الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿وإذا قيل لهم﴾ ، وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل - للذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ-: ﴿آمنوا﴾ ، أي صدقوا، ﴿بما أنزل الله﴾ ، يعني بما أنزل الله من القرآن على محمد ﷺ، ﴿قالوا: نؤمن﴾ ، أي نصدق، ﴿بما أنزل علينا﴾ ، يعني بالتوراة التي أنزلها الله على موسى. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿ويكفرون بما وراءه﴾ ، ويجحدون،"بما وراءه"، يعني: بما وراء التوراة. * * * قال أبو جعفر: وتأويل"وراءه" في هذا الموضع"سوى". كما يقال للرجل المتكلم بالحسن:"ما وراء هذا الكلام شيء" يراد به: ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام. فكذلك معنى قوله: ﴿ويكفرون بما وراءه﴾ ، أي بما سوى التوراة، وبما بعدها من كتب الله التي أنزلها إلى رسله، [[انظر معاني القرآن للفراء ١: ٦٠.]] كما:- ١٥٥٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿ويكفرون بما وراءه﴾ ، يقول: بما بعده. ١٥٥٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ﴿ويكفرون بما وراءه﴾ ، أي بما بعده - يعني: بما بعد التوراة. ١٥٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿ويكفرون بما وراءه﴾ ، يقول: بما بعده. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿وهو الحق مصدقا﴾ ، أي: ما وراء الكتاب - الذي أنزل عليهم من الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه - الحق. وإنما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الذي أنزله إلى محمد ﷺ، كما:- ١٥٥٩ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه﴾ ، وهو القرآن. يقول الله جل ثناؤه: ﴿وهو الحق مصدقا لما معهم﴾ . وإنما قال جل ثناؤه: ﴿مصدقا لما معهم﴾ ، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا. ففي الإنجيل والقرآن من الأمر باتباع محمد ﷺ، والإيمان به وبما جاء به، مثل الذي من ذلك في توراة موسى عليه السلام. فلذلك قال جل ثناؤه لليهود - إذْ أخبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه، من الكتب التي أنزلها إلى أنبيائه -: إنه الحق مصدقا للكتاب الذي معهم، يعني: أنه له موافق فيما اليهود به مكذبون. قال: وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة، على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والفرقان، عنادا لله، وخلافا لأمره، وبغيا على رسله صلوات الله عليهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: ﴿قل فلم تقتلون أنبياء الله﴾ ، قل يا محمد، ليهود بني إسرائيل - الذين إذا قلت لهم: آمنوا بما أنزل الله قالوا: نؤمن بما أنزل علينا-: لم تقتلون = إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم = أنبياءه، وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؟ وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم: ﴿نؤمن بما أنزل علينا﴾ وتعيير لهم، كما:- ١٥٦٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال الله تعالى ذكره - وهو يعيرهم - يعني اليهود: ﴿فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين﴾ ؟ * * * فإن قال قائل: وكيف قيل لهم: ﴿فلم تقتلون أنبياء الله من قبل﴾ ، فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل، ثم أخبر أنه قد مضى؟ قيل: إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك. فقال بعض البصريين: معنى ذلك: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل، كما قال جل ثناؤه: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ [سورة البقرة: ١٠٢] ، أي: ما تلت، [[انظر معاني القرآن للفراء ١: ٦٠ - ٦١.]] وكما قال الشاعر: [[هو رجل من بني سلول.]] ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت عنه وقلت لا يعنيني [[سيبويه ١: ٤١٦، الخزانة ١: ١٧٣، وشرح شواهد المغني: ١٠٧ وغيرها كثير. وروايتهم جميعا"ثمت قلت". وبعده بيت آخر: غضبان ممتلئا علي إهابه ... إني وربك سخطه يرضيني]] يريد بقوله:"ولقد أمر" ولقد مررت. واستدل على أن ذلك كذلك، بقوله:"فمضيت عنه"، ولم يقل: فأمضي عنه. وزعم أن"فعل" و"يفعل" قد تشترك في معنى واحد، واستشهد على ذلك بقول الشاعر: [[هو الطرماح بن حكيم الطائي.]] وإني لآتيكم تَشَكُّرَ ما مضى ... من الأمر، واسْتِيجابَ ما كان في غد [[ديوانه: ١٤٦، وسيأتي في ٤: ٩٧ (بولاق) ، وحماسة البحتري: ١٠٩، واللسان (كون) وقد كان في هذا الموضع"بشكرى"، وهو خطأ، سيأتي من رواية الطبري على الصواب. وروى اللسان: "واستنجاز ما كان". وصواب الرواية: "فإني لآتيكم" فإنه قبله: من كان لا يأتيك إلا لحاجة ... يروح بها فيما يروح ويغتدى فإني لآتيكم. . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .]] يعني بذلك: ما يكون في غد، وبقول الحطيئة: شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر [[ديوانه: ٨٥، ونسب قريش: ١٣٨، والاستيعاب: ٦٠٤، وأنساب الأشراف ٥: ٣٢، وسمط اللآلئ: ٦٧٤. قالها الحطيئة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان من رجالات قريش همة وسخاء. استعمله أبو بكر وعمر وعثمان، فلما كان زمان عثمان، رفعوا عليه أنه شرب الخمر، فعزله عثمان وجلده الحد، وكان لهذا شأن كبير، فقال الحطيئة يعذره ويمدحه، ويذكر عزله: شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر خلعوا عنانك إذ جريت، ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري ورأوا شمائل ماجد أنف ... يعطي على الميسور والعسر فنزعت، مكذوبا عليك، ولم ... تردد إلى عوز ولا فقر قال مصعب بن عبد الله الزبيري في نسب قريش: "فزادوا فيها من غير قول الحطيئة: نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم؟ ثملا ولا يدري ليزيدهم خمسا، ولو فعلوا ... مرت صلاتهم على العشر وقد أكثر الناس فيما كان من خبر الوليد، وما كان من شعر الحطيئة فيه. وهذا نص من أعلم قريش بأمر قريش، على أن البيتين قد نحلهما الحطيئة، متكذب على الوليد، لما كان له في الشأن في أمر عثمان رضي الله عنه. ولقد جلد الوليدبن عقبة مكذوبا عليه كما قال الحطيئة، فاعتزل الناس. وروى أبو العباس المبرد في التعازي والمراثي (ورقة: ١٩٦) قال: "قال الوليد بن عقبة عند الموت، وهو بالبليخ من أرض الجزيرة: "اللهم إن كان أهل الكوفة صدقوا على، فلا تلق روحي منك روحا ولا ريحانا، وإن كانوا كذبوا على فلا ترضهم بأمير ولا ترض أميرا عنهم. انتقم لي منهم، واجعله كفارة لما لا يعلمون من ذنوبي". فليت أهل الشر كفوا ألسنتهم عن رجل من عقلاء الرجال وأشرافهم.]] يعني: يشهد. وكما قال الآخر: فما أضحي ولا أمسيت إلا ... أراني منكم في كَوَّفان [[لم أعرف قائله، وهو في اللسان (كوف) والصاحبي: ١٨٧. والكوفان (بتشديد الواو) : الاختلاط والشدة والعناء. يقال: إنا منه في كوفان، أي في عنت وشقاء ودوران واختلاط.]] فقال: أضحي، ثم قال:"ولا أمسيت". * * * وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما قيل: ﴿فلم تقتلون أنبياء الله من قبل﴾ ، فخاطبهم بالمستقبل من الفعل، ومعناه الماضي، كما يعنف الرجل الرجل على ما سلف منه من فعل فيقول له: ويحك، لم تكذب؟ ولم تبغض نفسك إلى الناس؟ كما قال الشاعر: إذا ما انتسبنا، لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أن تُقِري به بُدَّا [[سلف تخريجه في هذا الجزء ٢: ١٦٥.]] فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت. وذلك أن المعنى معروف، فجاز ذلك. قال: ومثله في الكلام:"إذا نظرت في سيرة عمر، لم تجده يسيء". [[في معاني القرآن للفراء: "لم يسئ"، بحذف"تجده".]] المعنى: لم تجده أساء. فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيه، لم يقع في الوهم أنه مستقبل. فلذلك صلحت"من قبل" مع قوله: ﴿فلم تقتلون أنبياء الله من قبل﴾ . قال: وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا، فتولوهم على ذلك ورضوا به، فنسب القتل إليهم. [[في المطبوعة: "فتلوهم على ذلك ورضوا. فنسب. . "، والصواب ما أثبته من معاني القرآن للفراء ١: ٦٠ - ٦١، وهذا الذي نقله الطبري هو نص كلامه.]] * * * قال أبو جعفر: والصواب فيه من القول عندنا، أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله ﷺ من يهود بني إسرائيل - بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور - بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه، وارتكابهم معاصيه، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به، نظير قول العرب بعضها لبعض: فعلنا بكم يوم كذا كذا وكذا، وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا - على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا -، [[انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣٠٢ تعليق: ١ والمراجع.]] يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم، وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم. فكذلك ذلك في قوله: ﴿فلم تقتلون أنبياء الله من قبل﴾ ، إذْ كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن فعل السالفين منهم - [[في المطبوعة: "وإن كان قد خرج على لفظ الخبر. . "، والصواب: "إذ. . " كما أثبته.]] على نحو الذي بينا - جاز أن يقال"من قبل"، إذْ كان معناه: قل: فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل"؟ وكان معلوما بأن قوله: ﴿فلم تقتلون أنبياء الله من قبل﴾ ، إنما هو خبر عن فعل سلفهم. * * * وتأويل قوله: ﴿من قبل﴾ ، أي: من قبل اليوم. * * * وأما قوله: ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ ، فإنه يعني: إن كنتم مؤمنين بما نزل الله عليكم كما زعمتم. وإنما عنى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله ﷺ وأسلافهم - إن كانوا وكنتم، كما تزعمون أيها اليهود، مؤمنين. وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه، عند قولهم حين قيل لهم: (آمنوا بما أنزل الله. قالوا: نؤمن بما أنزل علينا. لأنهم كانوا لأوائلهم - الذين تولوا قتل أنبياء الله، مع قيلهم: نؤمن بما أنزل علينا - متولين، وبفعلهم راضين. فقال لهم: إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم، فلم تتولون قتلة أنبياء الله؟ أي: ترضون أفعالهم. [[في المطبوعة: "أي وترضون. . " بزيادة واو لا خير فيها.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب