الباحث القرآني

﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ بَيانُ نَوْعٍ مِن مَساوِيهِمْ مِن غَيْرِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ، وصَحَّ العَطْفُ لِأنَّ ذِكْرَ النِّعَمِ سابِقًا كانَ مُشْتَمِلًا عَلى ذِكْرِ المَساوِي أيْضًا مِنَ المُخالَفَةِ لِلْأنْبِياءِ، والتَّكْذِيبِ لَهُمْ، وغَيْرِ ذَلِكَ، وقَدْ يُقالُ: هو عَلى نَمَطِ ما تَقَدَّمَ، لِأنَّ الذَّبْحَ نِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لِرِفْعَةِ التَّشاجُرِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ، وأُخْرَوِيَّةٌ لِكَوْنِهِ مُعْجِزَةً لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وكَأنَّ مَوْلانا الإمامَ الرّازِيَّ خَفِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقالَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا عَدَّدَ وُجُوهَ إنْعامِهِ عَلَيْهِمْ أوَّلًا خَتَمَ ذَلِكَ بِشَرْحِ بَعْضِ ما وجَّهَ إلَيْهِمْ مِنَ التَّشْدِيداتِ، وجَعَلَ النَّوْعَ الثّانِيَ ما أشارَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ، ولَيْسَ بِالبَعِيدِ، وأوَّلُ القِصَّةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادّارَأْتُمْ فِيها﴾ إلَخْ، وكانَ الظّاهِرُ أنْ يُقالَ: قالَ مُوسى: إذْ قُتِلَ قَتِيلٌ تُنُوزِعَ في قاتِلِهِ، إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ هي كَذا وكَذا، وأنْ يُضْرَبَ بِبَعْضِها ذَلِكَ القَتِيلُ، ويُخْبِرَ بِقاتِلِهِ، فَيَكُونَ كَيْتَ وكَيْتَ، إلّا أنَّهُ فُكَّ بَعْضُها وقُدِّمَ، لِاسْتِقْلالِهِ بِنَوْعٍ مِن مَساوِيهِمُ الَّتِي قَصَدَ نَعْيَها عَلَيْهِمْ، وهو الِاسْتِهْزاءُ بِالأمْرِ، والِاسْتِقْصاءُ في السُّؤالِ، وتَرَكُ المُصارَعَةِ إلى الِامْتِثالِ، ولَوْ أُجْرِيَ عَلى النَّظْمِ لَكانَتْ قِصَّةً واحِدَةً، ولَذَهَبَتْ تَثْنِيَةُ التَّقْرِيعِ، وقَدْ وقَعَ في النَّظْمِ مِن فَكِّ التَّرْكِيبِ والتَّرْتِيبِ ما يُضاهِيهِ في بَعْضِ القِصَصِ، وهو مِنَ المَقْلُوبِ المَقْبُولِ لِتَضَمُّنِهِ نُكَتًا، وفَوائِدَ، وقِيلَ: إنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ نُزُولِها عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى حَسَبِ تِلاوَتِها، بِأنْ يَأْمُرَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِذَبْحِ البَقَرَةِ، ثُمَّ يَقَعُ القَتْلُ فَيُؤْمَرُوا بِضَرْبِ بَعْضِها، لَكِنَّ المَشْهُورَ خِلافُهُ، والقِصَّةُ أنَّهُ عَمِدَ إخْوانٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ إلى ابْنِ عَمٍّ لَهُما أخِي أبِيهِما، فَقَتَلاهُ لِيَرِثا مالَهُ، وطَرَحاهُ عَلى بابِ مَحَلِّهِمْ، ثُمَّ جاءا يَطْلُبانِ بِدَمِهِ، فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى بِذَبْحِ بِقَرَةٍ وضَرْبِهِ بِبَعْضِها لِيَحْيا، ويُخْبِرَ بِقاتِلِهِ، وقِيلَ: كانَ القاتِلُ أخا القَتِيلِ، وقِيلَ: ابْنُ أخِيهِ، ولا وارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَلَمّا طالَ عَلَيْهِ عُمْرُهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ، وقِيلَ: إنَّهُ كانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ يُقالُ لَهُ عامِيلُ، بِنْتُ عَمٍّ لا مِثْلَ لَها في بَنِي إسْرائِيلَ في الحُسْنِ والجَمالِ، فَقَتَلَهُ ذُو قَرابَةٍ لَهُ لِيَنْكِحَها، فَكانَ ما كانَ، وقَرَأ الجُمْهُورُ (يَأْمُرُكُمْ) بِضَمِّ الرّاءِ، وعَنْ أبِي عَمْرٍو السُّكُونُ والِاخْتِلاسُ وإبْدالُ الهَمْزَةِ ألِفًا، (وأنْ تَذْبَحُوا) في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِيَأْمُرُ، وهو عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ بِأنْ تَذْبَحُوا، ﴿قالُوا أتَتَّخِذُنا هُزُوًا﴾ اسْتِئْنافٌ وقَعَ جَوابًا عَمّا يَنْساقُ إلَيْهِ الكَلامُ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا صَنَعُوا، هَلْ سارَعُوا إلى الِامْتِثالِ أمْ لا؟ فَأُجِيبَ بِذَلِكَ، والِاتِّخاذُ كالتَّصْيِيرِ والجَعْلِ يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، أصْلُهُما المُبْتَدَأُ والخَبَرُ، (وهُزُوًا) مَفْعُولُهُ الثّانِي، ولِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثانِيًا لِأنَّهُ خَبَرُ المُبْتَدَإ في الحَقِيقَةِ، وهو اسْمُ ذاتٍ هُنا، فَيُقَدَّرُ مُضافٌ كَمَكانٍ، أوْ أهْلٍ، أوْ يُجْعَلُ بِمَعْنى المَهْزُوءِ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم صَيْدُ البَحْرِ﴾ أيْ مَصِيدُهُ، أوْ يُجْعَلُ الذّاتُ نَفْسَ المَعْنى مُبالَغَةً كَرَجُلٍ عَدْلٍ، وقَدْ قالُوا ذَلِكَ إمّا بَعْدَ أنْ أمَرَهم مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ دُونَ ذِكْرِ الأحْياءِ بِضَرْبِها، وإمّا بَعْدَ أنْ أمَرَهم وذَكَرَ لَهُمُ اسْتِبْعادًا لِما قالَهُ واسْتِخْفافًا بِهِ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهامُ، إذِ المَعْنى أتَسْخَرُ بِنا، فَإنَّ جَوابَكَ لا يُطابِقُ سُؤالَنا، ولا يَلِيقُ، وأيْنَ ما نَحْنُ فِيهِ مِمّا أنْتَ آمِرٌ بِهِ، ولا يَأْبى ذَلِكَ انْقِيادُهم لَهُ، لِأنَّهُ بَعْدَ العِلْمِ بِأنَّهُ جِدٌّ وعَزِيمَةٌ، ومِن هُنا قالَ بَعْضُهم: إنَّ إجابَتَهم نَبِيَّهم حِينَ أخْبَرَهم عَنْ أمْرِ اللَّهِ تَعالى بِأنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً بِذَلِكَ، دَلِيلٌ عَلى سُوءِ اعْتِقادِهِمْ بِنَبِيِّهِمْ، وتَكْذِيبِهِمْ لَهُ (p-286)إذْ لَوْ عَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ إخْبارٌ صَحِيحٌ عَنِ اللَّهِ تَعالى لَما اسْتَفْهَمُوا هَذا الِاسْتِفْهامَ، ولا كانُوا أجابُوا هَذا الجَوابَ، فَهم قَدْ كَفَرُوا بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: كانُوا مُؤْمِنِينَ مُصَدِّقِينَ، ولَكِنْ جَرى هَذا عَلى نَحْوِ ما هم عَلَيْهِ مِن غِلَظِ الطَّبْعِ والجَفاءِ والمَعْصِيَةِ، والعُذْرُ لَهم أنَّهم لَمّا طَلَبُوا مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ تَعْيِينَ القاتِلِ، فَقالَ ما قالَ ورَأوْا ما بَيْنَ السُّؤالِ والجَوابِ، تَوَهَّمُوا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ داعَبَهُمْ، أوْ ظَنُّوا أنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرى الِاسْتِهْزاءِ، فَأجابُوا بِما أجابُوا، وقِيلَ: اسْتَفْهَمُوا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِرْشادِ لا عَلى وجْهِ الإنْكارِ والعِنادِ، وقَرَأ عاصِمٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ (يَتَّخِذُنا) بِالياءِ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ تَعالى، وقَرَأ حَمْزَةُ وإسْماعِيلُ عَنْ نافِعٍ (هُزْأً) بِالإسْكانِ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ بِالضَّمِّ، وقَلْبِ الهَمْزَةِ واوًا، والباقُونَ بِالضَّمِّ والهَمْزَةِ، والكُلُّ لُغاتٌ فِيهِ. ﴿قالَ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ أيْ مِن أنْ أُعَدَّ في عِدادِهِمْ، والجَهْلُ كَما قالَ الرّاغِبُ: لَهُ مَعانٍ: عَدَمُ العِلْمِ، واعْتِقادُ الشَّيْءِ بِخِلافِ ما هو عَلَيْهِ، وفِعْلُ الشَّيْءِ بِخِلافِ ما حَقُّهُ أنْ يُفْعَلَ سَواءٌ اعْتَقَدَ فِيهِ اعْتِقادًا صَحِيحًا، أوْ فاسِدًا، وهَذا الأخِيرُ هو المُرادُ هُنا، وقَدْ نَفاهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ نَفْسِهِ قَصْدًا إلى نَفْيِ مَلْزُومِهِ الَّذِي رُمِيَ بِهِ، وهو الِاسْتِهْزاءُ عَلى طَرِيقِ الكِنايَةِ، وأُخْرِجَ ذَلِكَ في صُورَةِ الِاسْتِعارَةِ اسْتِفْظاعًا لَهُ، إذِ الهُزْءُ في مَقامِ الإرْشادِ كادَ يَكُونُ كُفْرًا، وما يَجْرِي مَجْراهُ، ووُقُوعُهُ في مَقامِ الِاحْتِقارِ والتَّهَكُّمِ مِثْلُ ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ سائِغٌ شائِعٌ، وفَرْقٌ بَيْنَ المَقامَيْنِ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ الِاسْتِعاذَةُ بِاللَّهِ تَعالى مِن ذَلِكَ مِن بابِ الأدَبِ، والتَّواضُعِ مَعَهُ سُبْحانَهُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقُلْ رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِن هَمَزاتِ الشَّياطِينِ﴾ لِأنَّ الأنْبِياءَ مَعْصُومُونَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، والأوَّلُ أوْلى، وهو المَعْرُوفُ مِن إيرادِ الِاسْتِعاذَةِ في أثْناءِ الكَلامِ، والفَرْقُ بَيْنَ الهُزْءِ والمَزْحِ ظاهِرٌ، فَلا يُنافِي وُقُوعَهُ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ أحْيانًا كَما لا يَخْفى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب