الباحث القرآني

(p-٣٢٩)سُورَةُ الفُرْقانِ مَقْصُودُها إنْذارُ عامَّةِ المُكَلَّفِينَ بِما لَهُ سُبْحانَهُ مِنَ القُدْرَةِ الشّامِلَةِ، المُسْتَلْزِمِ لِلْعِلْمِ التّامِّ، المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِهَذا القُرْآنِ المُبَيِّنِ، المُسْتَلْزِمِ لِأنَّهُ لا مُوجِدَ عَلى الحَقِيقَةِ سِواهُ، فَهو الحَقُّ، وما سِواهُ باطِلٌ؛ وتَسْمِيَتُها بِالفُرْقانِ واضِحُ الدَّلالَةِ عَلى ذَلِكَ، فَإنَّ الكِتابَ ما نَزَلَ إلّا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ المُلْتَبِساتِ، وتَمْيِيزِ الحَقِّ مِنَ الباطِلِ) ﴿لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيا مَن حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢] فَلا يَكُونُ لِأحَدٍ عَلى اللَّهِ حُجَّةً بِسْمِ اللَّهِ (الَّذِي لَهُ الحُجَّةُ البالِغَةُ، لِإحاطَةِ عَظَمَتِهِ، وشُمُولِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ) الرَّحْمَنِ (الَّذِي عَمَّ بِنِعَمِهِ الفُرْقانُ، أهْلَ الإيمانِ والكُفْرانِ) الرَّحِيمِ (الَّذِي خَصَّ مَن شاءَ مِن عِبادِهِ بِمَلابِسَ الرِّضْوانِ. لَمّا خَتَمَ سُبْحانَهُ تِلْكَ بِسَعَةِ المِلْكِ، وشُمُولِ العِلْمِ، وتَعْظِيمِ الرَّسُولِ، (p-٣٣٠)والتَّهْدِيدِ لِمَن تَجاوَزَ الحَدَّ، افْتَتَحَ هَذِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلى وجْهٍ - مَعَ كَوْنِهِ أضْخَمَ مِنهُ - هو بُرْهانٌ عَلَيْهِ فَقالَ ﴿تَبارَكَ﴾ أيْ ثَبَتَ ثُبُوتًا مَعَ اليُمْنِ والخَيْرِ الَّذِي بِهِ سَبَقَتِ الرَّحْمَةُ الغَضَبَ، والتَّعالِي في الصِّفاتِ والأفْعالِ، فَلا ثُبُوتَ يُدانِيهِ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ إلّا بِتَمامِ قُدْرَتِهِ، ولا تَتِمُّ قُدْرَتُهُ إلّا بِشُمُولِ عِلْمِهِ، وهَذا الفِعْلُ مُطاوِعُ ”بارَكَ“ وهو مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعالى لَمْ يُسْتَعْمَلْ لِغَيْرِهِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِفْ لِمُسْتَقْبَلٍ ولا اسْمِ فاعِلٍ؛ ثُمَّ وصَفَ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ بِما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ فَقالَ: ﴿الَّذِي﴾ ولَمّا كانَ تَكْرارُ الإنْذارِ - الَّذِي هو مَقْصُودُ السُّورَةِ - أنْفَعَ، وتَفْرِيقُهُ في أوْقاتٍ مُتَراسِلَةٍ أصْدَعَ لِلْقُلُوبِ وأرْدَعَ، وكانَ إيضاحُ المُشْكِلاتِ، في الفَرْقِ بَيْنَ المُلْتَبِساتِ، أعَوْنَ بِما يَكُونُ عِلَّةً، عَبَّرَ بِما يَدُلُّ عَلى الفَرْقِ وقَدَّمَهُ فَقالَ: ﴿نَـزَّلَ الفُرْقانَ﴾ أيِ الكِتابَ الَّذِي نَزَلَ إلى سَماءِ الدُّنْيا فَكانَ كِتابًا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَرَّقًا بِحَسَبِ المَصالِحِ، فَسُمِّيَ لِذَلِكَ فُرْقانًا، ولِأنَّهُ الفارِقُ بَيْنَ مُلْتَبِسٍ، فَلا يَدَعُ خَفاءً إلّا بَيْنَهُ، ولاحِقًا إلّا أثْبَتَهُ، ولا باطِلًا إلّا نَفاهُ ومَحَقَهُ، فِيهِ انْتِظامُ الحَياةِ الأُولى (p-٣٣١)والأُخْرى، فَكانَ قاطِعًا عَلى عِلْمِ مُنْزِلِهِ، ومِن عِلْمِهِ الباهِرِ إنْزالُهُ ﴿عَلى عَبْدِهِ﴾ أيِ الَّذِي لا أحَقَّ مِنهُ بِإضافَتِهِ إلى ضَمِيرِهِ الشَّرِيفِ، لِأنَّهُ خالِصٌ لَهُ، لا شائِبَةَ لِغَيْرِهِ فِيهِ أصْلًا، ولَمْ يَحُزْ مَخْلُوقٌ ما حازَ مِن طَهارَةِ الشِّيَمِ، وارْتِفاعِ الهِمَمِ، ولا شَكَّ أنَّ الرَّسُولَ دالٌّ عَلى مُرْسِلِهِ في مِقْدارِ عِلْمِهِ، وكَثْرَةِ جُنْدِهِ، واتِّساعِ مِلْكِهِ ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] ثُمَّ عَلَّلَ إنْزالَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَكُونَ﴾ أيِ العَبْدُ أوِ الفُرْقانِ. ولَمّا كانَ العالِمُ ما سِوى اللَّهِ، وكانَ رُبَّما ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ المُرادَ البَعْضُ، لِأنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ اللَّفْظُ عَلى جُزْءِ مَعْناهُ بِدَلالَةِ التَّضَمُّنِ، وكانَ الجَمْعُ لا بُدَّ أنْ يُفِيدَ ما أفادَهُ المُفْرَدُ بِزِيادَةٍ، جَمَعَ لِيَعْرِفَ أنَّ المُرادَ المَدْلُولُ المُطابَقِيُّ، مَعَ التَّصْرِيحِ بِاسْتِغْراقِ جَمِيعِ الأنْواعِ الدّاخِلَةِ تَحْتَ مَفْهُومِ المُفْرَدِ، واخْتارَ جَمْعَ العُقَلاءِ تَغْلِيبًا، إعْلامًا بِأنَّهُمُ المَقْصُودُونَ بِالذّاتِ فَقالَ: ﴿لِلْعالَمِينَ﴾ أيِ المُكَلَّفِينَ كُلِّهِمْ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والمَلائِكَةِ. ولَمّا كانَ كُلٌّ مِنَ الكِتابِ والمُنَزَّلُ عَلَيْهِ بالِغًا في مَعْناهُ، عَبَّرَ بِما يَصِحُّ أنْ يُرادَ بِهِ المُنْذَرُ والإنْذارُ عَلى وجْهِ المُبالِغَةِ فَقالَ: ﴿نَذِيرًا﴾ أيْ وبَشِيرًا، وإنَّما اقْتَصَرَ عَلى النِّذارَةِ لِلْإشارَةِ إلى البِشارَةِ بِلَفْظِ ”تُبارِكُ“ ولِأنَّ المَقامَ لَها، لَمّا خَتَمَ بِهِ تِلْكَ مِن إعْراضِ المُتَوَلِّينَ عَنِ الأحْكامِ، (p-٣٣٢)ونَفى الإيمانَ عَنْهم بِانْتِفاءِ الإسْلامِ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى كَثْرَةِ المُسْتَحِقِّينَ لِلنِّذارَةِ، ولا التِفاتَ إلى مَن قالَ: إنَّ الرّازِي والبُرْهانَ النَّسْفِيَّ نَقَلا الإجْماعَ عَلى أنَّهُ ﷺ لَمْ يُرْسِلِ المَلائِكَةَ، فَإنَّ عِبارَةَ الرّازِي في بَعْضِ نُسَخِ تَفْسِيرِهِ: لَكُنّا أجْمَعْنا عَلى أنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ إلى المَلائِكَةِ، وفي أكْثَرِ النُّسَخِ: بَيَّنا - بَدَلَ: أجْمَعْنا، عَلى أنَّهُ لَوِ اتَّفَقَتْ جَمِيعُ النُّسَخِ عَلَيْها لَمْ تَضُرَّ، لِأنَّها غَيْرُ صَرِيحَةٍ في إرادَةِ الإجْماعِ، ولِأنَّ الإجْماعَ لا يَثْبُتُ بِنَقْلٍ واحِدٍ لا سِيَّما في مِثْلِ هَذا الَّذِي تَظافَرَتِ الظَّواهِرُ عَلى خِلافِهِ، ولَمْ يَرِدْ مانِعٌ مِنهُ، وأمّا البُرْهانُ النَّسْفِيُّ فَمِنَ الرّازِّي أخَذَ، وعَبَّرَ بِعِبارَتِهِ، فَصارا واحِدًا، وقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الأنْعامِ ﴿لأُنْذِرَكم بِهِ ومَن بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩] بَيانًا شافِيًا لا ارْتِيابَ مَعَهُ، بَلْ ولَوْ قِيلَ: إنَّ الآيَةَ عَلى ظاهِرِها، لا خُصُوصَ فِيها بِالعُقَلاءِ، وتَكْلِيفُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، لَكانَ وجْهًا، وبِذَلِكَ صَرَّحَ الإمامُ تاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ في أوَّلِ التَّرْشِيحِ في قَوْلِهِ: ”وأُصَلِّي عَلى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ المُصْطَفى المَبْعُوثِ إلى كُلِّ شَيْءٍ“ وكَذَلِكَ المُحِبُّ الطَّبَرِيُّ في آخِرِ ”القُرى لِقاصِدِي أُمِّ القُرى“ وذَلِكَ لِأنَّهُ ﷺ ما دَعا جامِدًا (p-٣٣٣)ولا مُتَحَرِّكًا غَيْرَ الإنْسانِ إلّا أجابَهُ بِما هو مُقْتَضى ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها﴾ [الأحزاب: ٧٢] دَعا غَيْرَ مَرَّةٍ عِدَّةً مِن أغْصانِ الأشْجارِ فَأتَتْهُ تَسْجُدُ لَهُ، ثُمَّ أمَرَها بِأنْ تَرْجِعَ إلى مَكانِها فَفَعَلَتْ؛ ودَعا الضَّبَّ وغَيْرَهُ مِنَ الحَيَواناتِ العُجْمِ فَأطاعَتْهُ؛ ودَعا الأشْجارَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَسَمِعَتْ وسَعَتْ إلَيْهِ؛ وأمَرَ الجَبَلَ لَمّا رَجَفَ فَأذْعَنَ؛ وأرْسَلَ إلى نَخْلٍ وأحْجارٍ يَأْمُرُهُنَّ بِالِاجْتِماعِ لِيَقْضِيَ إلَيْهِنَّ حاجَةً فَفَعَلْنَ، ثُمَّ أرْسَلَ يَأْمُرُهُنَّ بِالرُّجُوعِ إلى أماكِنِهِنَّ فَأجَبْنَ؛ وغَمَزَ الأرْضَ فَنَبَعَ مِنها الماءَ؛ وأرْسَلَ سَهْمَهُ إلى البِئْرِ فَجاشَتْ بِالرِّواءِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا هو مُضَمَّنٌ في دَلائِلَ النُّبُوَّةِ، بَلْ ولا دَعا طِفْلًا رَضِيعًا إلّا شَهِدَ لَهُ لِكَوْنِهِ عَلى الفِطْرَةِ الأُولى - إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا هو دالٌّ عَلى ظاهِرِ الآيَةِ المُقْتَضِي لِزِيادَةِ شَرَفِهِ ﷺ مِن غَيْرِ مَحْذُورٍ يَلْزَمُ عَلَيْهِ ولا نَصٍّ يُخالِفُهُ - واللَّهُ الهادِي. وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ في بُرْهانِهِ: لِما تَضَمَّنَتْ سُورَةُ (p-٣٣٤)النُّورِ بَيانَ كَثِيرٍ مِنَ الأحْكامِ كَحُكْمِ الزِّنى، ورَمْيِ الزَّوْجاتِ بِهِ، والقَذْفِ، والِاسْتِئْذانِ، والحِجابِ، وإسْعافِ الفَقِيرِ، والكِتابَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ، والكَشْفِ عَنْ مُغَيَّباتٍ، مِن تَغايُرِ حالاتٍ، تَبَيَّنَ بِمَعْرِفَتِها والِاطِّلاعِ عَلَيْها الخَبِيثُ مِنَ الطِّيبِ، كَإطْلاعِهِ سُبْحانَهُ نَبِيَّهُ والمُؤْمِنِينَ عَلى ما تَقَوَّلَهُ أهْلُ الإفْكِ، وبَيانِ سُوءِ حالِهِمْ، واضْمِحْلالِ مِحالِهِمْ، في قِصَّةِ المُنافِقِينَ في إظْهارِهِمْ ضِدَّ ما يُضْمِرُونَ؛ ثُمَّ كَرِيمِ وعْدِهِ لِلْخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ [النور: ٥٥] ثُمَّ ما فَضَحَ بِهِ تَعالى مُنافِقِي الخَنْدَقِ ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكم لِواذًا﴾ [النور: ٦٣] إلى آخِرِ الآيَةِ، فَكانَ مَجْمُوعُ هَذا فُرْقانًا يَعْتَضِدُ بِهِ الإيمانُ، ولا يُنْكِرُهُ مُقِرٌّ بِالرَّحْمَنِ، يَشْهَدُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِصِحَّةِ رِسالَتِهِ، ويُوَضِّحُ مُضَمَّنُ قَوْلِهِ ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ﴾ [النور: ٦٣] مِن عَظِيمِ قَدْرِهِ ﷺ وعَلِيِّ جَلالَتِهِ، أتْبَعَهُ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَـزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ﴾ وهو القُرْآنُ الفارِقُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، والمُطْلِعُ عَلى ما أخَفاهُ المُنافِقُونَ وأبْطَنُوهُ مِنَ المَكْرِ والكُفْرِ ﴿لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا﴾ فَيُحَذِّرُهم مِن مُرْتَكَباتِ المُنافِقِينَ والتَّشَبُّهِ بِهِمْ؛ ثُمَّ تَناسَجَ الكَلامُ، (p-٣٣٥)والتَحَمَ جَلِيلُ المَعْهُودِ مِن ذَلِكَ النِّظامِ، وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ النَّعْيِ عَلى الكُفّارِ والتَّعْرِيفِ بِبُهْتِهِمْ وسُوءِ مُرْتَكَبِهِمْ ما لَمْ يَتَضَمَّنْ كَثِيرٌ مِن نَظائِرِها كَقَوْلِهِمْ ﴿مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ [الفرقان: ٧] الآياتِ، وقَوْلِهِمْ ﴿لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْنا المَلائِكَةُ أوْ نَرى رَبَّنا﴾ [الفرقان: ٢١] وقَوْلِهِمْ ﴿لَوْلا نُـزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢] وقَوْلِهِمْ ﴿وما الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان: ٦٠] إلى ما عَضَّدَ هَذِهِ وتَخَلَّلَها، ولِهَذا خُتِمَتْ بِقاطِعِ الوَعِيدِ، وأشَدِّ التَّهْدِيدِ، وهو قَوْلُهُ سُبْحانَهُ ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا﴾ [الفرقان: ٧٧] انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب