الباحث القرآني

﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هي قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ﴾ جِيءَ في مُراجَعَتِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ بِالطَّرِيقَةِ المَأْلُوفَةِ في حِكايَةِ المُحاوَراتِ وهي طَرِيقَةُ حَذْفِ العاطِفِ بَيْنَ أفْعالِ القَوْلِ وقَدْ بَيَّنّاها لَكم في قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ. ومَعْنى ”ادْعُ لَنا“ يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ مِنهُ الدُّعاءُ الَّذِي هو طَلَبٌ بِخُضُوعٍ وحِرْصٍ عَلى إجابَةِ المَطْلُوبِ فَيَكُونُ في الكَلامِ رَغْبَتُهم في حُصُولِ البَيانِ لِتَحْصِيلِ المَنفَعَةِ المَرْجُوَّةِ مِن ذَبْحِ بَقَرَةٍ مُسْتَوْفِيَةٍ لِلصِّفاتِ المَطْلُوبَةِ في القَرابِينِ المُخْتَلِفَةِ المَقاصِدِ، بَنَوْهُ عَلى ما ألْفَوْهُ مِنَ الأُمَمِ عَبَدَةِ الأوْثانِ مِنَ اشْتِراطِ صِفاتٍ وشُرُوطٍ في القَرابِينِ المُقَرِّبَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ المَقْصُودِ مِنَ الذَّبِيحَةِ ويُحْتَمَلُ أنَّهم أرادُوا مُطْلَقَ السُّؤالِ فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالدُّعاءِ لِأنَّهُ طَلَبٌ مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى. ويُحْتَمَلُ أنَّهم أرادُوا مِنَ الدُّعاءِ النِّداءَ الجَهِيرَ بِناءً عَلى وهْمِهِمْ أنَّ اللَّهَ بِعِيدُ المَكانِ، فَسائِلُهُ يَجْهَرُ بِصَوْتِهِ. وقَدْ نُهِيَ المُسْلِمُونَ عَنِ الجَهْرِ بِالدُّعاءِ في صَدْرِ الإسْلامِ. واللّامُ في قَوْلِهِ ”لَنا“ لامُ الأجَلِ أيِ ادْعُ (p-٥٤٩)عَنّا، وجَزْمُ (يُبَيِّنْ) في جَوابِ ادْعُ لِتَنْزِيلِ المُسَبَّبِ مَنزِلَةَ السَّبَبِ أيْ إنْ تَدْعُهُ يَسْمَعْ فَيُبَيِّنُ وقَدْ تَقَدَّمَ. وقَوْلُهُ (ما هي) حَكى سُؤالَهم بِما يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالسُّؤالِ بِما في كَلامِ العَرَبِ وهو السُّؤالُ عَنِ الصِّفَةِ لِأنَّ ما يُسْألُ بِها عَنِ الصِّفَةِ كَما يَقُولُ مَن يَسْمَعُ النّاسَ يَذْكُرُونَ حاتِمًا أوِ الأحْنَفَ وقَدْ عَلِمَ أنَّهُما رَجُلانِ ولَمْ يَعْلَمْ صِفَتَيْهِما ما حاتِمٌ ؟ أوْ ما الأحْنَفُ ؟ فَيُقالُ كَرِيمٌ أوْ حَلِيمٌ ولَيْسَ (ما) مَوْضُوعَةً لِلسُّؤالِ عَنِ الجِنْسِ كَما تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الواقِفِينَ عَلى كَلامِ الكَشّافِ فَتَكَلَّفُوا لِتَوْجِيهِهِ حَيْثُ إنَّ جِنْسَ البَقَرَةِ مَعْلُومٌ بِأنَّهم نَزَّلُوا هاتِهِ البَقَرَةَ المَأْمُورَ بِذَبْحِها مَنزِلَةَ فَرْدٍ مِن جِنْسٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ لِغَرابَةِ حِكْمَةِ الأمْرِ بِذَبْحِها وظَنُّوا أنَّ المَوْقِعَ هُنا لِلسُّؤالِ بِأيْ أوْ كَيْفَ وهو وهْمٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ التَّفْتَزانِيُّ في شَرْحِ الكَشّافِ واعْتَضَدَ لَهُ بِكَلامِ المِفْتاحِ إذْ جَعَلَ الجِنْسَ والصِّفَةَ قِسْمَيْنِ لِلسُّؤالِ بِما. والحَقُّ أنَّ المَقامَ هُنا لِلسُّؤالِ بِما لِأنَّ أيًّا إنَّما يُسْألُ بِها عَنْ مُمَيِّزِ الشَّيْءِ عَنْ أفْرادٍ مِن نَوْعِهِ التَبَسَتْ بِهِ وعَلامَةُ ذَلِكَ ذِكْرُ المُضافِ إلَيْهِ مَعَ أيِّ نَحْوَ أيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ وأيُّ البَقَرَتَيْنِ أعْجَبَتْكَ ولَيْسَ لَنا هُنا بَقَراتٌ مُعَيَّناتٌ يُرادُ تَمْيِيزُ إحْداها. وقَوْلُهُ قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ أكَّدَ مَقُولَ مُوسى ومَقُولَ اللَّهِ تَعالى بِإنَّ لِمُحاكاةِ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كَلامُ مُوسى مِنَ الِاهْتِمامِ بِحِكايَةِ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى فَأكَّدَهُ بِإنَّ، وما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَدْلُولُ كَلامِ اللَّهِ تَعالى لِمُوسى مِن تَحْقِيقِ إرادَتِهِ ذَلِكَ تَنْزِيلًا لَهم مَنزِلَةَ المُنْكِرِينَ لِما بَدا مِن تَعَنُّتِهِمْ وتَنَصُّلِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّأْكِيدُ الَّذِي في كَلامِ مُوسى لِتَنْزِيلِهِمْ مَنزِلَةَ أنْ يَكُونَ اللَّهُ قالَ لِمُوسى ذَلِكَ جَرْيًا عَلى اتِّهامِهِمُ السّابِقِ في قَوْلِهِمْ (﴿أتَتَّخِذُنا هُزُؤًا﴾ [البقرة: ٦٧]) جَوابًا عَنْ قَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ٦٧] ووَقَعَ قَوْلُهُ ﴿لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ﴾ مَوْقِعَ الصِّفَةِ لِبَقَرَةٍ وأُقْحِمَ فِيهِ حَرْفُ (لا) لِكَوْنِ الصِّفَةِ بِنَفْيِ وصْفٍ ثُمَّ بِنَفْيِ آخَرَ عَلى مَعْنى إثْباتِ وصْفٍ واسِطَةً بَيْنَ الوَصْفَيْنِ المَنفِيَّيْنِ فَلَمّا جِيءَ بِحَرْفِ (لا) أُجْرِيَ الإعْرابُ عَلى ما بَعْدَهُ لِأنَّ (لا) غَيْرُ عامِلَةٍ شَيْئًا فَيُعْتَبَرُ ما قَبْلَ لا عَلى عَمَلِهِ فِيما بَعْدَها سَواءٌ كانَ وصْفًا كَما هُنا وقَوْلُهُ تَعالى زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ وقَوْلُ جُوَيْرِيَةَ أوْ حُوَيْرِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الرّامِي: وقَدْ أدْرَكَتْنِي والحَوادِثُ جَمَّةٌ أسِنَّةُ قَوْمٍ لا ضِعافٍ ولا عُزْلِ (p-٥٥٠)أوْ حالًا كَقَوْلِ الشّاعِرِ وهو مِن شَواهِدِ النَّحْوِ: ∗∗∗ قَهَرْتَ العِدا لا مُسْتَعِينًا بِعُصْبَةٍوَلَكِنْ بِأنْواعِ الخَدائِعِ والمَكْرِ أوْ مُضافًا كَقَوْلِ النّابِغَةِ: ∗∗∗ وشِيمَةُ لا وانٍ ولا واهِنِ القُوىوَجَدٍّ إذا خابَ المُفِيدُونَ صاعِدِ أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ كَما وقَعَ في حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ قَوْلُ الأُولى لا سَهْلٌ فَيُرْتَقى، ولا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ عَلى رِوايَةِ الرَّفْعِ أيْ هو أيِ الزَّوْجُ لا سَهْلٌ ولا سَمِينٌ. وجُمْهُورُ النُّحاةِ أنَّ (لا) هَذِهِ يَجِبُ تَكْرِيرُها في الخَبَرِ والنَّعْتِ والحالِ أيْ بِأنْ يَكُونَ الخَبَرُ ونَحْوُهُ شَيْئَيْنِ فَأكْثَرَ فَإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إدْخالُ (لا) في الخَبَرِ ونَحْوِهِ وجَعَلُوا بَيْتَ جُوَيْرِيَةَ أوْ حُوَيْرِثَةَ ضَرُورَةً وخالَفَ فِيهِ المُبَرِّدُ. ولَيْسَتْ لا في مِثْلِ هَذا بِعامِلَةٍ عَمَلَ لَيْسَ ولا عَمَلَ إنَّ، وذِكْرُ النُّحاةِ لِهَذا الِاسْتِعْمالِ في أحَدِ هَذَيْنِ البابَيْنِ لِمُجَرَّدِ المُناسَبَةِ. واعْلَمْ أنَّ نَفْيَ وصْفَيْنِ بِحَرْفِ (لا) قَدْ يُسْتَعْمَلُ في إفادَةِ إثْباتِ وصْفٍ ثالِثٍ هو وسَطٌ بَيْنِ حالَيْ ذَيْنَكَ الوَصْفَيْنِ مِثْلَ ما في هَذِهِ الآيَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَوانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ومِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ ولا إلى هَؤُلاءِ﴾ [النساء: ١٤٣] وقَدْ يُسْتَعْمَلُ في إرادَةِ مُجَرَّدِ نَفْيِ ذَيْنَكَ الوَصْفَيْنِ لِأنَّهُما مِمّا يُطْلَبُ في الغَرَضِ الوارِدَيْنِ فِيهِ ولا يُقْصَدُ إثْباتُ وصْفٍ آخَرَ وسَطٍ بَيْنَهُما وهو الغالِبُ كَقَوْلِهِ تَعالى في سَمُومٍ وحَمِيمٍ وظِلٍّ مِن يَحْمُومٍ لا بارِدٍ ولا كَرِيمٍ والفارِضُ المُسِنَّةُ لِأنَّها فَرَضَتْ سِنَّها أيْ قَطَعَتْها. والفَرْضُ القَطْعُ ويُقالُ لِلْقَدِيمِ فارِضٌ. والبِكْرُ الفَتِيَّةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ البُكْرَةِ بِالضَّمِّ وهي أوَّلُ النَّهارِ لِأنَّ البِكْرَ في أوَّلِ السَّنَواتِ عُمُرِها والعَوانَ هي المُتَوَسِّطَةُ السِّنِّ. وإنَّما اخْتِيرَتْ لَهُمُ العَوانُ لِأنَّها أنْفَسُ وأقْوى ولِذَلِكَ جُعِلَتِ العَوانُ مَثَلًا لِلشِّدَّةِ في قَوْلِ النّابِغَةِ:     ومَن يَتَرَبَّصِ الحَدَثانِ تَنْزِلِبِمَوْلاهُ عَوانٌ غَيْرُ بِكْرِ أيْ مُصِيبَةٌ عَوانٌ أيْ عَظِيمَةٌ. ووَصَفُوا الحَرْبَ الشَّدِيدَةَ فَقالُوا حَرْبٌ عَوانٌ. وقَوْلُهُ بَيْنَ ذَلِكَ أيْ هَذَيْنِ السِّنَّيْنِ، فالإشارَةُ لِلْمَذْكُورِ المُتَعَدِّدِ. (p-٥٥١)ولِهَذا صَحَّتْ إضافَةُ بَيْنَ لِاسْمِ الإشارَةِ كَما تُضافُ لِلضَّمِيرِ الدّالِّ عَلى مُتَعَدِّدٍ وإنْ كانَ كَلِمَةً واحِدَةً في نَحْوِ بَيْنِها. وإفْرادُ اسْمِ الإشارَةِ عَلى التَّأْوِيلِ بِالمَذْكُورِ كَما تَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وجاءَ في جَوابِهِمْ بِهَذا الإطْنابِ دُونَ أنْ يَقُولَ مِن أوَّلِ الجَوابِ إنَّها عَوانٌ تَعْرِيضًا بِغَباوَتِهِمْ واحْتِياجِهِمْ إلى تَكْثِيرِ التَّوْصِيفِ حَتّى لا يَتْرُكَ لَهم مَجالًا لِإعادَةِ السُّؤالِ. فَإنْ قُلْتَ: هم سَألُوا عَنْ صِفَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فَمِن أيْنَ عَلِمَ مُوسى أنَّهم سَألُوا عَنِ السِّنِّ ومِن أيْنَ عَلِمَ مِن سُؤالِهِمُ الآتِي بِما هي أيْضًا أنَّهم سَألُوا عَنْ تَدَرُّبِها عَلى الخِدْمَةِ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ما هي اخْتِصارًا لِسُؤالِهِمُ المُشْتَمِلِ عَلى البَيانِ وهَذا الِاخْتِصارُ مِن إبْداعِ القُرْآنِ اكْتِفاءً بِما يَدُلُّ عَلَيْهِ الجَوابُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ما حُكِيَ في القُرْآنِ مُرادِفَ سُؤالِهِمْ فَيَكُونُ جَوابُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِأنَّ أوَّلَ ما تَتَعَلَّقُ بِهِ أغْراضُ النّاسِ في مَعْرِفَةِ أحْوالِ الدَّوابِّ هو السِّنُّ فَهو أهَمُّ صِفاتِ الدّابَّةِ ولَمّا سَألُوهُ عَنِ اللَّوْنِ ثُمَّ سَألُوا السُّؤالَ الثّانِيَ المُبْهَمَ عُلِمَ أنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الصِّفاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيها مَقاصِدُ النّاسِ مِنَ الدَّوابِّ غَيْرُ حالَةِ الكَرامَةِ أيْ عَدَمِ الخِدْمَةِ لِأنَّ ذَلِكَ أمْرٌ ضَعِيفٌ إذْ قَدْ تَخْدِمُ الدّابَّةُ النَّفِيسَةُ ثُمَّ يُكْرِمُها مَن يَكْتَسِبُها بَعْدَ ذَلِكَ فَتَزُولُ آثارُ الخِدْمَةِ وشَعَثُها. وقَوْلُهُ ﴿فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ﴾ الفاءُ لِلْفَصِيحَةِ ومَوْقِعُها هُنا مَوْقِعُ قِطْعِ العُذْرِ مَعَ الحَثِّ عَلى الِامْتِثالِ كَما هي في قَوْلِ عَبّاسِ بْنِ الأحْنَفِ: ∗∗∗ قالُوا خُراسانُ أقْصى ما يُرادُ بِناثُمَّ القُفُولُ فَقَدْ جِئْنا خُراسانا أيْ فَقَدْ حَصَلَ ما تَعَلَّلْتُمْ بِهِ مِن طُولِ السَّفَرِ. والمَعْنى فَبادِرُوا إلى ما أُمِرْتُمْ بِهِ وهو ذَبْحُ البَقَرَةِ. وما مَوْصُولَةٌ والعائِدُ مَحْذُوفٌ بَعْدَ حَذْفِ جارِّهِ عَلى طَرِيقَةِ التَّوَسُّعِ لِأنَّهم يَقُولُونَ أمَرْتُكَ الخَيْرَ، فَتَوَسَّلُوا بِحَذْفِ الجارِّ إلى حَذْفِ الضَّمِيرِ. وفِي حَثِّ مُوسى إيّاهم عَلى المُبادَرَةِ بِذَبْحِ البَقَرَةِ بَعْدَ ما كُلِّفُوا بِهِ مِنَ اخْتِيارِها عَوانًا دَلِيلٌ عَلى أنَّهم مَأْمُورُونَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ ما غَيْرِ مُرادٍ مِنها صِفَةٌ مُقَيَّدَةٌ لِأنَّهُ لَمّا أمَرَهم بِالمُبادَرَةِ بِالذَّبْحِ حِينَئِذٍ عَلِمْنا وعَلِمُوا أنَّ ما كُلِّفُوا بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِن طَلَبِ أنْ تَكُونَ صَفْراءَ فاقِعَةً وأنْ تَكُونَ (p-٥٥٢)سالِمَةً مِن آثارِ الخِدْمَةِ لَيْسَ مِمّا أرادَهُ اللَّهُ تَعالى عِنْدَ تَكْلِيفِهِمْ أوَّلَ الأمْرِ وهو الحَقُّ إذْ كَيْفَ تَكُونُ تِلْكَ الأوْصافُ مُزادَةً مَعَ أنَّها أوْصافٌ طَرْدِيَّةٌ لا أثَرَ لَها في حِكْمَةِ الأمْرِ بِالذَّبْحِ لِأنَّهُ سَواءٌ كانَ أمْرًا بِذَبْحِها لِلصَّدَقَةِ أوْ لِلْقُرْبانِ أوْ لِلرَّشِّ عَلى النَّجَسِ أوْ لِلْقَسامَةِ فَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِن هاتِهِ الصِّفاتِ مُناسِبَةٌ لِلْحُكْمِ وبِذَلِكَ يُعْلَمُ أنَّ أمْرَهم بِهاتِهِ الصِّفاتِ كُلِّها هو تَشْرِيعٌ طارِئٌ قُصِدَ مِنهُ تَأْدِيبُهم عَلى سُؤالِهِمْ فَإنْ كانَ سُؤالُهم لِلْمَطْلِ والتَّنَصُّلِ فَطَلَبُ تِلْكَ الصِّفاتِ المُشِقَّةِ عَلَيْهِمْ تَأْدِيبٌ عَلى سُوءِ الخُلُقِ والتَّذَرُّعِ لِلْعِصْيانِ، وإنْ كانَ سُؤالًا ناشِئًا عَنْ ظَنِّهِمْ أنَّ الِاهْتِمامَ بِهاتِهِ البَقَرَةِ يَقْتَضِي أنْ يُرادَ مِنها صِفاتٌ نادِرَةٌ كَما هو ظاهِرُ قَوْلِهِمْ بَعْدُ وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ فَتَكْلِيفُهم بِهاتِهِ الصِّفاتِ العَسِيرِ وجُودُها مُجْتَمِعَةً تَأْدِيبٌ عِلْمِيٌّ عَلى سُوءِ فَهْمِهِمْ في التَّشْرِيعِ كَما يُؤَدَّبُ طالِبُ العِلْمِ إذا سَألَ سُؤالًا لا يَلِيقُ بِرُتْبَتِهِ في العِلْمِ. وقَدْ قالَ عُمَرُ لِأبِي عُبَيْدَةَ في واقِعَةِ الفِرارِ مِنَ الطّاعُونِ لَوْ غَيْرُكَ قالَها يا أبا عُبَيْدَةَ. ومِن ضُرُوبِ التَّأْدِيبِ الحَمْلُ عَلى عَمَلٍ شاقٍّ، «وقَدْ أدَّبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَمَّهُ عَبّاسًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلى الخَرْصِ حِينَ حَمَلَ مِن خُمْسِ مالِ المَغْنَمِ أكْثَرَ مِن حاجَتِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يُقِلَّهُ فَقالَ لَهُ مُرْ أحَدًا يَرْفَعْهُ لِي فَقالَ لا آمُرُ أحَدًا فَقالَ لَهُ ارْفَعْهُ أنْتَ لِي فَقالَ لا»، حَتّى جَعَلَ العَبّاسُ يَحْثُو مِنَ المالِ ويُرْجِعُهُ لِصُبْرَتِهِ إلى أنِ اسْتَطاعَ أنْ يَحْمِلَ ما بَقِيَ فَذَهَبَ والنَّبِيءُ ﷺ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ تَعَجُّبًا مِن حِرْصِهِ كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ. ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَكْلِيفٌ لِقَصْدِ التَّأْدِيبِ أنَّ الآيَةَ سِيقَتْ مَساقَ الذَّمِّ لَهم وعُدَّتِ القِصَّةُ في عِدادِ قَصَصِ مَساوِيهِمْ وسُوءِ تَلَقِّيهِمْ لِلشَّرِيعَةِ بِأصْنافٍ مِنَ التَّقْصِيرِ عَمَلًا وشُكْرًا وفَهْمًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى آخِرَ الآياتِ وما كادُوا يَفْعَلُونَ مَعَ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: لَوْ ذَبَحُوا أيَّ بَقَرَةٍ أجْزَأتْهم ولَكِنْ شَدَّدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وبِهَذا تَعْلَمُونَ أنْ لَيْسَ في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى تَأْخِيرِ البَيانِ عَنْ وقْتِ الخِطابِ ولا عَلى وُقُوعِ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ لِأنَّ ما طَرَأ تَكْلِيفٌ خاصٌّ لِلْإعْناتِ عَلى أنَّ الزِّيادَةَ عَلى النَّصِّ لَيْسَتْ بِنَسْخٍ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ وتَسْمِيَتُها بِالنَّسْخِ اصْطِلاحُ القُدَماءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب