الباحث القرآني

﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتَتَّخِذُنا هُزُؤًا قالَ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ تَعَرَّضَتْ هَذِهِ الآيَةُ لِقِصَّةٍ مِن قَصَصِ بَنِي إسْرائِيلَ ظَهَرَ فِيها مِن قِلَّةِ التَّوْقِيرِ لِنَبِيِّهِمْ ومِنَ الإعْناتِ في المَسْألَةِ والإلْحاحِ فِيها إمّا لِلتَّفَصِّي مِنَ الِامْتِثالِ وإمّا لِبُعْدِ أفْهامِهِمْ عَنْ مَقْصِدِ الشّارِعِ ورَوْمِهِمُ التَّوْقِيفَ عَلى ما لا قَصْدَ إلَيْهِ. قِيلَ إنَّ أوَّلَ هَذِهِ القِصَّةِ هو المَذْكُورُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادّارَأْتُمْ فِيها﴾ [البقرة: ٧٢] الآياتِ وإنَّ قَوْلَ مُوسى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ناشِيءٌ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ المَذْكُورَةِ، وإنَّ قَوْلَ مُوسى قُدِّمَ هُنا لِأنَّ خِطابَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَهم قَدْ نَشَأ عَنْهُ ضَرْبٌ مِن مَذامِّهِمْ في تَلَقِّي التَّشْرِيعِ وهو الِاسْتِخْفافُ بِالأمْرِ - حِينَ ظَنُّوهُ هُزُؤًا - والإعْناتُ في المَسْألَةِ فَأُرِيدَ مِن تَقْدِيمِ جُزْءِ القِصَّةِ تَعَدُّدُ تَقْرِيعِهِمْ هَكَذا ذَكَرَ صاحِبُ الكَشّافِ والمُوَجِّهُونَ لِكَلامِهِ، ولا يَخْفى أنَّ ما وجَّهُوا بِهِ تَقْدِيمَ جُزْءِ القِصَّةِ لا يَقْتَضِي إلّا تَفْكِيكَ القِصَّةِ إلى قِصَّتَيْنِ تُعَنْوَنُ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما بِقَوْلِهِ وإذْ مَعَ بَقاءِ التَّرْتِيبِ، عَلى أنِ المَذامَّ قَدْ تُعْرَفُ بِحِكايَتِها والتَّنْبِيهِ عَلَيْها بِنَحْوِ قَوْلِهِ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ وقَوْلِهِ وما كادُوا يَفْعَلُونَ فالَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّهُما قِصَّتانِ أشارَتِ الأُولى وهي المَحْكِيَّةُ هُنا إلى أمْرِ مُوسى إيّاهم بِذَبْحِ بَقَرَةٍ وهَذِهِ هي القِصَّةُ الَّتِي أشارَتْ إلَيْها التَّوْراةُ في السِّفْرِ الرّابِعِ وهو سِفْرُ التَّشْرِيعِ الثّانِي (تَثْنِيَةٌ) في الإصْحاحِ ٢١ أنَّهُ إذا وُجِدَ قَتِيلٌ لا يُعْلَمُ قاتِلُهُ فَإنَّ أقْرَبَ القُرى إلى مَوْقِعِ القَتِيلِ (p-٥٤٧)يَخْرُجُ شُيُوخُها ويُخْرِجُونَ عِجْلَةً مِنَ البَقَرِ لَمْ يُحْرَثْ عَلَيْها ولَمْ تَنْجُرْ بِالنِّيرِ فَيَأْتُونَ بِها إلى وادٍ دائِمٍ السَّيَلانِ لَمْ يُحْرَثْ ولَمْ يُزْرَعْ ويَقْطَعُونَ عُنُقَها هُنالِكَ ويَتَقَدَّمُ الكَهَنَةُ مَن بَنِي لاوِي فَيَغْسِلُ شُيُوخُ تِلْكَ القَرْيَةِ أيْدِيَهم عَلى العِجْلَةِ في الوادِي ويَقُولُونَ لِمَ تَسْفِكْ أيْدِينا هَذا الدَّمَ ولَمْ تُبْصِرْ أعْيُنُنا سافِكَهُ فَيَغْفِرُ لَهُمُ الدَّمُ اهـ. هَكَذا ذُكِرَتِ القِصَّةُ بِإجْمالٍ أضاعَ المَقْصُودَ وأبْهَمَ الغَرَضَ مِن هَذا الذَّبْحِ أهْوَ إضاعَةُ ذَلِكَ الدَّمِ باطِلًا أمْ هو عِنْدَ تَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ المُتَّهَمِ بِالقَتْلِ وكَيْفَما كانَ فَهَذِهِ بَقَرَةٌ مَشْرُوعَةٌ عِنْدَ كُلِّ قَتْلِ نَفْسٍ جُهِلَ قاتِلُها وهي المُشارُ إلَيْها هُنا، ثُمَّ كانَ ما حَدَثَ مِن قَتْلِ القَتِيلِ الَّذِي قَتَلَهُ أبْناءُ عَمِّهِ وجاءُوا مُظْهِرِينَ المُطالَبَةَ بِدَمِهِ وكانَتْ تِلْكَ النّازِلَةُ نَزَلَتْ في يَوْمِ ذَبْحِ البَقَرَةِ فَأمَرَهُمُ اللَّهُ بِأنْ يَضْرِبُوا القَتِيلَ بِبَعْضِ تِلْكَ البَقَرَةِ الَّتِي شَأْنُها أنْ تُذْبَحَ عِنْدَ جَهْلِ قاتِلِ نَفْسٍ. وبِذَلِكَ يَظْهَرُ وجْهُ ذَكَرِهِما قِصَّتَيْنِ وقَدْ أجْمَلَ القُرْآنُ ذِكْرَ القِصَّتَيْنِ لِأنَّ مَوْضِعَ التَّذْكِيرِ والعِبْرَةِ مِنهُما هو ما حَدَثَ في خِلالِهِما لا تَفْصِيلُ الوَقائِعِ فَكانَتِ القِصَّةُ الأوْلى تَشْرِيعًا سَبَقَ ذِكْرُهُ لِما قارَنَهُ مِن تَلَقِّيهِمُ الأمْرَ بِكَثْرَةِ السُّؤالِ الدّالِّ عَلى ضَعْفِ الفَهْمِ لِلشَّرِيعَةِ وعَلى تَطَلُّبِ أشْياءَ لا يَنْبَغِي أنْ يُظَنَّ اهْتِمامُ التَّشْرِيعِ بِها، وكانَتِ القِصَّةُ الثّانِيَةُ مِنَّةً عَلَيْهِمْ بِآيَةٍ مِن آياتِ اللَّهِ ومُعْجِزَةً مِن مُعْجِزاتِ رَسُولِهِمْ بَيَّنَها اللَّهُ لَهم لِيَزْدادُوا إيمانًا ولِذَلِكَ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ ﴿ويُرِيكُمُ آياتِهِ لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٣] وأُتْبِعَتْ بِقَوْلِهِ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكم مِن بَعْدِ ذَلِكَ والتَّأْكِيدُ في قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم حِكايَةٌ لِما عَبَّرَ بِهِ مُوسى مِنَ الِاهْتِمامِ بِهَذا الخَبَرِ الَّذِي لَوْ وقَعَ في العَرَبِيَّةِ لَوَقَعَ مُؤَكَّدًا بِإنَّ. وقَوْلُهم أتَتَّخِذُنا هُزُؤًا اسْتِفْهامٌ حَقِيقِيٌّ لِظَنِّهِمْ أنَّ الأمْرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ لِلِاسْتِبْراءِ مِن دَمِ قَتِيلٍ كاللَّعِبِ وتَتَّخِذُنا بِمَعْنى تَجْعَلُنا وسَيَأْتِي بَيانُ أصْلِ فِعْلِ اتَّخَذَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى أتَتَّخِذُ أصْنامًا آلِهَةً في سُورَةِ الأنْعامِ والهُزُؤُ بِضَمِّ الهَمْزَةِ والزّايِ وبِسُكُونِ الزّايِ مَصْدَرُ اهْزَأْ بِهِ هَزْءًا وهو هُنا مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ كالصَّيْدِ والخَلْقِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (هُزُؤًا) بِضَمَّتَيْنِ وهَمْزٍ بَعْدَ الزّايِ وصْلًا ووَقْفًا وقَرَأ حَمْزَةُ بِسُكُونِ الزّايِ وبِالهَمْزِ وصْلًا، ووَقَفَ عَلَيْهِ بِتَخْفِيفِ الهَمْزِ واوًا وقَدْ رُسِمَتْ في المُصْحَفِ واوًا، وقَرَأ حَفْصٌ بِضَمِّ الزّايِ وتَخْفِيفِ الهَمْزِ واوًا في الوَصْلِ والوَقْفِ. (p-٥٤٨)وقَوْلُ مُوسى أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ تَبَرُّؤٌ وتَنَزُّهٌ عَنِ الهُزْءِ لِأنَّهُ لا يَلِيقُ بِالعُقَلاءِ الأفاضِلِ فَإنَّهُ أخَصُّ مِنَ المَزْحِ لِأنَّ في الهُزْءِ مَزْحًا مَعَ اسْتِخْفافٍ واحْتِقارٍ لِلْمَمْزُوحِ مَعَهُ عَلى أنَّ المَزْحَ لا يَلِيقُ في المَجامِعِ العامَّةِ والخَطابَةِ، عَلى أنَّهُ لا يَلِيقُ بِمَقامِ الرَّسُولِ ولِذا تَبَرَّأ مِنهُ مُوسى بِأنْ نَفى أنْ يَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ كِنايَةً عَنْ نَفْيِ المَزْحِ بِنَفْيِ مَلْزُومِهِ، وبالَغَ في التَّنَزُّهِ بِقَوْلِهِ أعُوذُ بِاللَّهِ أيْ مِنهُ لِأنَّ العِياذَ بِاللَّهِ أبْلَغُ كَلِماتِ النَّفْيِ فَإنَّ المَرْءَ لا يَعُوذُ بِاللَّهِ إلّا إذا أرادَ التَّغَلُّبَ عَلى أمْرٍ عَظِيمٍ لا يَغْلِبُهُ إلّا اللَّهُ تَعالى. وصِيغَةُ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ أبْلَغُ في انْتِفاءِ الجَهالَةِ مِن أنْ لَوْ قالَ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أجْهَلَ كَما سَيَأْتِي في سُورَةِ الأنْعامِ عِنْدَ قَوْلِهِ وما أنا مِنَ المُهْتَدِينَ والجَهْلُ ضِدُّ العِلْمِ وضِدُّ الحِلْمِ وقَدْ ورَدَ لَهُما في كَلامِ العَرَبِ، فَمِنَ الأوَّلِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: ؎ألا لا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنا فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلِينا ومِنَ الثّانِي قَوْلُ الحَماسِيِّ فَلَيْسَ سَواءٌ عالِمٌ وجَهُولُ وقَوْلُ النّابِغَةِ: ؎ولَيْسَ جاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَن عَلِما
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب