الباحث القرآني
﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا﴾ .
افْتِتاحٌ بَدِيعٌ لِنُدْرَةِ أمْثالِهِ في كَلامِ بُلَغاءِ العَرَبِ؛ لِأنَّ غالِبَ فَواتِحِهِمْ أنْ تَكُونَ بِالأسْماءِ مُجَرَّدَةً أوْ مُقْتَرِنَةً بِحَرْفٍ غَيْرِ مُنْفَصِلٍ، مِثْلَ قَوْلِ طَرَفَةَ:
؎لِخَوْلَةَ أطْلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ
أوْ بِأفْعالِ المُضارَعَةِ ونَحْوِها كَقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: (قِفا نَبْكِ) البَيْتَ، أوْ بِحُرُوفِ التَّأْكِيدِ أوْ الِاسْتِفْهامِ أوِ التَّنْبِيهِ مِثْلَ (إنَّ) و(قَدْ) والهَمْزَةُ و(هَلْ) . ومِن قَبِيلِ هَذا الِافْتِتاحِ قَوْلُ الحارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ.
؎آذَنَتْنا بِبَيْنِها أسْماءُ
وقَوْلُ النّابِغَةِ:
؎كَتَمْتُكَ لَيْلًا بِالجَمُومَيْنِ ساهِرًا ∗∗∗ وهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنًّا وظاهِرا
.
وبِهَذِهِ النُّدْرَةِ يَكُونُ في طالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ بَراعَةُ المَطْلَعِ؛ لِأنَّ النُّدْرَةَ مِنَ (p-٣١٦)العِزَّةِ، والعِزَّةُ مِن مَحاسِنِ الألْفاظِ وضِدُّها الِابْتِذالُ.
وتَبارَكَ: تَعاظَمَ خَيْرُهُ وتَوَفَّرَ، والمُرادُ بِخَيْرِهِ كَمالاتُهُ وتَنَزُّهاتُهُ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٥٤] في سُورَةِ الأعْرافِ.
والبَرَكَةُ: الخَيْرُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وبَرَكاتٍ عَلَيْكَ﴾ [هود: ٤٨] في سُورَةِ هُودٍ وعِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿تَحِيَّةً مِن عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: ٦١] في سُورَةِ النُّورِ.
وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ﴾ أنَّهُ إخْبارٌ عَنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وتَوَفُّرِ كَمالاتِهِ فَيَكُونُ المَقْصُودُ بِهِ التَّعْلِيمُ والإيقاظُ، ويَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ كِنايَةً عَنْ إنْشاءِ ثَناءٍ عَلى اللَّهِ تَعالى أنْشَأ اللَّهُ بِهِ ثَناءً عَلى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] عَلى طَرِيقَةِ الكَلامِ العَرَبِيِّ في إنْشاءِ التَّعَجُّبِ مِن صِفاتِ المُتَكَلِّمِ في مَقامِ الفَخْرِ والعَظَمَةِ، أوْ إظْهارِ غَرائِبَ صَدَرَتْ، كَقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ:
؎ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذارى مَطِيَّتِي ∗∗∗ فِيا عَجَبًا مِن كَوْرِها المُتَحَمِّلِ
وإنَّما يَتَعَجَّبُ مِن إقْدامِهِ عَلى أنْ جَعَلَ كَوْرَ المَطِيَّةِ يَحْمِلُهُ هو بَعْدَ عَقْرِها. ومِنهُ قَوْلُ الفِنْدِ الزِّمّانِيِّ:
؎أيا طَعْنَةَ ما شَيْخٍ ∗∗∗ كَبِيرٍ يَفَنٍ بالِي
يُرِيدُ طَعْنَةً طَعَنَها قِرْنَهُ.
والَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ هو اللَّهُ تَعالى. وإذْ قَدْ كانَتِ الصِّلَةُ مِن خَصائِصِ اللَّهِ تَعالى كانَ الفِعْلُ كالمُسْنَدِ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: تَبارَكَتْ.
والمَوْصُولُ يُومِئُ إلى عِلَّةِ ما قَبْلَهُ، فَهو كِنايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الفُرْقانِ وبَرَكَتِهِ عَلى النّاسِ مِن قَوْلِهِ: ﴿لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا﴾ . فَتِلْكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ تُوجِبُ الثَّناءَ عَلى اللَّهِ. وهو أيْضًا كِنايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
والتَّعْرِيفُ بِالمَوْصُولِ هُنا لِكَوْنِ الصِّلَةِ مِن صِفاتِ اللَّهِ في نَفْسِ الأمْرِ وعِنْدَ المُؤْمِنِينَ وإنْ كانَ الكُفّارُ يُنْكِرُونَها لَكِنَّهم يَعْرِفُونَ أنَّ الرَّسُولَ أعْلَنَها فاللَّهُ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ عِنْدَهم مَعْرِفَةً بِالوَجْهِ لا بِالكُنْهِ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ.
(p-٣١٧)والفُرْقانُ: القُرْآنُ وهو في الأصْلِ مَصْدَرُ فَرَّقَ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿وما أنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ﴾ [الأنفال: ٤١] وقَوْلِهِ: ﴿يَجْعَلْ لَكم فُرْقانًا﴾ [الأنفال: ٢٩] . وجُعِلَ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ عَلى القُرْآنِ؛ لِأنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ لِما بَيَّنَ مَن دَلائِلِ الحَقِّ ودَحْضِ الباطِلِ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى (وأنْزَلَنا الفُرْقانَ) في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
وإيثارُ اسْمِ الفُرْقانِ بِالذِّكْرِ هُنا لِلْإيماءِ إلى أنَّ ما سَيُذْكَرُ مِنَ الدَّلائِلِ عَلى الوَحْدانِيَّةِ وإنْزالِ القُرْآنِ دَلائِلُ قَيِّمَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ.
ووَصْفُ النَّبِيءِ بِـ (عَبْدِهِ) تَقْرِيبٌ لَهُ وتَمْهِيدٌ لِإبْطالِ طَلَبِهِمْ مِنهُ في قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا ما لِهَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ [الفرقان: ٧] الآيَةَ.
والمُرادُ بِـ (العالَمِينَ) جَمِيعُ الأُمَمِ مِنَ البَشَرِ؛ لِأنَّ العالَمَ يُطْلَقُ عَلى الجِنْسِ وعَلى النَّوْعِ وعَلى الصِّنْفِ بِحَسَبِ ما يَسْمَحُ بِهِ المَقامُ، والنِّذارَةُ لا تَكُونُ إلّا لِلْعُقَلاءِ مِمَّنْ قُصِدُوا بِالتَّكْلِيفِ. وقَدْ مَضى الكَلامُ عَلى لَفْظِ (العالَمِينَ) في سُورَةِ الفاتِحَةِ.
والنَّذِيرُ: المُخْبِرُ بِسُوءٍ يَقَعُ، وهو فَعِيلٌ بِمَعْنى مُفْعِلٌ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ مِثْلَ الحَكِيمِ. والِاقْتِصارُ في وصْفِ الرَّسُولِ هُنا عَلى النَّذِيرِ دُونَ البَشِيرِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا كافَّةً لِلنّاسِ بَشِيرًا ونَذِيرًا﴾ [سبإ: ٢٨]؛ لِأنَّ المَقامَ هُنا لِتَهْدِيدِ المُشْرِكِينَ؛ إذْ كَذَّبُوا بِالقُرْآنِ وبِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. فَكانَ مُقْتَضِيًا لِذِكْرِ النِّذارَةِ دُونَ البِشارَةِ، وفي ذَلِكَ اكْتِفاءٌ؛ لِأنَّ البِشارَةَ تَخْطُرُ بِبالِ السّامِعِ عِنْدَ ذِكْرِ النِّذارَةِ. وسَيَجِيءُ ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا مُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٦] في هَذِهِ السُّورَةِ.
وفِي هَذِهِ الآيَةِ جَمَعَ بَيْنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ القُرْآنِ وأنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ وتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ورِفْعَةِ مَنزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وعُمُومِ رِسالَتِهِ.
{"ayah":"تَبَارَكَ ٱلَّذِی نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِیَكُونَ لِلۡعَـٰلَمِینَ نَذِیرًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق