الباحث القرآني

﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ آمِنُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا ويَكْفُرُونَ بِما وراءَهُ وهو الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهم قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِئاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿ولَمّا جاءَهم كِتابٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٨٩] المَعْطُوفِ عَلى قَوْلِهِ ﴿وقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] وبِهَذا الِاعْتِبارِ يَصِحُّ اعْتِبارُهُ مَعْطُوفًا عَلى ﴿وقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] عَلى المَعْرُوفِ في اعْتِبارِ العَطْفِ عَلى ما هو مَعْطُوفٌ وهَذا كُلُّهُ مِن عَطْفِ حِكاياتِ أحْوالِهِمْ في مَعاذِيرِهِمْ عَنِ الإعْراضِ عَنِ الدَّعْوَةِ الإسْلامِيَّةِ فَإذا دُعُوا قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ، وإذا سَمِعُوا الكِتابَ أعْرَضُوا عَنْهُ بَعْدَ أنْ كانُوا مُنْتَظِرِيهِ حَسَدًا أنْ نَزَلَ عَلى رَجُلٍ مِن غَيْرِهِمْ، وإذا وُعِظُوا وأُنْذِرُوا ودُعُوا إلى الإيمانِ بِالقُرْآنِ وبِأنَّهُ أنْزَلَهُ اللَّهُ وأنْ يَنْظُرُوا في دَلائِلِ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ أعْرَضُوا وقالُوا ﴿نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا﴾ أيْ بِما أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلى رَسُولِنا مُوسى، وهَذا هو مَجْمَعُ ضَلالاتِهِمْ ومَنبَعُ عِنادِهِمْ فَلِذَلِكَ تَصَدّى القُرْآنُ لِتَطْوِيلِ المُحاجَّةِ فِيهِ بِما هُنا وما بَعْدَهُ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ الآتِي ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦] الآياتِ. (p-٦٠٧)وقَوْلُهم ﴿نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا﴾ أرادُوا بِهِ الِاعْتِذارَ وتَعِلَّةَ أنْفُسِهِمْ لِأنَّهم لَمّا قِيلَ لَهم آمِنُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ عَلِمُوا أنَّهم إنِ امْتَنَعُوا امْتِناعًا مُجَرَّدًا عُدَّتْ عَلَيْهِمْ شَناعَةُ الِامْتِناعِ مِنَ الإيمانِ بِما يُدَّعى أنَّهُ أنْزَلَهُ اللَّهُ فَقالُوا في مَعْذِرَتِهِمْ ولِإرْضاءِ أنْفُسِهِمْ نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أيْ أنَّ فَضِيلَةَ الِانْتِسابِ لِلْإيمانِ بِما أنْزَلَ اللَّهُ قَدْ حَصَلَتْ لَهم أيْ فَنَحْنُ نَكْتَفِي بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وزادُوا إذْ تَمَسَّكُوا بِذَلِكَ ولَمْ يَرْفُضُوهُ. وهَذا وجْهُ التَّعْبِيرِ في الحِكايَةِ عَنْهم بِلَفْظِ المُضارِعِ نُؤْمِنُ أيْ نَدُومُ عَلى الإيمانِ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وقَدْ عَرَّضُوا بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِغَيْرِهِ لِأنَّ التَّعْبِيرَ بِنُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا في جَوابِ مَن قالَ لَهم ﴿آمِنُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ وقَدْ عُلِمَ أنَّ مُرادَ القائِلِ الإيمانُ بِالقُرْآنِ مُشْعِرٌ بِأنَّهم يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ فَقَطْ لِأنَّهم يَرَوْنَ الإيمانَ بِغَيْرِهِ مُقْتَضِيًا الكُفْرَ بِهِ فَها هُنا مُسْتَفادٌ مِن مَجْمُوعِ جُمْلَتَيْ آمِنُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ وجَوابِها بِقَوْلِهِمْ ﴿نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا﴾ وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ويَكْفُرُونَ بِما وراءَهُ﴾ جِيءَ بِالمُضارِعِ مُحاكاةً لِقَوْلِهِمْ نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وتَصْرِيحًا بِما لَوَّحُوا إلَيْهِ ورَدًّا عَلَيْهِمْ أيْ يَدُومُونَ عَلى الإيمانِ بِما أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ ويَكْفُرُونَ كَذَلِكَ بِما وراءَهُ فَهم يَرَوْنَ أنَّ الإيمانَ بِهِ مُقْتَضٍ لِلْكُفْرِ بِغَيْرِهِ عَلى أنَّ لِلْمُضارِعِ تَأْثِيرًا في مَعْنى التَّعَجُّبِ والغَرابَةِ. وفي قَرْنِهِ بِواوِ الحالِ إشْعارٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ وزادَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿وهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ﴾ والوَراءُ في الأصْلِ اسْمُ مَكانٍ لِلْجِهَةِ الَّتِي خَلْفَ الشَّيْءِ وهو عَرِيقٌ في الظَّرْفِيَّةِ ولَيْسَ أصْلُهُ مَصْدَرًا. جُعِلَ الوَراءُ مَجازًا أوْ كِنايَةً عَنِ الغائِبِ لِأنَّهُ لا يُبْصِرُهُ الشَّخْصُ واسْتُعْمِلَ أيْضًا مَجازًا عَنِ المُجاوِزِ لِأنَّ الشَّيْءَ إذا كانَ أمامَ السّائِرِ فَهو صائِرٌ إلَيْهِ فَإذا صارَ وراءَهُ فَقَدْ تَجاوَزَهُ وتَباعَدَ عَنْهُ قالَ النّابِغَةُ ؎ولَيْسَ وراءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَطْلَبُ . واسْتُعْمِلَ أيْضًا بِمَعْنى الطَّلَبِ والتَّعَقُّبِ تَقُولُ ورائِي فُلانٌ بِمَعْنى يَتَعَقَّبُنِي ويَطْلُبُنِي ومِنهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعالى ﴿وكانَ وراءَهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: ٧٩] وقَوْلُ لَبِيدٍ ؎ألَيْسَ ورائِي أنْ تَراخَتْ مَنِيَّتِي ∗∗∗ لُزُومَ العَصا تُحْنى عَلَيْها الأصابِعُ فَمِن ثَمَّ زَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الوَراءَ يُطْلَقُ عَلى الخَلْفِ والأمامِ إطْلاقَ اسْمِ الضِّدَّيْنِ واحْتَجَّ بِبَيْتِ لَبِيدٍ وبِقُرْآنِ وكانَ أمامَهم مَلِكٌ. وقَدْ عَلِمْتَ أنَّهُ لا حُجَّةَ فِيهِ ولِذَلِكَ أنْكَرَ الآمِدِيُّ في المُوازَنَةِ كَوْنَهُ ضِدًّا. فالمُرادُ بِما وراءَهُ في الآيَةِ بِما عَداهُ وتَجاوَزَهُ أيْ بِغَيْرِهِ والمَقْصُودُ بِهَذا الغَيْرِ هُنا خُصُوصُ (p-٦٠٨)القُرْآنِ بِقَرِينَةِ السِّياقِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ آمِنُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ ولِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ ﴿وهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا﴾ وجُمْلَةُ ”وهو الحَقُّ“ حالِيَّةٌ واللّامُ في الحَقِّ لِلْجِنْسِ والمَقْصُودُ اشْتِهارُ المُسْنَدِ إلَيْهِ بِهَذا الجِنْسِ أيْ وهو المُشْتَهِرُ بِالحَقِّيَّةِ المُسَلَّمِ ذَلِكَ لَهُ عَلى حَدِّ قَوْلِ حَسّانَ: ؎وإنَّ سَنامَ المَجْدِ مِن آلِ هاشِمٍ ∗∗∗ بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ ووالِدُكَ العَبْدُ لَمْ يُرِدْ حَسّانُ انْحِصارَ العُبُودِيَّةِ في الوالِدِ وإنَّما أرادَ أنَّهُ المَعْرُوفُ بِذَلِكَ المُشْتَهِرُ بِهِ فَلَيْسَتِ اللّامُ هُنا مُفِيدَةً لِلْحَصْرِ لِأنَّ تَعْرِيفَ المُسْنَدِ بِاللّامِ لا تَطَّرِدُ إفادَتُهُ الحَصْرَ عَلى ما في دَلائِلِ الإعْجازِ. وقِيلَ يُفِيدُ الحَصْرَ بِاعْتِبارِ القَيْدِ أعْنِي قَوْلَهُ مُصَدِّقًا أيْ هو المُنْحَصِرُ في كَوْنِهِ حَقًّا مَعَ كَوْنِهِ مُصَدِّقًا فَإنَّ غَيْرَهُ مِنَ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ حَقٌّ لَكِنَّهُ لَيْسَ مُصَدِّقًا لِما مَعَهم ولَعَلَّ صاحِبَ هَذا التَّفْسِيرِ يَعْتَبِرُ الإنْجِيلَ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لِتَصْدِيقِ التَّوْراةِ بَلْ مُقْتَصِرًا عَلى تَحْلِيلِ بَعْضِ المُحَرَّماتِ وذَلِكَ يُشْبِهُ عَدَمَ التَّصْدِيقِ. فَفِي الآيَةِ صَدٌّ لِبَنِي إسْرائِيلَ عَنْ مُقابَلَةِ القُرْآنِ بِمِثْلِ ما قابَلُوا بِهِ الإنْجِيلَ وزِيادَةٌ في تَوْبِيخِهِمْ. وقَوْلُهُ ”مُصَدِّقًا“ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ (وهو الحَقُّ) . وهَذِهِ الآيَةُ عَلَمٌ في التَّمْثِيلِ لِلْحالِ المُؤَكِّدَةِ وعِنْدِي أنَّها حالٌ مُؤَسِّسَةٌ لِأنَّ قَوْلَهُ مُصَدِّقًا لِما مَعَهم مُشْعِرٌ بِوَصْفٍ زائِدٍ عَلى مَضْمُونٍ وهو الحَقُّ إذْ قَدْ يَكُونُ الكِتابُ حَقًّا ولا يُصَدِّقُ كِتابًا آخَرَ ولا يُكَذِّبُهُ وفي مَجِيءِ الحالِ مِنَ الحالِ زِيادَةٌ في اسْتِحْضارِ شُئُونِهِمْ وهَيْئاتِهِمْ. وقَوْلُهُ ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِئاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فَصَلَهُ عَمّا قَبْلَهُ لِأنَّهُ اعْتِراضٌ في أثْناءِ ذِكْرِ أحْوالِهِمْ قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ في مَعْذِرَتِهِمْ هَذِهِ لِإظْهارِ أنَّ مُعاداةَ الأنْبِئاءِ دَأْبٌ لَهم وأنَّ قَوْلَهم ﴿نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا﴾ كَذِبٌ إذْ لَوْ كانَ حَقًّا لَما قَتَلَ أسْلافُهُمُ الأنْبِئاءَ الَّذِينَ هم مِن قَوْمِهِمْ ودَعَوْهم إلى تَأْيِيدِ التَّوْراةِ والأمْرِ بِالعَمَلِ بِها، ولَكِنَّهم يُعْرِضُونَ عَنْ كُلِّ ما لا يُوافِقُ أهْواءَهم. وهَذا إلْزامٌ لِلْحاضِرِينَ بِما فَعَلَهُ أسْلافُهم لِأنَّهم يَرَوْنَهم عَلى حَقٍّ فِيما فَعَلُوا مِن قَتْلِ الأنْبِئاءِ. والإتْيانُ بِالمُضارِعِ في قَوْلِهِ (تَقْتُلُونَ) مَعَ أنَّ القَتْلَ قَدْ مَضى لِقَصْدِ اسْتِحْضارِ الحالَةِ الفَظِيعَةِ. وقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ”مِن قَبْلُ“ فَذَلِكَ كَما جاءَ الحُطَيْئَةُ بِالماضِي مُرادًا بِهِ الِاسْتِقْبالُ في قَوْلِهِ: ؎شَهِدَ الحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقى رَبَّهُ ∗∗∗ أنَّ الوَلِيدَ أحَقُّ بِالعُذْرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ يَوْمَ يَلْقى رَبَّهُ. والمُرادُ بِأنْبِئاءِ اللَّهِ الَّذِينَ ذَكَرْناهم عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ويَقْتُلُونَ النَّبِيئِينَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ [البقرة: ٦١]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب