الباحث القرآني
هذه حكاية مناظرة بين الرسول وبين اليهود لما قال لهم ﴿آمنوا بما أنزل الله﴾ فأجابوه بأن قالوا ﴿نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا﴾ ومرادهم بهذا التخصيص أن نؤمن بالمنزل علينا دون غيره فظهرت عليهم الحجة بقولهم هذا من وجهين دل عليهما قوله تعالى: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِما وراءَهُ وهو الحَقُّ﴾ إلى آخر الآية.
قال إن كنتم قد آمنتم بما أنزل عليكم لأنه حق فقد وجب عليكم أن تؤمنوا بما جاء به محمد لأنه حق مصدق لما معكم وحكم الحق الإيمان به أين كان ومع من كان فلزمكم الإيمان بالحقين جميعا أو الكفر الصراح وفي وقوله: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِما وراءَهُ وهو الحَقُّ﴾ نكتة بديعة جدا وهي أنهم لما كفروا به وهو حق لم يكن إيمانهم بما انزل عليهم لأجل أنه حق فإذا لم يتبعوا الحق فيما أنزل عليهم ولا فيما جاء به محمد لأنهم لو آمنوا بالمنزل عليهم أنه حق لآمنوا بالحق الثاني وأعطوا الحق حقه من الإيمان ففي ضمن هذه الشهادة عليهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الأول ولا بالثاني وهكذا الحكم في كل من فرق الحق فآمن ببعضه وكفر ببعضه كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض وكمن آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض لم ينفعه إيمانه بما كفر به حتى يؤمن بالجميع.
ونظير هذا التفريق من يرد آيات الصفات وأخبارها ويقبل آيات الأوامر والنواهي فإن ذلك لا ينفعه لأنه آمن ببعض الرسالة وكفر ببعض فإن كانت الشبهة التي عرضت لمن كفر ببعض الأنبياء غير نافعة له فالشبهة التي عرضت لمن رد بعض ما جاء به النبي ﷺ أولى أن لا تكون نافعة وإن كانت هذه عذرا له فشبهة من كذب بعض الأنبياء
مثلها وكما أنه لا يكون مؤمنا حتى يؤمن بجميع الأنبياء ومن كفر بنبي من الأنبياء فهو كمن كفر بعضه ورد بجميعهم فكذلك لا يكون مؤمنا حتى يؤمن بجميع ما جاء به الرسول فإذا آمن ببعضه فهو كمن كفر به كله.
فتأمل هذا الموضع واعتبر به الناس على اختلاف طوائفهم يتبين لك أن أكثر من يدعى الإيمان برئ من الإيمان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الوجه الثاني من النقض قوله: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
ووجه النقض أنكم إن زعمتم أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم وبالأنبياء الذين بعثوا فيكم فلم قتلتموهم من قبل وفيم أنزل إليكم الإيمان بهم وتصديقهم فلا آمنتم بما انزل إليكم ولا بما أنزل على محمد ثم كأنه توقع منهم الجواب بأنا لم نقتل من ثبتت نبوته ولم نكذب به فأجيبوا على تقدير هذا الجواب الباطل منهم بأن موسى قد جاءكم بالبينات وما لا ريب في صحة نبوته ثم عبدتم بعد غيبته عنكم وأشركتم بالله وكفرتم به، وقد علمتم نبوة موسى وقيام البراهين على صدقة فقال: ﴿وَلَقَدْ جاءَكم مُوسى بِالبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ وأنْتُمْ ظالِمُونَ﴾ فهكذا تكون الحجج والبراهين ومناظرات الأنبياء لخصومهم ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِن دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ كانوا يقولون نحن أحباء الله ولنا الدار الآخرة خالصة من دون الناس وإنما يعذب منا من عبد العجل مدة ثم يخرج من النار وذلك مدة عبادتهم له فأجابهم تبارك وتعالى عن قولهم إن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة بالمطالبة وتقسيم الأمر بين أن يكون لهم عند الله تعالى عهد عهده إليهم وبين أن يكونوا قد قالوه عليه ما لا يعلمون ولا سبيل لهم إلى ادعاء العهد فتعين الثاني.
وقد تقدم ثم أجابهم عن دعواهم خلوص الآخرة لهم بقوله: ﴿فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ لأن الحبيب لا يكره لقاء حبيبة والابن لا يكره لقاء أبيه لا سيما إذا علم أن كرامته ومثوبته مختصة به بل أحب شيء إليه لقاء حبيبه وأبيه فحيث لم يحب ذلك ولم يتمنه فهو كاذب في قوله مبطل في دعواه.
* (فائدة)
قال السهيلي: وأما قوله: ﴿وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا﴾ فقد حكموا أنها حال مؤكدة ومعنى الحال المؤكدة أن يكون معناها كمعنى الفعل لأن التوكيد هو المؤكد في المعنى وذلك نحو قم قائما وأنا زيد معروفا هذه هي الحال المؤكدة في الحقيقة وأما ﴿وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا﴾ فليست بحال مؤكدة لأنه قال: ﴿مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ﴾ وتصديقه لما معهم ليس في معنى الحق إذ ليس من شرط الحق أن يكون مصدقا لفلان ولا مكذبا له بل الحق في نفسه حق وإن لم يكن مصدقا لغيره ولكن مصدقا هنا حال من الاسم المجرور من قوله تعالى: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِما وراءَهُ﴾ وقوله: ﴿وَهُوَ الحَقُّ﴾ جملة في معنى الحال أيضا والمعنى كيف تكفرون بما وراءه وهو في هذه الحال أعني مصدقا لما معكم كما تقول لا تشتم زيدا وهو أمير محسنا إليك فالجملة حال ومحسنا حال بعدها والحكمة في تقديم الجملة التي في موضع الحال على قولك محسنا ومصدقا أنك لو أخرتها لتوهم أنها في موضع الحال من الضمير الذي في محسن ومصدق ألا ترى أنك لو قلت اشتم زيدا محسنا إليك وهو أمير لذهب الوهم إلى أنك تريد محسنا إليك في هذه الحال فلما قدمتها اتضح المراد وارتفع اللبس ووجه آخر يطرد في هذه الآية وفي الآية التي في سورة فاطر: ﴿والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ هو الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ وهو أن يكون مصدقا هاهنا حالا يعمل فيها ما دلت عليه الإشارة المنبئة عنها الألف واللام لأن الألف واللام قد تنبئ عما تنبئ عنه أسماء الإشارة.
وحكى سيبويه: لمن الدار مفتوحا بابها.
فقولك مفتوحا بابها حال لا يعمل فيها الاستقرار الذي يتعلق به لمن لأن ذلك خلاف المعنى المقصود وتصحيح المعنى لمن هذا الدار مفتوحا بابها فقد استغنى بذكر الألف واللام وعلم المخاطب أنه مشير وتنبه المخاطب بالإشارة إلى النظر وصار ذلك المعنى المنبه عليه عاملا في الحال، وكذلك قوله ﴿وهو الحق مصدقا﴾ كأنه يقول ذلك هو الحق مصدقا لأن الحق قديم ومعروف بالعقول والكتب المتقدمة فلما أشار نبهت الإشارة على العامل في الحال كما إذا قلت: هذا زيد قائما نبهت الإشارة المخاطب على النظر فكأنك قلت: انظر إلى زيد قائما لأن الاسم الذي هو زيد هو العامل ولكن مشعر ومنبه على المعنى العامل في الحال وذلك المعنى هو انظر ومما أغنت فيه الألف واللام عن الإشارة قولهم: اليوم قمت والساعة جئت والليلة فعلت والآن قعدت اكتفيت بالألف واللام عن أسماء الإشارة.
قلت: ليس المراد بقول النحاة حال مؤكدة ما يريدون بالتأكيد في باب التوابع فالتأكيد المبوب له هناك أخص من التأكيد المراد من الحال المؤكدة وإنما مرادهم بالحال المؤكدة المقررة لمضمون الجملة بذكر الوصف الذي لا يفارق العامل ولا ينفك عنه وإن لم يكن معنى ذلك الوصف هو معنى الجملة بعينه وهذا كقولهم زيد أبوك عطوفا فإن كونه عطوفا ليس معنى كونه أباه ولكن ذكر أبوته تشعر بما يلازمها من العطف وكذلك قوله: ﴿هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ فإن ما بين يديه حق والحق يلازمه تصديق بعضه بعضا.
وقوله: ليس من شرط الحق أن يكون مصدقا لفلان يقال ليس هذا بنظير لمسألتنا بل الحق يلزمه لزوما لا انفكاك عنه تصديق بعضه بعضا فتصديق ما بين يديه من الحق هو من جهة كونه حقا فهذا معنى قولهم إنها حال مؤكدة فافهمه والمعنى أنه لا يكون إلا على هذه الصفة وهي مقررة لمضمون الجملة فإن كونه مصدقا للحق المعلوم الثابت مقررا ومؤكدا ومبينا لكونه حقا في نفسه.
وأما قوله إنها حال من المجرور في قوله: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِما وراءَهُ﴾
والمعنى يكفرون به مصدقا لما معهم.
فهذا المعنى وإن كان صحيحا لكن ليس هو معنى الحال في القرآن حيث وقعت بهذا المعنى.
وهب أن هذا يمكن دعواه في هذا الموطن فكيف يقول في قوله تعالى: ﴿والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ هو الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ والكلام والنظم واحد وأيضا فالمعنى مع جعل مصدقا حال من قوله: ﴿وَهُوَ الحَقُّ﴾ أبلغ وأكمل منه إذا جعل حالا من المجرور، فإنه إذا جعل حالا من المجرور يكون الإنكار قد توجه عليهم في كفرهم به حال كونه مصدقا لما معهم، وحال كونه حقا فيكونان حالا من المجرور.
أي يكفرون به في هذه الحال.
وهذه الحال وإذ جعل حالا من مضمون قوله: ﴿وَهُوَ الحَقُّ﴾ كان المعنى يكفرون به حال كونه حقا مصدقا لما معهم فكفروا به في أعظم أحواله المستلزمة للتصديق والإيمان به وهو اجتماع كونه حقا في نفسه وتصديقه لما معهم فالكفر به عند اجتماع الوصفين فيه يكون أغلظ وأقبح وهذا المعنى والمبالغة لا تجده فيما إذا قيل يكفرون به حال كونه حقا وحال كونه مصدقا لما معهم فتأمله.
فإنه بديع جدا فصح قول النحاة والمفسرين في الآية والله أعلم.
{"ayah":"وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ ءَامِنُوا۟ بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ نُؤۡمِنُ بِمَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡنَا وَیَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَاۤءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقࣰا لِّمَا مَعَهُمۡۗ قُلۡ فَلِمَ تَقۡتُلُونَ أَنۢبِیَاۤءَ ٱللَّهِ مِن قَبۡلُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق