍ فَنَزَلَتِ المَلائِكَةُ صُفُوفًا فَيَقُولُ اللَّهُ تَعالى لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ائْتِ بِجَهَنَّمَ فَيَأْتِي بِها ثُمَّ تُقادُ بِسَبْعِينَ ألْفَ زِمامٍ حَتّى إذا كانَتْ مِنَ الخَلائِقِ عَلى قَدْرِ مِائَةِ عامٍ زَفَرَتْ زَفْرَةً طارَتْ لَها أفْئِدَةُ الخَلائِقِ ثُمَّ زَفَرَتْ ثانِيَةً فَلا يَبْقى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إلّا جَثا لِرُكْبَتَيْهِ ثُمَّ تَزْفِرُ الثّالِثَةَ فَتَبْلُغُ القُلُوبُ الحَناجِرَ وتَذْهَلُ العُقُولُ فَيَفْزَعُ كُلُّ امْرِئٍ إلى عَمَلِهِ حَتّى أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: بِخِلَّتِي لا أسْألُكَ إلّا نَفْسِي ويَقُولُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: بِمُناجاتِي لا أسْألُكَ إلّا نَفْسِي ويَقُولُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ: بِما أكْرَمْتَنِي لا أسْألُكَ إلّا نَفْسِي لا أسْألُكَ مَرْيَمَ الَّتِي ولَدَتْنِي ومُحَمَّدٌ ﷺ يَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي لا أسْألُكَ اليَوْمَ نَفْسِي فَيُجِيبُهُ الجَلِيلُ جَلَّ جَلالُهُ إنَّ أوْلِيائِي مِن أُمَّتِكَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ فَوَعِزَّتِي لِأُقِرَنَّ عَيْنَكَ ثُمَّ تَقِفُ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعالى يَنْتَظِرُونَ ما يُؤَمِّرُونَ. وهَذِهِ الأخْبارُ ظاهِرَةٌ في أنَّ النّارَ هي الَّتِي تَزْفِرُ وأنَّ الزَّفِيرَ عَلى حَقِيقَتِهِ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ زَفِيرَها صَوْتُ لَهِيبِها واشْتِعالِها، وقِيلَ: إنَّ كُلًّا مِنَ الرُّؤْيَةِ والتَّغَيُّظِ والزَّفِيرِ لِزَبانِيَتِها ونِسْبَتِهِ إلَيْها عَلى حَذْفِ المُضافِ ونُقِلَ ذَلِكَ عَنِ الجِبائِيِّ، وقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿رَأتْهُمْ﴾ مِن قَوْلِهِ ﷺ «إنَّ المُؤْمِنَ والكافِرَ لا تَتَراءى ناراهُما» وقَوْلُهُمْ: دَوْرُهم تَتَراءى وتَتَناظَرُ كانَ بَعْضُها يَرى بَعْضًا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ بِالكِنايَةِ والمَجازِ المُرْسَلِ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ مِن بابِ التَّمْثِيلِ، وأيًّا ما كانَ فالمُرادُ إذا كانَتْ بِمَرْأى مِنهُمْ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا﴾ عَلى تَشْبِيهِ صَوْتِ غَلَيانِها بِصَوْتِ المُغْتاظِ وزَفِيرُهُ وفِيهِ اسْتِعارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ أوْ مُكَنِّيَةٌ وجَوَّزَ أنَّ تَكُونَ تَمْثِيلِيَّةً، وقَدْ ذَكَرَ هَذا التَّأْوِيلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مُقَدَّمًا لَهُ وذَكَرَ بَعْضُ الأئِمَّةِ أنَّ هَذا مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ لِأنَّهم جَعَلُوا البِنْيَةَ شَرْطًا في الحَياةِ. وفِي الكَشْفِ الأشْبَهِ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِأنَّ البِنْيَةَ شَرْطٌ ومِن أيْنَ العِلْمُ بِأنَّ بِنْيَةَ نارِ الآخِرَةِ بِحَيْثُ لا تَسْتَعِدُّ لِلْحَياةِ بَلْ لِأنَّهُ لا بُدَّ مِنِ ارْتِكابِ خِلافِ الظّاهِرِ مِن جَعْلِ الشَّيْءِ المَعْرُوفِ جَمادِيَّتِهِ حَيًّا ناطِقًا فَكانَ خَبَرًا عَلى خِلافِ المُعْتادِ أوِ الحَمْلِ عَلى المَجازِ التَّمْثِيلِيِّ الشّائِعِ في كَلامِهِمْ لا سِيَّما في كَلامِ اللَّهِ تَعالى ورُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وإذْ لاحَ الوَجْهُ فَكُنِ الحاكِمَ في تَرْكِ الظّاهِرِ إلى هَذا أوْ ذاكَ، وفَتْحُ هَذا البابِ لا يَجُرُّ إلى مَذْهَبِ الفَلاسِفَةِ كَما تَوَهَّمَ صاحِبُ الِانْتِصافِ ولا يُخالِفُ تَعَبُّدَنا بِالظَّواهِرِ فَإنَّ ما يَدْعُونَهُ أيْضًا لَيْسَ بِظاهِرٍ انْتَهى، وأنْتَ تَعْلَمُ بَعْدَ الإغْماضِ عَنِ المُناقَشَةِ فِيما ذُكِرَ أنَّ الحَمْلَ عَلى الحَقِيقَةِ هُنا أبْلَغُ في التَّهْوِيلِ ولَعَلَّهُ يُهَوِّنُ أمْرَ الخَبَرِ عَلى خِلافِ المُعْتادِ وهَذا إنْ لَمْ يَصِحَّ الخَبَرُ السّابِقُ أمّا إذا صَحَّ فَلا يَنْبَغِي العُدُولُ عَمّا يَقْتَضِيهِ ولَيْسَ لِأحَدٍ قَوْلٌ مَعَ قَوْلِهِ ﷺ فَإنَّهُ الأعْلَمُ بِظاهِرِ الكِتابِ وخافِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب