قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا﴾ أَيْ صَدِّقُوا "بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" يَعْنِي الْقُرْآنَ "قالُوا نُؤْمِنُ" أَيْ نُصَدِّقُ "بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا" يَعْنِي التَّوْرَاةَ. "وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ" أَيْ بِمَا سِوَاهُ، عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقَتَادَةَ: بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَرَاءَ بِمَعْنَى خَلْفَ، وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى قُدَّامَ. وَهِيَ مِنَ الْأَضْدَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [[راجع ج ١١ ص ٣٤.]] "أي أمامهم، وتصغيرها ورئية (بِالْهَاءِ) وَهِيَ شَاذَّةٌ. وَانْتَصَبَ" وَراءَهُ" عَلَى الظَّرْفِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ لَقِيتُهُ مِنْ وَرَاءُ، فَتَرْفَعُهُ عَلَى الْغَايَةِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُضَافٍ تَجْعَلُهُ اسْمًا وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ، كَقَوْلِكَ: مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَأَنْشَدَ:
إِذَا أَنَا لَمْ أُومَنْ عَلَيْكَ وَلَمْ يَكُنْ ... لِقَاؤُكَ إِلَّا مِنْ وَرَاءُ وراء [[البيت لعي بن مالك العقيلي.
(عن اللسان).]]
فلت: وَمِنْهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ [[الذي في النهاية واللسان مادة (روى): "إنى كنت، إلخ، وفيهما: هكذا يروى مبيتا على الفتح، أي من خلف حجاب".]]). وَالْوَرَاءُ: وَلَدُ الْوَلَدِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. "مُصَدِّقاً" حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. "لِما مَعَهُمْ" مَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِاللَّامِ، وَ "مَعَهُمْ" صِلَتُهَا، وَ "مَعَهُمْ" نُصِبَ بالاستقرار، ومن أسكن جعله حرفا.
قَوْلُهُ تَعَالَى "قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ" رَدٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَتَكْذِيبٌ مِنْهُ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ، الْمَعْنَى: فَكَيْفَ قَتَلْتُمْ وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنْ ذَلِكَ! فَالْخِطَابُ لِمَنْ حَضَرَ مُحَمَّدًا ﷺ وَالْمُرَادُ أَسْلَافُهُمْ. وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ الْخِطَابُ لِأَبْنَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَتَلُوا، كَمَا قَالَ:" وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ [[راجع ج ٦ ص ٢٥٤.]] "فَإِذَا تَوَلَّوْهُمْ فَهُمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ رَضُوا فِعْلَهُمْ فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. وَجَاءَ" تَقْتُلُونَ "بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ لَمَّا ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ:" مِنْ قَبْلُ". وَإِذَا لَمْ يُشْكِلْ فَجَائِزٌ أَنْ يَأْتِيَ الْمَاضِي بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمُسْتَقْبَلُ بِمَعْنَى الْمَاضِي، قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ ... أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
شَهِدَ بِمَعْنَى يَشْهَدُ. "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُعْتَقِدِينَ الْإِيمَانَ فَلِمَ رَضِيتُمْ بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ! وَقِيلَ: "إِنَّ" بِمَعْنَى مَا، وَأَصْلُ "لِمَ" لِمَا، حُذِفَتِ الْأَلِفُ فَرْقًا بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنْ وُقِفَ عَلَيْهِ بِلَا هَاءٍ كَانَ لَحْنًا، وَإِنْ وقف عليه بالهاء زيد في السواد.
{"ayah":"وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ ءَامِنُوا۟ بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ نُؤۡمِنُ بِمَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡنَا وَیَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَاۤءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقࣰا لِّمَا مَعَهُمۡۗ قُلۡ فَلِمَ تَقۡتُلُونَ أَنۢبِیَاۤءَ ٱللَّهِ مِن قَبۡلُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ"}