الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتَتَّخِذُنا هُزُوًا قالَ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هي قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ﴾ ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النّاظِرِينَ﴾ ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هي إنَّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ ﴿قالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ولا تَسْقِي الحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾ ﴿وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادّارَأْتُمْ فِيها واللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى ويُرِيكم آياتِهِ لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا هو النَّوْعُ الثّانِي مِنَ التَّشْدِيداتِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وسائِرِ المُفَسِّرِينَ أنَّ رَجُلًا مِن بَنِي (p-١٠٦)إسْرائِيلَ قَتَلَ قَرِيبًا لِكَيْ يَرِثَهُ ثُمَّ رَماهُ في مَجْمَعِ الطَّرِيقِ ثُمَّ شَكا ذَلِكَ إلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فاجْتَهَدَ مُوسى في تَعَرُّفِ القاتِلِ، فَلَمّا لَمْ يَظْهَرْ قالُوا لَهُ: سَلْ لَنا رَبَّكَ حَتّى يُبَيِّنَهُ، فَسَألَهُ فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ فَتَعَجَّبُوا مِن ذَلِكَ ثُمَّ شَدَّدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ بِالِاسْتِفْهامِ حالًا بَعْدَ حالٍ واسْتَقْصَوْا في طَلَبِ الوَصْفِ فَلَمّا تَعَيَّنَتْ لَمْ يَجِدُوها بِذَلِكَ النَّعْتِ إلّا عِنْدَ إنْسانٍ مُعَيَّنٍ ولَمْ يَبِعْها إلّا بِأضْعافِ ثَمَنِها، فاشْتَرَوْها وذَبَحُوها وأمَرَهم مُوسى أنْ يَأْخُذُوا عُضْوًا مِنها فَيَضْرِبُوا بِهِ القَتِيلَ، فَفَعَلُوا فَصارَ المَقْتُولُ حَيًّا وسَمّى لَهم قاتِلَهُ وهو الَّذِي ابْتَدَأ بِالشِّكايَةِ فَقَتَلُوهُ قَوَدًا، ثُمَّ هاهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أنَّ الإيلامَ والذَّبْحَ حَسَنٌ وإلّا لَما أمَرَ اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ عِنْدَنا وجْهُ الحُسْنِ فِيهِ أنَّهُ تَعالى مالِكُ المُلْكِ فَلا اعْتِراضَ لِأحَدٍ عَلَيْهِ، وعِنْدَ المُعْتَزِلَةِ إنَّما يَحْسُنُ لِأجْلِ الأعْواضِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى أمَرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مِن بَقَرِ الدُّنْيا وهَذا هو الواجِبُ المُخَيَّرُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا بِالواجِبِ المُخَيَّرِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: القائِلُونَ بِالعُمُومِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ مَعْناهُ اذْبَحُوا أيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ فَهَذِهِ الصِّيغَةُ تُفِيدُ هَذا العُمُومَ، وقالَ مُنْكِرُو العُمُومِ: إنَّ هَذا لا يَدُلُّ عَلى العُمُومِ واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ المَفْهُومَ مِن قَوْلِ القائِلِ اذْبَحْ بَقَرَةً. يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إلى قِسْمَيْنِ، فَإنَّهُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: اذْبَحْ بَقَرَةً مُعَيَّنَةً مِن شَأْنِها كَيْتُ وكَيْتُ ويَصِحُّ أيْضًا أنْ يُقالَ اذْبَحْ بَقَرَةً أيَّ بَقَرَةٍ شِئْتَ، فَإذَنِ المَفْهُومُ مِن قَوْلِكَ ”اذْبَحْ“ مَعْنًى مُشْتَرِكٌ بَيْنَ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ، والمُشْتَرِكُ بَيْنَ القِسْمَيْنِ لا يَسْتَلْزِمُ واحِدًا مِنهُما، فَإذَنْ قَوْلُهُ اذْبَحُوا بَقَرَةً لا يَسْتَلْزِمُ مَعْناهُ مَعْنى قَوْلِهِ: اذْبَحُوا بَقَرَةً، أيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يُفِيدُ العُمُومَ لِأنَّهُ لَوْ أفادَ العُمُومَ لَكانَ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً أيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ تَكْرِيرًا ولَكانَ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً مُعَيَّنَةً نَقْضًا، ولَمّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنا فَسادَ هَذا القَوْلِ. الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ كالنَّقِيضِ لِقَوْلِنا لا تَذْبَحُوا بَقَرَةً، وقَوْلُنا لا تَذْبَحُوا بَقَرَةً يُفِيدُ النَّفْيَ العامَّ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قَوْلُنا اذْبَحُوا بَقَرَةً يَرْفَعَ عُمُومَ النَّفْيِ ويَكْفِي في ارْتِفاعِ عُمُومِ النَّفْيِ خُصُوصُ الثُّبُوتِ عَلى وجْهٍ واحِدٍ، فَإذَنْ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً يُفِيدُ الأمْرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ واحِدَةٍ فَقَطْ، أمّا الإطْلاقُ في ذَبْحِ أيِّ بَقَرَةٍ شاءُوا فَذَلِكَ لا حاجَةَ إلَيْهِ في ارْتِفاعِ ذَلِكَ النَّفْيِ فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ مُسْتَفادًا مِنَ اللَّفْظِ. الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿بَقَرَةً﴾ لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ مُنْكَرَةٌ والمُفْرَدُ المُنَكَّرُ إنَّما يُفِيدُ فَرْدًا مُعَيَّنًا في نَفْسِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ القَوْلِ الدّالِّ عَلَيْهِ ولا يَجُوزُ أنْ يُفِيدَ فَرْدًا أيَّ فَرْدٍ كانَ بِدَلِيلِ أنَّهُ إذا قالَ: رَأيْتُ رَجُلًا فَإنَّهُ لا يُفِيدُ إلّا ما ذَكَرْناهُ فَإذا ثَبَتَ أنَّهُ في الخَبَرِ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونَ في الأمْرِ كَذَلِكَ، واحْتَجَّ القائِلُونَ بِالعُمُومِ بِأنَّهُ لَوْ ذَبَحَ أيَّ بَقَرَةٍ كانَتْ فَإنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ العُهْدَةِ فَوَجَبَ أنْ يُفِيدَ العُمُومَ. والجَوابُ: أنَّ هَذا مُصادَرَةٌ عَلى المَطْلُوبِ الأوَّلِ، فَإنَّ هَذا إنَّما يَثْبُتُ لَوْ ثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: اذْبَحْ بَقَرَةً مَعْناهُ اذْبَحْ أيَّ بَقَرَةٍ شِئْتَ، وهَذا هو عَيْنُ المُتَنازَعِ فِيهِ. فَهَذا هو الكَلامُ في هَذِهِ المَسْألَةِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ هَلْ هو أمْرٌ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُبَيَّنَةٍ أوْ هو أمْرٌ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ أيِّ بَقَرَةٍ كانَتْ، فالَّذِينَ يُجَوِّزُونَ تَأْخِيرَ البَيانِ عَنْ وقْتِ الخِطابِ قالُوا: إنَّهُ كانَ أمْرًا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ ولَكِنَّها ما كانَتْ مُبَيَّنَةً، وقالَ المانِعُونَ مِنهُ: هو وإنْ كانَ أمْرًا بِذَبْحِ أيِّ بَقَرَةٍ (p-١٠٧)كانَتْ إلّا أنَّ القَوْمَ لَمّا سَألُوا تَغَيُّرَ التَّكْلِيفِ عِنْدَ ذَلِكَ، وذَلِكَ لِأنَّ التَّكْلِيفَ الأوَّلَ كانَ كافِيًا لَوْ أطاعُوا وكانَ التَّخْيِيرُ في جِنْسِ البَقَرِ إذْ ذاكَ هو الصَّلاحَ، فَلَمّا عَصَوْا ولَمْ يَمْتَثِلُوا ورَجَعُوا بِالمَسْألَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ تَغَيُّرُ المَصْلَحَةِ وذَلِكَ مَعْلُومٌ في المُشاهَدِ؛ لِأنَّ المُدَبِّرَ لِوَلَدِهِ قَدْ يَأْمُرُهُ بِالسَّهْلِ اخْتِيارًا، فَإذا امْتَنَعَ الوَلَدُ مِنهُ فَقَدْ يَرى المَصْلَحَةَ في أنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّعْبِ فَكَذا هاهُنا. واحْتَجَّ الفَرِيقُ الأوَّلُ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ﴾ و﴿ما لَوْنُها﴾ وقَوْلُ اللَّهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ﴾، ﴿إنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ﴾، ﴿إنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ﴾ مُنْصَرِفٌ إلى ما أُمِرُوا بِذَبْحِهِ مِن قَبْلُ وهَذِهِ الكِناياتُ تَدُلُّ عَلى أنَّ المَأْمُورَ بِهِ ما كانَ ذَبْحَ بَقَرَةٍ أيِّ بَقَرَةٍ كانَتْ، بَلْ كانَ المَأْمُورُ بِهِ ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ. الثّانِي: أنَّ الصِّفاتِ المَذْكُورَةَ في الجَوابِ عَنِ السُّؤالِ الثّانِي إمّا أنْ يُقالَ: إنَّها صِفاتُ البَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِها أوَّلًا أوْ صِفاتُ بَقَرَةٍ وجَبَتْ عَلَيْهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ السُّؤالِ وانْتَسَخَ ما كانَ واجِبًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، والأوَّلُ هو المَطْلُوبُ، والثّانِي يَقْتَضِي أنْ يَقَعَ الِاكْتِفاءُ بِالصِّفاتِ المَذْكُورَةِ آخِرًا، وأنْ لا يَجِبَ حُصُولُ الصِّفاتِ المَذْكُورَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، ولَمّا أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ تِلْكَ الصِّفاتِ بِأسْرِها كانَتْ مُعْتَبَرَةً عَلِمْنا فَسادَ هَذا القِسْمِ. فَإنْ قِيلَ أمّا الكِناياتُ فَلا نُسَلِّمُ عَوْدَها إلى البَقَرَةِ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّها كِناياتٌ عَنِ القِصَّةِ والشَّأْنِ، وهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ العَرَبِ ؟ قُلْنا: هَذا باطِلٌ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ هَذِهِ الكِناياتِ لَوْ كانَتْ عائِدَةً إلى القِصَّةِ والشَّأْنِ لَبَقِيَ ما بَعْدَ هَذِهِ الكِناياتِ غَيْرَ مُفِيدٍ؛ لِأنَّهُ لا فائِدَةَ في قَوْلِهِ: ﴿بَقَرَةٌ صَفْراءُ﴾ بَلْ لا بُدَّ مِن إضْمارِ شَيْءٍ آخَرَ وذَلِكَ خِلافُ الأصْلِ، أمّا إذا جَعَلْنا الكِناياتِ عائِدَةً إلى المَأْمُورِ بِهِ أوَّلًا لَمْ يَلْزَمْ هَذا المَحْذُورُ. وثانِيها: أنَّ الحُكْمَ بِرُجُوعِ الكِنايَةِ إلى القِصَّةِ والشَّأْنِ خِلافُ الأصْلِ؛ لِأنَّ الكِنايَةَ يَجِبُ عَوْدُها إلى شَيْءٍ جَرى ذِكْرُهُ، والقِصَّةُ والشَّأْنُ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُما فَلا يَجُوزُ عَوْدُ الكِنايَةِ إلَيْهِما لَكِنّا خالَفْنا هَذا الدَّلِيلَ لِلضَّرُورَةِ في بَعْضِ المَواضِعِ فَبَقِيَ ما عَداهُ عَلى الأصْلِ. وثالِثُها: أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿ما لَوْنُها﴾ و﴿ما هِيَ﴾ لا شَكَّ أنَّهُ عائِدٌ إلى البَقَرَةِ المَأْمُورِ بِها فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ﴾ عائِدًا إلى تِلْكَ البَقَرَةِ وإلّا لَمْ يَكُنِ الجَوابُ مُطابِقًا لِلسُّؤالِ. الثّالِثُ: أنَّهم لَوْ كانُوا سائِلِينَ مُعانِدِينَ لَمْ يَكُنْ في مِقْدارِ ما أمَرَهم بِهِ مُوسى ما يُزِيلُ الِاحْتِمالَ لِأنَّ مِقْدارَ ما ذَكَرَهُ مُوسى أنْ تَكُونَ بَقَرَةً صَفْراءَ مُتَوَسِّطَةً في السِّنِّ كامِلَةً في القُوَّةِ، وهَذا القَدْرُ مَوْضِعٌ لِلِاحْتِمالاتِ الكَثِيرَةِ، فَلَمّا سَكَتُوا هاهُنا واكْتَفَوْا بِهِ عَلِمْنا أنَّهم ما كانُوا مُعانِدِينَ. واحْتَجَّ الفَرِيقُ الثّانِي بِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ مَعْناهُ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً أيَّ بَقَرَةٍ كانَتْ، وذَلِكَ يَقْتَضِي العُمُومَ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ اعْتِبارُ الصِّفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا جَدِيدًا. وثانِيها: لَوْ كانَ المُرادُ ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَما اسْتَحَقُّوا التَّعْنِيفَ عَلى طَلَبِ البَيانِ بَلْ كانُوا يَسْتَحِقُّونَ المَدْحَ عَلَيْهِ، فَلَمّا عَنَّفَهُمُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ﴾، وفي قَوْلِهِ: ﴿فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾ عَلِمْنا تَقْصِيرَهم في الإتْيانِ بِما أُمِرُوا بِهِ أوَّلًا وذَلِكَ إنَّما يَكُونُ لَوْ كانَ المَأْمُورُ بِهِ أوَّلًا ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ. الثّالِثُ: ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: لَوْ ذَبَحُوا أيَّةَ بَقَرَةٍ أرادُوا لَأجْزَأتْ مِنهم لَكِنَّهم شَدَّدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.(p-١٠٨) ورابِعُها: أنَّ الوَقْتَ الَّذِي فِيهِ أُمِرُوا بِذَبْحِ البَقَرَةِ كانُوا مُحْتاجِينَ إلى ذَبْحِها، فَلَوْ كانَ المَأْمُورُ بِهِ ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مَعَ أنَّ اللَّهَ تَعالى ما بَيَّنَها لَكانَ ذَلِكَ تَأْخِيرًا لِلْبَيانِ عَنْ وقْتِ الحاجَةِ وإنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ. والجَوابُ: عَنِ الأوَّلِ ما بَيَّنّا في أوَّلِ المَسْألَةِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ لا يَدُلُّ عَلى أنَّ المَأْمُورَ بِهِ ذَبْحُ بَقَرَةٍ، أيِّ بَقَرَةٍ كانَتْ، وعَنِ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾ لَيْسَ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهم فَرَّطُوا في أوَّلِ القِصَّةِ وأنَّهم كادُوا يُفَرِّطُونَ بَعْدَ اسْتِكْمالِ البَيانِ، بَلِ اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما فَنَحْمِلُهُ عَلى الأخِيرِ وهو أنَّهم لَمّا وقَفُوا عَلى تَمامِ البَيانِ تَوَقَّفُوا عِنْدَ ذَلِكَ وما كادُوا يَفْعَلُونَهُ، وعَنِ الثّالِثِ: أنَّ هَذِهِ الرِّوايَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن بابِ الآحادِ وبِتَقْدِيرِ الصِّحَّةِ، فَلا تَصْلُحُ أنْ تَكُونَ مُعارِضَةً لِكِتابِ اللَّهِ تَعالى، وعَنِ الرّابِعِ: أنَّ تَأْخِيرَ البَيانِ عَنْ وقْتِ الحاجَةِ إنَّما يَلْزَمُ أنْ لَوْ دَلَّ الأمْرُ عَلى الفَوْرِ وذَلِكَ عِنْدَنا مَمْنُوعٌ. واعْلَمْ أنّا إذا فَرَّعْنا عَلى القَوْلِ بِأنَّ المَأْمُورَ بِهِ بَقَرَةٌ أيُّ بَقَرَةٍ كانَتْ، فَلا بُدَّ وأنْ نَقُولَ: التَّكالِيفُ مُغايِرَةٌ فَكُلِّفُوا في الأوَّلِ أيَّ بَقَرَةٍ كانَتْ، وثانِيًا: أنْ تَكُونَ لا فارِضًا ولا بِكْرًا بَلْ عَوانًا، فَلَمّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ كُلِّفُوا أنْ تَكُونَ صَفْراءَ، فَلَمّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ كُلِّفُوا أنْ تَكُونَ مَعَ ذَلِكَ لا ذَلُولًا تُثِيرُ الأرْضَ ولا تَسْقِي الحَرْثَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ القائِلُونَ بِهَذا المَذْهَبِ، مِنهم مَن قالَ في التَّكْلِيفِ الواقِعِ أخِيرًا يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا لِكُلِّ صِفَةٍ تَقَدَّمَتْ حَتّى تَكُونَ البَقَرَةُ مَعَ الصِّفَةِ الأخِيرَةِ لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ وصَفْراءُ فاقِعٌ، ومِنهم مَن يَقُولُ: إنَّما يَجِبُ كَوْنُها بِالصِّفَةِ الأخِيرَةِ فَقَطْ، وهَذا أشْبَهُ بِظاهِرِ الكَلامِ إذا كانَ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ، وإنْ كانَ الأوَّلُ أشْبَهَ بِالرِّواياتِ وبِطَرِيقَةِ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ تَرَدُّدِ الِامْتِثالِ، وإذا ثَبَتَ أنَّ البَيانَ لا يَتَأخَّرُ فَلا بُدَّ مِن كَوْنِهِ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الأسْهَلَ قَدْ يُنْسَخُ بِالأشَقِّ ويَدُلُّ عَلى جَوازِ النَّسْخِ قَبْلَ الفِعْلِ ولَكِنَّهُ لا يَدُلُّ عَلى جَوازِ النَّسْخِ قَبْلَ وقْتِ الفِعْلِ، ويَدُلُّ عَلى وُقُوعِ النَّسْخِ في شَرْعِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَهُ أيْضًا تَعَلُّقٌ بِمَسْألَةِ أنَّ الزِّيادَةَ عَلى النَّسْخِ هَلْ هو نَسْخٌ أمْ لا، ويَدُلُّ عَلى حُسْنِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ ثانِيًا لِمَن عَصى ولَمْ يَفْعَلْ ما كُلِّفَ أوَّلًا. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا أتَتَّخِذُنا هُزُوًا﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قُرِئَ: ”هُزُوًا“ بِالضَّمِّ وهُزْؤًا بِسُكُونِ الزّايِ نَحْوَ كُفُؤًا وكُفْءً وقَرَأ حَفْصٌ: (هُزُوًا) بِالضَّمَّتَيْنِ والواوِ وكَذَلِكَ كُفُوًا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ القَفّالُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا أتَتَّخِذُنا﴾ اسْتِفْهامٌ عَلى مَعْنى الإنْكارِ والهُزْءُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَعْنى المَهْزُوءِ بِهِ كَما يُقالُ كانَ هَذا في عِلْمِ اللَّهِ أيْ في مَعْلُومِهِ، واللَّهُ رَجاؤُنا أيْ مَرْجُوُّنا ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاتَّخَذْتُمُوهم سِخْرِيًّا﴾ [المُؤْمِنُونَ: ١١٠] قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ”أتَتَّخِذُنا هُزُءًا“ أتَجْعَلُنا مَكانَ هُزْءٍ أوْ أهْلَ هُزْءٍ أوْ مَهْزُوءًا بِنا، والهُزْءُ نَفْسُهُ فَرْطُ الِاسْتِهْزاءِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: القَوْمُ إنَّما قالُوا ذَلِكَ لِأنَّهم لَمّا طَلَبُوا مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ تَعْيِينَ القاتِلِ فَقالَ مُوسى: اذْبَحُوا بَقَرَةً لَمْ يَعْرِفُوا بَيْنَ هَذا الجَوابِ وذَلِكَ السُّؤالِ مُناسَبَةً، فَظَنُّوا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ يُلاعِبُهم؛ لِأنَّهُ مِنَ المُحْتَمَلِ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أمَرَهم بِذَبْحِ البَقَرَةِ وما أعْلَمَهم أنَّهم إذا ذَبَحُوا البَقَرَةَ ضَرَبُوا القَتِيلَ بِبَعْضِها فَيَصِيرُ حَيًّا فَلا جَرَمَ وقَعَ هَذا القَوْلُ مِنهم مَوْقِعَ الهُزْءِ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وإنْ كانَ قَدْ بَيَّنَ لَهم كَيْفِيَّةَ الحالِ إلّا أنَّهم تَعَجَّبُوا مِن أنَّ القَتِيلَ كَيْفَ يَصِيرُ حَيًّا بِأنْ يَضْرِبُوهُ بِبَعْضِ أجْزاءِ البَقَرَةِ فَظَنُّوا أنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرى الِاسْتِهْزاءِ.(p-١٠٩) المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ بَعْضُهم: إنَّ أُولَئِكَ القَوْمَ كَفَرُوا بِقَوْلِهِمْ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: أتَتَّخِذُنا هُزُءًا لِأنَّهم إنْ قالُوا ذَلِكَ وشَكُّوا في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى إحْياءِ المَيِّتِ، فَهو كُفْرٌ وإنْ شَكُّوا في أنَّ الَّذِي أمَرَهم بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ هَلْ هو بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، فَقَدْ جَوَّزُوا الخِيانَةَ عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في الوَحْيِ، وذَلِكَ أيْضًا كُفْرٌ. ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّهُ لا يُوجِبُ الكُفْرَ وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ المُلاعَبَةَ عَلى الأنْبِياءِ جائِزَةٌ فَلَعَلَّهم ظَنُّوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ يُلاعِبُهم مُلاعَبَةً حَقَّةً، وذَلِكَ لا يُوجِبُ الكُفْرَ. الثّانِي: أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أتَتَّخِذُنا هُزُوًا﴾ أيْ ما أعْجَبَ هَذا الجَوابَ كَأنَّكَ تَسْتَهْزِئُ بِنا لا أنَّهم حَقَّقُوا عَلى مُوسى الِاسْتِهْزاءَ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ الِاشْتِغالَ بِالِاسْتِهْزاءِ لا يَكُونُ إلّا بِسَبَبِ الجَهْلِ، ومَنصِبُ النُّبُوَّةِ لا يَحْتَمِلُ الإقْدامَ عَلى الِاسْتِهْزاءِ، فَلَمْ يَسْتَعِذْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِن نَفْسِ الشَّيْءِ الَّذِي نَسَبُوهُ إلَيْهِ، لَكِنَّهُ اسْتَعاذَ مِنَ السَّبَبِ المُوجِبِ لَهُ كَما قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ عِنْدَ مِثْلِ ذَلِكَ: أعُوذُ بِاللَّهِ مِن عَدَمِ العَقْلِ وغَلَبَةِ الهَوى، والحاصِلُ أنَّهُ أطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلى المُسَبِّبِ مَجازًا. هَذا هو الوَجْهُ الأقْوى. وثانِيها: أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ بِما في الِاسْتِهْزاءِ في أمْرِ الدِّينِ مِنَ العِقابِ الشَّدِيدِ والوَعِيدِ العَظِيمِ، فَإنِّي مَتى عَلِمْتُ ذَلِكَ امْتَنَعَ إقْدامِي عَلى الِاسْتِهْزاءِ. وثالِثُها: قالَ بَعْضُهم: إنَّ نَفْسَ الهُزْءِ قَدْ يُسَمّى جَهْلًا وجَهالَةً، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أهْلِ اللُّغَةِ: إنَّ الجَهْلَ ضِدُّ الحِلْمِ كَما قالَ بَعْضُهم إنَّهُ ضِدُّ العِلْمِ. واعْلَمْ أنَّ هَذا القَوْلَ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ يَدُلُّ عَلى أنَّ الِاسْتِهْزاءَ مِنَ الكَبائِرِ العِظامِ وقَدْ سَبَقَ تَمامُ القَوْلِ فِيهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالُوا إنّا مَعَكم إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٤ ]، ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البَقَرَةِ: ١٥ ] واعْلَمْ أنَّ القَوْمَ سَألُوا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ أُمُورٍ ثَلاثَةٍ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِالبَقَرَةِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: ما حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهم أنَّهم: ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ﴾ فَأجابَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ﴾ واعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ أبْحاثًا: الأوَّلُ: أنّا إذا قُلْنا: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ يَدُلُّ عَلى الأمْرِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ في نَفْسِها غَيْرُ مُبَيِّنٍ التَّعْيِينَ حَسُنَ مَوْقِعُ سُؤالِهِمْ؛ لِأنَّ المَأْمُورَ بِهِ لَمّا كانَ مُجْمَلًا حَسُنَ الِاسْتِفْسارُ والِاسْتِعْلامُ. أمّا عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّهُ في أصْلِ اللُّغَةِ لِلْعُمُومِ فَلا بُدَّ مِن بَيانِ أنَّهُ ما الَّذِي حَمَلَهم عَلى هَذا الِاسْتِفْسارِ ؟ وفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أخْبَرَهم بِأنَّهم إذا ذَبَحُوا البَقَرَةَ وضَرَبُوا القَتِيلَ بِبَعْضِها صارَ حَيًّا تَعَجَّبُوا مِن أمْرِ تِلْكَ البَقَرَةِ، وظَنُّوا أنَّ تِلْكَ البَقَرَةَ الَّتِي يَكُونُ لَها مِثْلُ هَذِهِ الخاصَّةِ لا تَكُونُ إلّا بَقَرَةً مُعَيَّنَةً، فَلا جَرَمَ اسْتَقْصُوا في السُّؤالِ عَنْ وصْفِها كَعَصا مُوسى المَخْصُوصَةِ مِن بَيْنِ سائِرِ العِصِيِّ بِتِلْكَ الخَواصِّ، إلّا أنَّ القَوْمَ كانُوا مُخْطِئِينَ في ذَلِكَ؛ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ العَجِيبَةَ ما كانَتْ خاصِّيَّةَ البَقَرَةِ، بَلْ كانَتْ مُعْجِزَةً يُظْهِرُها اللَّهُ تَعالى عَلى يَدِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. وثانِيها: لَعَلَّ القَوْمَ أرادُوا بَقَرَةً، أيَّ بَقَرَةٍ كانَتْ، إلّا أنَّ القاتِلَ خافَ مِنَ الفَضِيحَةِ، فَألْقى الشُّبْهَةَ في التَّبْيِينِ وقالَ المَأْمُورُ بِهِ بَقَرَةٌ مُعَيَّنَةٌ لا مُطْلَقُ البَقَرَةِ، فَلَمّا حانَ وقْتُ المُنازَعَةِ فِيهِ، رَجَعُوا عِنْدَ ذَلِكَ إلى مُوسى. وثالِثُها: أنَّ الخِطابَ الأوَّلَ وإنْ أفادَ العُمُومَ إلّا أنَّ القَوْمَ أرادُوا الِاحْتِياطَ فِيهِ، فَسَألُوا طَلَبًا لِمَزِيدِ البَيانِ وإزالَةً لِسائِرِ الِاحْتِمالاتِ، إلّا أنَّ المَصْلَحَةَ تَغَيَّرَتْ واقْتَضَتِ الأمْرَ بِذَبْحِ البَقَرَةِ المُعَيَّنَةِ.(p-١١٠) البَحْثُ الثّانِي: أنَّ سُؤالَ ”ما هِيَ“ طَلَبٌ لِتَعْرِيفِ الماهِيَّةِ والحَقِيقَةِ؛ لِأنَّ ”ما“ سُؤالٌ، و”هِيَ“ إشارَةٌ إلى الحَقِيقَةِ، فَما هي لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ طَلَبًا لِلْحَقِيقَةِ وتَعْرِيفُ الماهِيَّةِ والحَقِيقَةِ لا يَكُونُ إلّا بِذِكْرِ أجْزائِها ومُقَدِّماتِها لا بِذِكْرِ صِفاتِها الخارِجَةِ عَنْ ماهِيَّتِها، ومَعْلُومٌ أنَّ وصْفَ السِّنِّ مِنَ الأُمُورِ الخارِجَةِ عَنِ الماهِيَّةِ فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ هَذا الجَوابُ مُطابِقًا لِهَذا السُّؤالِ. والجَوابُ عَنْهُ: أنَّ الأمْرَ وإنْ كانَ كَما ذَكَرْتُمْ لَكِنَّ قَرِينَةَ الحالِ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ ما كانَ مَقْصُودُهم مِن قَوْلِهِمْ: ما البَقَرُ طَلَبُ ماهِيَّتِهِ وشَرْحُ حَقِيقَتِهِ بَلْ كانَ مَقْصُودُهم طَلَبَ الصِّفاتِ الَّتِي بِسَبَبِها يَتَمَيَّزُ بَعْضُ البَقَرِ عَنْ بَعْضٍ؛ فَلِهَذا حَسُنَ ذِكْرُ الصِّفاتِ الخارِجَةِ جَوابًا عَنْ هَذا السُّؤالِ. البَحْثُ الثّالِثُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: الفارِضُ: المُسِنَّةُ وسُمِّيَتْ فارِضًا لِأنَّها فَرَضَتْ سِنَّها، أيْ قَطَعَتْها وبَلَغَتْ آخِرَها، والبِكْرُ: الفَتِيَّةُ، والعَوانُ: النَّصَفُ. قالَ القاضِي: أمّا البِكْرُ، فَقِيلَ: إنَّها الصَّغِيرَةُ وقِيلَ: ما لَمْ تَلِدْ، وقِيلَ: إنَّها الَّتِي ولَدَتْ مَرَّةً واحِدَةً، قالَ المُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ [الضَّبِّيُّ]: إنَّهُ ذَكَرَ في الفارِضِ أنَّها المُسِنَّةُ وفي البِكْرِ أنَّها الشّابَّةُ وهي مِنَ النِّساءِ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ ومِنَ الإبِلِ الَّتِي وضَعَتْ بَطْنًا واحِدًا. قالَ القَفّالُ: البِكْرُ يَدُلُّ عَلى الأوَّلِ ومِنهُ الباكُورَةُ لِأوَّلِ الثَّمَرِ ومِنهُ بُكْرَةُ النَّهارِ ويُقالُ: بَكَّرْتُ عَلَيْهِما البارِحَةَ إذا جاءَ في أوَّلِ اللَّيْلِ، وكَأنَّ الأظْهَرَ أنَّها هي الَّتِي لَمْ تَلِدْ لِأنَّ المَعْرُوفَ مِنِ اسْمِ البِكْرِ مِنَ الإناثِ في بَنِي آدَمَ ما لَمْ يَنْزُ عَلَيْها الفَحْلُ، وقالَ بَعْضُهم: العَوانُ الَّتِي ولَدَتْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ. وحَرْبٌ عَوانٌ: إذا كانَتْ حَرْبًا قَدْ قُوتِلَ فِيها مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وحاجَةٌ عَوانٌ: إذا كانَتْ قَدْ قُضِيَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. البَحْثُ الرّابِعُ: احْتَجَّ العُلَماءُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَوانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ عَلى جَوازٍ الِاجْتِهادِ واسْتِعْمالِ غالِبِ الظَّنِّ في الأحْكامِ إذْ لا يُعْلَمُ أنَّها بَيْنَ الفارِضِ والبِكْرِ إلّا مِن طَرِيقِ الِاجْتِهادِ وهاهُنا سُؤالانِ: الأوَّلُ: لَفْظَةُ ”بَيْنَ“ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَصاعِدًا فَمِن أيْنَ جازَ دُخُولُهُ عَلى ذَلِكَ ؟ . الجَوابُ: لِأنَّهُ في مَعْنى شَيْئَيْنِ حَيْثُ وقَعَ مُشارًا بِهِ إلى ما ذُكِرَ مِنَ الفارِضِ والبِكْرِ. السُّؤالُ الثّانِي: كَيْفَ جازَ أنْ يُشارَ بِلَفْظَةِ: ”ذَلِكَ“ إلى مُؤَنَّثَيْنِ مَعَ أنَّهُ لِلْإشارَةِ إلى واحِدٍ مُذَكَّرٍ ؟ . الجَوابُ: جازَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلى تَأْوِيلِ ما ذُكِرَ أوْ ما تَقَدَّمَ لِلِاخْتِصارِ في الكَلامِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ﴾ فَفِيهِ تَأْوِيلانِ: الأوَّلُ: فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ بِهِ مِن قَوْلِكَ: أمَرْتُكَ الخَيْرَ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ فافْعَلُوا أمْرَكم بِمَعْنى مَأْمُورِكم تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالمَصْدَرِ كَضَرْبِ الأمِيرِ. واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ الأصْلِيَّ مِن هَذا الجَوابِ كَوْنُ البَقَرَةِ في أكْمَلِ أحْوالِها، وذَلِكَ لِأنَّ الصَّغِيرَةَ تَكُونُ ناقِصَةً لِأنَّها بَعْدُ ما وصَلَتْ إلى حالَةِ الكَمالِ، والمُسِنَّةُ كَأنَّها صارَتْ ناقِصَةً وتَجاوَزَتْ عَنْ حَدِّ الكَمالِ، فَأمّا المُتَوَسِّطَةُ فَهي الَّتِي تَكُونُ في حالَةِ الكَمالِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى سُؤالَهُمُ الثّانِيَ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها﴾ واعْلَمْ أنَّهم لَمّا عَرَفُوا حالَ السِّنِّ شَرَعُوا بَعْدَهُ في تَعَرُّفِ حالِ اللَّوْنِ فَأجابَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّها: ﴿صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها﴾، والفُقُوعُ أشَدُّ ما يَكُونُ مِنَ الصُّفْرَةِ وأنْصَعُهُ، يُقالُ في التَّوْكِيدِ أصْفَرُ فاقِعٌ وأسْوَدُ حالِكٌ وأبْيَضُ يَقَقٌ وأحْمَرُ قانٍ وأخْضَرُ ناضِرٌ، وهاهُنا سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: ”فاقِعٌ“ هاهُنا واقِعٌ خَبَرًا عَنِ اللَّوْنِ فَكَيْفَ يَقَعُ تَأْكِيدًا لِصَفْراءَ ؟ . الجَوابُ: لَمْ يَقَعْ خَبَرًا عَنِ اللَّوْنِ إنَّما وقَعَ تَأْكِيدًا لِصَفْراءَ إلّا أنَّهُ ارْتَفَعَ اللَّوْنُ بِهِ ارْتِفاعَ الفاعِلِ واللَّوْنُ سَبَبُها ومُلْتَبِسٌ بِها، فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ: صَفْراءُ فاقِعَةٌ وصَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها.(p-١١١) السُّؤالُ الثّانِي: فَهَلّا قِيلَ صَفْراءُ فاقِعَةٌ وأيُّ فائِدَةٍ في ذِكْرِ اللَّوْنِ ؟ . الجَوابُ: الفائِدَةُ فِيهِ التَّوْكِيدُ لِأنَّ اللَّوْنَ اسْمٌ لِلْهَيْئَةِ وهي الصُّفْرَةُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ صُفْرَتُها فَهو مِن قَوْلِكَ: جِدُّ جِدِّهِ وجُنُونُ مَجْنُونٍ. وعَنْ وهْبٍ: إذا نَظَرْتَ إلَيْها خُيِّلَ إلَيْكَ أنَّ شُعاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِن جِلْدِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب