الباحث القرآني

﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتَتَّخِذُنا هُزُوًا قالَ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هي قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ﴾ [البقرة: ٦٨] ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النّاظِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٩] ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هي إنَّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠] ﴿قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ولا تَسْقِي الحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] ﴿وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادّارَأْتُمْ فِيها واللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٧٢] ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى ويُرِيكم آياتِهِ لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٣] ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكم مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَهي كالحِجارَةِ أوْ أشَدُّ قَسْوَةً وإنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأنْهارُ وإنَّ مِنها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإنَّ مِنها لَما يَهْبِطُ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٧٤] (p-٢٤٨)البَقَرَةُ: الأُنْثى مِن هَذا الحَيَوانِ المَعْرُوفِ، وقَدْ يَقَعُ عَلى الذَّكَرِ. والباقِرُ والبَقِيرُ والبَيْقُورُ والباقُورُ، قالُوا: وإنَّما سُمِّيَتْ بَقَرَةً لِأنَّها تَبْقُرُ الأرْضَ، أيْ تَشُقُّها لِلْحَرْثِ، ومِنهُ سُمِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ: الباقِرُ. وكانَ هو وأخُوهُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ مِنَ العُلَماءِ الفُصَحاءِ. العِياذُ والمَعاذُ: الِاعْتِصامُ. الفِعْلُ مِنهُ: عاذَ يَعُوذُ. الجَهْلُ: مَعْرُوفٌ، والفِعْلُ مِنهُ: جَهِلَ يَجْهَلُ، قِيلَ: وقَدْ جُمِعَ عَلى أجِهالٍ، وهو شاذٌّ. قالَ الشَّنْفَرى: ؎ولا تَزْدَهِي الأجْهالُ حِلْمِي ولا أرى سَؤُولًا بِأطْرافِ الأقاوِيلِ أنْمُلُ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ جاهِلٍ، كَأصْحابٍ جَمْعِ صاحِبٍ. الفارِضُ: المُسِنُّ الَّتِي انْقَطَعَتْ وِلادَتُها مِنَ الكِبَرِ. يُقالُ: فَرَضَتْ وفَرُضَتْ تَفْرِضُ، بِفَتْحِ العَيْنِ في الماضِي وضَمِّها، والمَصْدَرُ فَرُوضٌ، والفَرْضُ: القَطْعُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎كُمَيْتٍ بَهِيمِ اللَّوْنِ لَيْسَ بِفارِضٍ ∗∗∗ ولا بِعَوانٍ ذاتِ لَوْنٍ مُخَصَّفِ ويُقالُ لِكُلِّ ما قَدُمَ وطالَ أمْرُهُ: فارِضٌ، قالَ الشّاعِرُ: ؎يا رُبَّ ذِي ضَغَنٍ عَلَيَّ فارِضٍ ∗∗∗ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الحائِضِ وكَأنَّ المُسِنَّ سُمِّيَتْ فارِضًا لِأنَّها فَرَضَتْ سِنَّها، أيْ قَطَعَتْها وبَلَغَتْ آخِرَها، قالَ خُفافُ بْنُ نُدْبَةَ: ؎لَعَمْرِي لَقَدْ أعْطَيْتَ ضَيْفَكَ فارِضًا ∗∗∗ تُساقُ إلَيْهِ ما تَقُومُ عَلى رِجْلِ ؎ولَمْ تُعْطِهِ بِكْرًا فَيَرْضى سَمِينَهُ ∗∗∗ فَكَيْفَ تُجازى بِالمَوَدَّةِ والفَضْلِ البِكْرُ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ مِنَ الصِّغَرِ، وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الَّتِي ولَدَتْ ولَدًا واحِدًا. والبِكْرُ مِنَ النِّساءِ: الَّتِي لَمْ يَمَسَّها الرَّجُلُ، وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هي الَّتِي لَمْ تَحْمَلْ. والبِكْرُ مِنَ الأوْلادِ: الأوَّلُ، ومِنَ الحاجاتِ: الأُولى. قالَ الرّاجِزُ: ؎يا بِكْرَ بِكْرَيْنِ ويا خِلْبَ الكَبِدِ ∗∗∗ أصْبَحْتَ مِنِّي كَذِراعٍ مِن عَضُدِ والبَكْرُ، بِفَتْحِ الباءِ: الفَتى مِنَ الإبِلِ، والأُنْثى: بَكْرَةٌ، وأصْلُهُ مِنَ التَّقَدُّمِ في الزَّمانِ، ومِنهُ البَكْرَةُ والباكُورَةُ. والعَوانُ: النِّصْفُ، وهي الَّتِي ولَدَتْ بَطْنًا أوْ بَطْنَيْنِ، وقِيلَ: الَّتِي ولَدَتْ مَرَّةً. وقالَتِ العَرَبُ: العَوانُ لا تَعْلَمُ الخِمْرَةَ، ويُقالُ: عَوَنَتِ المَرْأةُ، وحَرْبٌ عَوانٌ، وهي الَّتِي قُوتِلَ فِيها مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وجُمِعَ عَلى فُعُلٍ: قالُوا عُوُنٌ، وهو القِياسُ في المُعْتَلِّ مِن فَعَألٍ، ويَجُوزُ ضَمُّ عَيْنِ الكَلِمَةِ في الشِّعْرِ، مِنهُ: ؎وفِي الأكُفِّ اللّامِعاتِ سُوُرٌ بَيْنَ: ظَرْفُ مَكانٍ مُتَوَسِّطُ التَّصَرُّفِ، تَقُولُ: هو بَعِيدٌ بَيْنَ المَنكِبَيْنِ، ونَقِيٌّ بَيْنَ الحاجِبَيْنِ. قالَ تَعالى: ﴿هَذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨]، ودُخُولُها إذا كانَتْ ظَرْفًا بَيْنَ ما تُمْكِنُ البَيْنِيَّةُ فِيهِ، والمالُ بَيْنَ زَيْدٍ وبَيْنَ عَمْرٍو، ومَسْمُوعٌ مِن كَلامِهِمْ، ويَنْتَقِلُ مِنَ المَكانِيَّةِ إلى الزَّمانِيَّةِ إذا لَحِقَتْها ما، أوِ الألِفُ، فَيَزُولُ عَنْها الِاخْتِصاصُ بِالأسْماءِ، فَيَلِيها إذْ ذاكَ الجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ والفِعْلِيَّةُ، ورُبَّما أُضِيفَتْ بَيْنا إلى المَصْدَرِ. ولِـ (بَيْنَ) في عِلْمِ الكُوفِيِّينَ بابٌ مَعْقُودٌ كَبِيرٌ. اللَّوْنُ: مَعْرُوفٌ، وجَمْعُهُ عَلى القِياسِ ألْوانٌ. واللَّوْنُ: النَّوْعُ، ومِنهُ ألْوانُ الطَّعامِ: أنْواعُهُ. وقالُوا: فُلانٌ مُتَلَوِّنٌ: إذا كانَ لا يَثْبُتُ عَلى خُلُقٍ واحِدٍ وحالٍ واحِدٍ، ومِنهُ: يَتَلَوَّنُ تَلَوُّنَ الحِرْباءِ، وذَلِكَ أنَّ الحِرْباءَ، لِصَفاءِ جِسْمِها، أيُّ لَوْنٍ قابَلَتْهُ ظَهَرَ عَلَيْها، فَتَنْقَلِبُ مِن لَوْنٍ إلى لَوْنٍ. الصُّفْرَةُ: لَوْنٌ مَعْرُوفٌ، وقِياسُ الفِعْلِ مِن هَذا المَصْدَرِ: صَفِرَ، فَهو أصْفَرُ، وهي صَفْراءُ، كَقَوْلِهِمْ: شَهُبَ: فَهو أشْهَبُ، وهي شَهْباءُ. الفُقُوعُ: أشَدُّ ما يَكُونُ مِنَ الصُّفْرَةِ وأبْلَغُهُ، يُقالُ: أصْفَرُ فاقِعٌ ووارِسٌ، وأسْوَدُ حالِكٌ وحايِكٌ، وأبْيَضُ نَقُقٌ ولَمُقٌ، وأحْمَرُ قانِيُّ وزِنْجِيُّ، وأخْضَرُ ناضِرٌ ومُدْهامٌّ، وأزْرَقُ خُطْبانِيُّ (p-٢٤٩)وأرْمَكُ رادِنِيٌّ. السُّرُورُ: لَذَّةٌ في القَلْبِ عِنْدَ حُصُولِ نَفْعٍ أوْ تَوَقُّعِهِ أوْ رُؤْيَةِ أمْرٍ مُعْجِبٍ رائِقٍ. وقالَ قَوْمٌ: السُّرُورُ والفَرَحُ والحُبُورُ والجَذَلُ نَظائِرُ، ونَقِيضُ السُّرُورِ: الغَمُّ. الذَّلُولُ: الرَّيِّضُ الَّذِي زالَتْ صُعُوبَتُهُ، يُقالُ: دابَّةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذِّلِّ، بِكَسْرِ الذّالِ، ورَجُلٌ ذَلِيلٌ: بَيِّنُ الذُّلِّ، بِضَمِّ الذّالِ، والفِعْلُ: ذَلَّ يَذِلُّ. الإثارَةُ: الِاسْتِخْراجُ والقَلْقَلَةُ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ، وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎يُهِيلُ ويُذْرِي تُرْبَها ويُثِيرُهُ ∗∗∗ إثارَةَ نَبّاشِ الهَواجِرِ مُخْمِسِ وقالَ النّابِغَةُ: ؎يُثِرْنَ الحَصى حَتّى يُباشِرْنَ تُرْبَهُ ∗∗∗ إذا الشَّمْسُ مَجَّتْ رِيقَها بِالكَلاكِلِ الحَرْثُ: مَصْدَرُ حَرَثَ يَحْرُثُ، وهو شَقُّ الأرْضِ لِيُبْذَرَ فِيها الحَبُّ، ويُطْلَقُ عَلى ما حُرِثَ وزُرِعَ، وهو مَجازٌ في: ﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] . والحَرْثُ: الزَّرْعُ، والحَرْثُ: الكَسْبُ، والحَرائِثُ: الإبِلُ، الواحِدَةُ حَرِيثَةٌ. وفي الحَدِيثِ أصْدَقُ الأسْماءِ الحارِثُ؛ لِأنَّ الحارِثَ هو الكاسِبُ، واحْتِراثُ المالِ: اكْتِسابُهُ. المُسَلَّمَةُ المُخَلَّصَةُ المُبَرَّأةُ مِنَ العُيُوبِ، سَلَّمَ لَهُ كَذا: أيْ خَلَّصَ، سَلامًا وسَلامَةً مِثْلُ: اللَّذاذُ واللَّذاذَةُ. الشِّيَةُ: مَصْدَرُ وشى الثَّوْبَ، يَشِيَهُ وشْيًا وشِيَةً: حَسَّنَهُ وزَيَّنَهُ بِخُطُوطٍ مُخْتَلِفَةِ الألْوانِ، ومِنهُ قِيلَ لِلسّاعِي في الإفْسادِ بَيْنَ النّاسِ: واشٍ؛ لِأنَّهُ يُحَسِّنُ كَذِبَهُ عِنْدَهم حَتّى يُقْبَلَ، والشِّيَةُ: اللُّمْعَةُ المُخالِفَةُ لِلَّوْنِ، ومِنهُ ثَوْرٌ مَوْشِيِّ القَوائِمِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎مِن وحْشِ وجْرَةَ مَوْشِيٍّ أكارِعُهُ ∗∗∗ طاوِي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرَدِ الآنَ: ظَرْفُ زَمانٍ، حَضَرَ جَمِيعُهُ أوْ بَعْضُهُ، والألِفُ واللّامُ فِيهِ لِلْحُضُورِ. وقِيلَ: زائِدَةٌ، وهو مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى الإشارَةِ. وزَعَمَ الفَرّاءُ أنَّهُ مَنقُولٌ مِنَ الفِعْلِ، يُقالُ: آنَ يَئِينُ أيْنًا: أيْ حانَ. الدَّرْءُ: الدَّفْعُ، ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎فَنَكَّبَ عَنْهُمُ دَرْءَ الأعادِي وادّارَأ: تَفاعُلٌ مِنهُ، ولِمَصْدَرِهِ حُكْمٌ يُخالِفُ مَصادِرَ الأفْعالِ الَّتِي أوَّلُها هَمْزَةُ وصْلٍ ذُكِرَ في النَّحْوِ. القَساوَةُ: غِلَظُ القَلْبِ وصَلابَتُهُ. يُقالُ: قَسا يَقْسُو قَسْوًا وقَسْوَةً وقَساوَةً، وقَسا وجَسا وعَسا مُتَقارِبَةٌ. الشَّقُّ، أنْ يَجْعَلَ الشَّيْءَ شِقَّيْنِ، وتَشَقَّقَ مِنهُ. الخَشْيَةُ: الخَوْفُ مَعَ تَعَظُّمِ المَخْشِيِّ. يُقالُ: خَشِيَ يَخْشى. الغَفْلَةُ والسَّهْوُ والنِّسْيانُ مُتَقارِبَةٌ. يُقالُ مِنهُ: غَفَلَ يَغْفُلُ، ومَكانٌ غُفْلٌ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ. * * * ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ الآيَةَ. وُجِدَ قَتِيلٌ في بَنِي إسْرائِيلَ اسْمُهُ عامِيلُ، ولَمْ يَدْرُوا قاتِلَهُ، واخْتَلَفُوا فِيهِ وفي سَبَبِ قَتْلِهِ. فَقالَ عَطاءٌ والسُّدِّيُّ: كانَ القاتِلُ ابْنَ عَمِّ المَقْتُولِ، وكانَ مِسْكِينًا، والمَقْتُولُ كَثِيرَ المالِ. وقِيلَ: كانَ أخاهُ، وقِيلَ: ابْنُ أخِيهِ، ولا وارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَلَمّا طالَ عَلَيْهِ عُمْرُهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ. وقالَ عَطاءٌ أيْضًا: كانَ تَحْتَ عامِيلَ بِنْتُ عَمٍّ لا مِثْلَ لَها في بَنِي إسْرائِيلَ في الحُسْنِ والجَمالِ، فَقَتَلَهُ لِيَنْكِحَها. وطَوَّلَ المُفَسِّرُونَ في هَذِهِ الحِكايَةِ بِما يُوقَفُ عَلَيْهِ في كُتُبِهِمْ. والَّذِي سَألَ مُوسى البَيانَ هو القاتِلُ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ. وقالَ غَيْرُهُ: بَلِ اجْتَمَعَ القَوْمُ فَسَألُوا مُوسى، ووَجْهُ مُناسَبَةِ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها، أنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُخالَفَتِهِمْ لِأنْبِيائِهِمْ وتَكْذِيبِهِمْ لَهم في أكْثَرِ أنْبائِهِمْ، فَناسَبَ ذَلِكَ ذِكْرُ هَذِهِ الآيَةِ لِما تَضَمَّنَتْ مِنَ المُراجَعَةِ والتَّعَنُّتِ والعِنادِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وقَوْلُهُ: (وإذْ قالَ) مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ﴾ [البقرة: ٦٣]، وقَوْمُ مُوسى أتْباعُهُ وأشْياعُهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: يَأْمُرُكم بِضَمِّ الرّاءِ، وعَنْ أبِي عَمْرٍو: السُّكُونُ والِاخْتِلاسُ وإبْدالُ الهَمْزَةِ ألِفًا، وقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ عِنْدَ الكَلامِ عَلى بارِئِكم ويَأْمُرُكم بِصِيغَةِ المُضارِعِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ الحالُ، ويُحْتَمَلَ أنْ يُرادَ بِهِ الماضِي إنْ كانَ الأمْرُ بِذَبْحِ البَقَرَةِ بِما أنْزَلَ اللَّهُ في التَّوْراةِ، أوْ بِما أخْبَرَ مُوسى، وأنْ تَذْبَحُوا في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِـ ”يَأْمُرُ“ وهو عَلى إسْقاطِ الحَرْفِ، أيْ بِأنْ تَذْبَحُوا. ولِحَذْفِ الحَرْفِ هُنا مُسَوِّغانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ إذا (p-٢٥٠)كانَ المَفْعُولُ مُتَأثِّرًا بِحَرْفِ الجَرِّ أنْ يُحْذَفَ الحَرْفُ، كَما قالَ: ؎أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ بِهِ والثّانِي: كَوْنُهُ مَعَ إنَّ، وهو يَجُوزُ مَعَها حَذْفُ حَرْفِ الجَرِّ إذا لَمْ يُلْبِسْ. ودَلالَةُ الكَلامِ عَلى أنَّ المَأْمُورَ بِهِ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَأيُّ بَقَرَةٍ كانَتْ لَوْ ذَبَحُوها لَكانَ يَقَعُ الِامْتِثالُ. وقَدْ رَوى الحَسَنُ مَرْفُوعًا، «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ”والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوِ اعْتَرَضُوا بَقَرَةً فَذَبَحُوها لَأجْزَأتْ عَنْهم، ولَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ“» . وإنَّما اخْتُصَّ البَقَرُ مِن سائِرِ الحَيَواناتِ لِأنَّهم كانُوا يُعَظِّمُونَ البَقَرَ ويَعْبُدُونَها مِن دُونِ اللَّهِ، فاخْتُبِرُوا بِذَلِكَ، إذْ هَذا مِنَ الِابْتِلاءِ العَظِيمِ، وهو أنْ يُؤْمَرَ الإنْسانُ بِقَتْلِ مَن يُحِبُّهُ ويُعَظِّمُهُ، أوْ لِأنَّهُ أرادَ تَعالى أنْ يَصِلَ الخَيْرُ لِلْغُلامِ الَّذِي كانَ بارًّا بِأُمِّهِ. وقالَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: لَمْ تَكُنْ مِن بَقَرِ الدُّنْيا، بَلْ نَزَلَتْ مِنَ السَّماءِ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: البَقَرُ سَيِّدُ الحَيَواناتِ الإنْسِيَّةِ. وقَرَأ: (أتَتَّخِذُنا) ؟ الجُمْهُورُ: بِالتّاءِ، عَلى أنَّ الضَّمِيرَ هو لِمُوسى. وقَرَأ عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالياءِ، عَلى أنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ تَعالى، وهو اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ. (هُزُوًا)، قَرَأ حَمْزَةُ، وإسْماعِيلُ، وخَلَفٌ في اخْتِيارِهِ، والقَزّازُ، عَنْ عَبْدِ الوارِثِ، والمُفَضَّلُ، بِإسْكانِ الزّايِ. وقَرَأ حَفْصٌ: بِضَمِّ الزّايِ والواوِ بَدَلَ الهَمْزِ. وقَرَأ الباقُونَ بِضَمِّ الزّايِ والهَمْزَةِ، وفِيهِ ثَلاثُ لُغاتٍ الَّتِي قُرِئَ بِها، وانْتِصابُهُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِقَوْلِهِ: ﴿أتَتَّخِذُنا هُزُوًا﴾، فَإمّا أنْ يُرِيدَ بِهِ اسْمَ المَفْعُولِ، أيْ مَهْزُوءًا كَقَوْلِهِ: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأمِيرِ، وهَذا خَلْقُ اللَّهِ، أوْ يَكُونَ أُخْبِرُوا بِهِ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ، أيْ أتَتَّخِذُنا نَفْسَ الهُزُءِ، وذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِهْزاءِ مِمَّنْ يَكُونُ جاهِلًا، أوْ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ مَكانَ هُزُءٍ، أوْ ذَوِي هُزُءٍ، وإجابَتُهم نَبِيَّهم حِينَ أخْبَرَهم عَنْ أمْرِ اللَّهِ بِأنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، بِقَوْلِهِمْ: ﴿أتَتَّخِذُنا هُزُوًا﴾ دَلِيلٌ عَلى سُوءِ عَقِيدَتِهِمْ في نَبِيِّهِمْ وتَكْذِيبِهِمْ لَهُ، إذْ لَوْ عَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ إخْبارٌ صَحِيحٌ عَنِ اللَّهِ تَعالى، لَما كانَ جَوابُهم إلّا امْتِثالَ الأمْرِ، وجَوابُهم هَذا كُفْرٌ بِمُوسى. وقالَ بَعْضُ النّاسِ: كانُوا مُؤْمِنِينَ مُصَدِّقِينَ، ولَكِنْ جَرى هَذا عَلى نَحْوِ ما هم عَلَيْهِ مِن غِلَظِ الطَّبْعِ والجَفاءِ والمَعْصِيَةِ. والعُذْرُ لَهم أنَّهم لَمّا طَلَبُوا مِن مُوسى تَعْيِينَ القاتِلِ فَقالَ لَهم: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا﴾، رَأوْا تَبايُنًا ما بَيْنَ السُّؤالِ والجَوابِ وبُعْدَهُ، فَتَوَهَّمُوا أنَّ مُوسى داعَبَهم، وقَدْ لا يَكُونُ أخْبَرَهم في ذَلِكَ الوَقْتِ بِأنَّ القَتِيلَ يُضْرَبُ بِبَعْضِ البَقَرَةِ المَذْبُوحَةِ فَيَحْيا ويُخْبِرُ بِمَن قَتَلَهُ، أوْ يَكُونُ أخْبَرَهم بِذَلِكَ، فَتَعَجَّبُوا مِن إحْياءِ مَيِّتٍ بِبَعْضِ مَيِّتٍ، فَظَنُّوا أنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرى الِاسْتِهْزاءِ. وقِيلَ: في الكَلامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: آللَّهُ أمَرَكَ أنْ تَتَّخِذَنا هُزُوًا ؟ وقِيلَ: هو اسْتِفْهامٌ حَقِيقَةً لَيْسَ فِيهِ إنْكارٌ، وهو اسْتِفْهامُ اسْتِرْشادٍ لا اسْتِفْهامُ إنْكارٍ وعِنادٍ. ﴿قالَ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ لَمّا فَهِمَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَنْهم أنَّ تِلْكَ المَقالَةَ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهم إنَّما هي لِاعْتِقادِهِمْ فِيها أنَّهُ أخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِما لَمْ يَأْمُرْ بِهِ، اسْتَعاذَ بِاللَّهِ وهو الَّذِي أخْبَرَ عَنْهُ، أنْ يَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ بِاللَّهِ، فَيُخْبِرَ عَنْهُ بِأمْرٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ تَعالى، إذِ الإخْبارُ عَنِ اللَّهِ تَعالى بِما لَمْ يُخْبِرْ بِهِ اللَّهُ إنَّما يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الجَهْلِ بِاللَّهِ تَعالى. وقَوْلُهُ: مِنَ الجاهِلِينَ فِيهِ تَصْرِيحٌ أنَّ ثَمَّ جاهِلِينَ، واسْتَعاذَ بِاللَّهِ أنْ يَكُونَ مِنهم، وفِيهِ تَعْرِيضٌ أنَّهم جاهِلُونَ، وكَأنَّهُ قالَ: أنْ أكُونَ مِنكم، لِأنَّهم جَوَّزُوا عَلى مَن هو مَعْصُومٌ مِنَ الكَذِبِ، وخُصُوصًا في التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ أنْ يُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ بِالكَذِبِ. قالُوا: والجَهْلُ بَسِيطٌ، ومُرَكَّبٌ. البَسِيطُ: عامٌّ وخاصٌّ. العامُّ: عَدَمُ العِلْمِ بِشَيْءٍ مِنَ المَعْلُوماتِ، والخاصُّ: عَدَمُ العِلْمِ بِبَعْضِ المَعْلُوماتِ، والمُرَكَّبُ: أنْ يَجْهَلَ، ويَجْهَلَ أنَّهُ يَجْهَلُ. فالعامُّ والمُرَكَّبُ لا يُوصَفُ بِهِما مَن لَهُ بَعْضُ عِلْمٍ، فَضْلًا عَنْ نَبِيٍّ شُرِّفَ بِالرِّسالَةِ والتَّكْلِيمِ، وذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ، فَيَسْتَحِيلُ أنْ يَسْتَعِيذَ مِنهُ إلّا عَلى سَبِيلِ الأدَبِ. فالَّذِي اسْتَعاذَ مِنهُ مُوسى هو خاصٌّ، وهو المُفْضِي إلى أنْ يُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ تَعالى مُسْتَهْزِئًا، أوِ المُقابِلُ لِجَهْلِهِمْ. فَقالُوا: أتَتَّخِذُنا هُزُوًا لِمَن يُخْبِرُهم عَنِ اللَّهِ، أوْ مَعْناهُ الِاسْتِهْزاءُ بِالمُؤْمِنِينَ. فَإنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ، أوْ مِنَ الجاهِلِينَ (p-٢٥١)بِالجَوابِ، لا عَلى وفْقِ السُّؤالِ، إذْ ذاكَ جَهْلٌ، والأمْرُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِي، وأنْسُبُهُ إلى اللَّهِ، والخُرُوجُ عَنْ جَوابِ السّائِلِ المُسْتَرْشِدِ إلى الهُزُءِ فَإنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ. وهَذِهِ الوُجُوهُ السِّتَّةُ مُسْتَحِيلَةٌ عَلى مُوسى. قِيلَ: وإنَّما اسْتَعاذَ مِنها بِطَرِيقِ الأدَبِ، كَما اسْتَعاذَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ [هود: ٤٧]، وكَما في: ﴿وقُلْ رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِن هَمَزاتِ الشَّياطِينِ﴾ [المؤمنون: ٩٧]، وإنَّما قالُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ والتَّواضُعِ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب