الباحث القرآني
﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في اللَّهِ مِن بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهم في الدُّنْيا حَسَنَةً ولَأجْرُ الآخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾
لَمّا ثَبَتَتْ حِكْمَةُ البَعْثِ بِأنَّها تَبْيِينُ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ النّاسُ مِن هُدًى وضَلالَةٍ، ومِن ذَلِكَ أنْ يَتَبَيَّنَ أنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ يُعْلَمُ مِنهُ أنَّهُ بِتَبْيِينٍ بِالبَعْثِ أنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كانُوا صادِقِينَ بِدَلالَةِ المُضادَّةِ، وأنَّهم مُثابُونَ ومُكَرَّمُونَ، فَلَمّا عُلِمَ ذَلِكَ مِنَ السِّياقِ، وقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ في هَذِهِ الآيَةِ.
وأُدْمِجَ مَعَ ذَلِكَ وعْدُهم بِحُسْنِ العاقِبَةِ في الدُّنْيا مُقابَلَةَ وعِيدِ الكافِرِينَ بِسُوءِ العاقِبَةِ فِيها الواقِعِ بِالتَّعْرِيضِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَسِيرُوا في الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: ٣٦]، فالجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ﴾ [النحل: ٣٩] .
والمُهاجَرَةُ: مُتارَكَةُ الدِّيارِ لِغَرَضٍ ما. و(في) مُسْتَعْمَلَةٌ في التَّعْلِيلِ، أيْ لِأجْلِ اللَّهِ، والكَلامُ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ يَظْهَرُ مِنَ السِّياقِ، تَقْدِيرُهُ: هاجَرُوا لِأجْلِ مَرْضاةِ اللَّهِ.
وإسْنادُ فِعْلِ ظَلَمُوا إلى المَجْهُولِ لِظُهُورِ الفاعِلِ مِنَ السِّياقِ، وهو المُشْرِكُونَ، والظُّلْمُ يَشْمَلُ أصْنافَ الِاعْتِداءِ مِنَ الأذى والتَّعْذِيبِ.
(p-١٥٨)والتَّبْوِئَةُ: الإسْكانُ، وأُطْلِقَتْ هُنا عَلى الجَزاءِ بِالحُسْنى عَلى المُهاجَرَةِ بِطَرِيقِ المُضادَّةِ لِلْمُهاجَرَةِ؛ لِأنَّ المُهاجَرَةَ الخُرُوجُ مِنَ الدِّيارِ فَيُضادُّها الإسْكانُ.
وفِي الجَمْعِ بَيْنَ (هاجَرُوا) و(لَنُبَوِّئَنَّهم) مُحَسِّنُ الطِّباقِ، والمَعْنى: لَنُجازِيَنَّهم جَزاءً حَسَنًا، فَعَبَّرَ عَنِ الجَزاءِ بِالتَّبْوِئَةِ؛ لِأنَّهُ جَزاءٌ عَلى تَرْكِ المُباءَةِ.
و(حَسَنَةً) صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ جارٍ عَلى (نُبَوِّئَنَّهم)، أيْ تَبْوِئَةً حَسَنَةً.
وهَذا الجَزاءُ يَجْبُرُ كُلَّ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ المُهاجَرَةُ مِنَ الأضْرارِ الَّتِي لَقِيَها المُهاجِرُونَ مِن مُفارَقَةِ دِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ، وما لاقَوْهُ مِنَ الأذى الَّذِي ألْجَأهم إلى المُهاجَرَةِ مِن تَعْذِيبٍ واسْتِهْزاءٍ ومَذَلَّةٍ وفِتْنَةٍ، فالحَسَنَةُ تَشْتَمِلُ عَلى تَعْوِيضِهِمْ دِيارًا خَيْرًا مِن دِيارِهِمْ، ووَطَنًا خَيْرًا مِن وطَنِهِمْ، وهو المَدِينَةُ، وأمْوالًا خَيْرًا مِن أمْوالِهِمْ، وهي ما نالُوهُ مِنَ المَغانِمِ ومِنَ الخَراجِ، رُوِيَ أنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانَ إذا أعْطى رَجُلًا مِنَ المُهاجِرِينَ عَطاءً قالَ لَهُ: هَذا ما وعَدَكَ رَبُّكَ في الدُّنْيا، وما ذَخَرَ لَكَ في الآخِرَةِ أكْبَرُ، وغَلَبَةً لِأعْدائِهِمْ في الفُتُوحِ، وأهَمُّها فَتْحُ مَكَّةَ، وأمْنًا في حَياتِهِمْ بِما نالُوهُ مِنَ السُّلْطانِ، قالَ تَعالى ﴿ولَيُبَدِّلَنَّهم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمُ أمْنًا﴾ [النور: ٥٥]، وسَبَبُ النُّزُولِ الَّذِينَ هاجَرُوا إلى أرْضِ الحَبَشَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ لا مَحالَةَ، أوِ الَّذِينَ هاجَرُوا إلى المَدِينَةِ الهِجْرَةَ الأُولى قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ ﷺ، وبَقِيَّةُ أصْحابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -؛ مِثْلُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وأصْحابِهِ إنْ كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ نازِلَةً بَعْدَ الهِجْرَةِ الأُولى إلى المَدِينَةِ، وكِلا الِاحْتِمالَيْنِ لا يُنافِي كَوْنَ السُّورَةُ مَكِّيَّةً، ولا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ أُولَئِكَ بِهَذا الوَعْدِ.
ثُمَّ أعْقَبَ هَذا الوَعْدَ بِالوَعْدِ العَظِيمِ المَقْصُودِ وهو قَوْلُهُ ﴿ولَأجْرُ الآخِرَةِ أكْبَرُ﴾، ومَعْنى (أكْبَرُ) أنَّهُ أهَمُّ وأنْفَعُ، وإضافَتُهُ إلى الآخِرَةِ عَلى مَعْنى (في)، أيِ الأمْرُ الَّذِي في الآخِرَةِ.
وجُمْلَةُ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ مُعْتَرِضَةٌ، وهي اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ ناشِئٌ عَنْ جُمْلَةِ الوَعْدِ كُلِّها؛ لِأنَّ ذَلِكَ الوَعْدَ العَظِيمَ بِخَيْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ يُثِيرُ في نُفُوسِ (p-١٥٩)السّامِعِينَ أنْ يَسْألُوا كَيْفَ لَمْ يَقْتَدِ بِهِمْ مَن بَقُوا عَلى الكُفْرِ فَتَقَعُ جُمْلَةُ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ بَيانًا لِما اسْتُبْهِمَ عَلى السّائِلِ، والتَّقْدِيرُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لاقْتَدَوْا بِهِمْ ولَكِنَّهم لا يَعْلَمُونَ، فَضَمِيرُ يَعْلَمُونَ عائِدٌ إلى الَّذِينَ كَفَرُوا.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ السُّؤالُ المُثارُ هو: كَيْفَ يَحْزَنُ المُهاجِرُونَ عَلى ما تَرَكُوهُ مِن دِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ وأهْلِيهِمْ، فَيَكُونُ: المَعْنى لَوْ كانَ المُهاجِرُونَ يَعْلَمُونَ ما أُعِدَّ لَهم عِلْمَ مُشاهَدَةٍ لَما حَزِنُوا عَلى مُفارَقَةِ دِيارِهِمْ، ولَكانَتْ هِجْرَتُهم عَنْ شَوْقٍ إلى ما يُلاقُونَهُ بَعْدَ هِجْرَتِهِمْ؛ لِأنَّ تَأْثِيرَ العِلْمِ الحِسِّيِّ عَلى المِزاجِ الإنْسانِيِّ أقْوى مِنَ العِلْمِ العَقْلِيِّ عَلى تَفاصِيلِ الكَيْفِيّاتِ الَّتِي تُحِبُّها النُّفُوسُ، وتَرْتَمِي إلَيْها الشَّهَواتُ، كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ لَوْ كانُوا يَعْتَقِدُونَ ويُؤْمِنُونَ؛ لَأنَّ ذَلِكَ حاصِلٌ لا يُناسِبُ مَوْقِعَ (لَوْ) الِامْتِناعِيَّةِ.
فَضَمِيرُ (يَعْلَمُونَ) عَلى هَذا ﴿لِلَّذِينَ هاجَرُوا﴾ [النحل: ١١٠]، وفي هَذا الوَجْهِ تَتَناسَقُ الضَّمائِرُ.
و﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ صِفَةٌ ﴿لِلَّذِينَ هاجَرُوا﴾ [النحل: ١١٠]، والصَّبْرُ: تَحَمُّلُ المَشاقِّ، والتَّوَكُّلُ: الِاعْتِمادُ.
وتَقَدَّمَ الصَّبْرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ [البقرة: ٤٥] أوائِلِ البَقَرَةِ، والتَّوَكُّلُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] في آلِ عِمْرانَ.
والتَّعْبِيرُ في جانِبِ الصَّبْرِ بِالمُضِيِّ، وفي جانِبِ التَّوَكُّلِ بِالمُضارِعِ إيماءً إلى أنَّ صَبْرَهم قَدْ آذَنَ بِالِانْقِضاءِ لِانْقِضاءِ أسْبابِهِ، وأنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَهم فَرَجًا بِالهِجْرَةِ الواقِعَةِ والهِجْرَةِ المُتَرَقَّبَةِ، فَهَذا بِشارَةٌ لَهم.
(p-١٦٠)وأنَّ التَّوَكُّلَ دَيْدَنُهم؛ لِأنَّهم يَسْتَقْبِلُونَ أعْمالًا جَلِيلَةً تَتِمُّ لَهم بِالتَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ في أُمُورِهِمْ فَهم يُكَرِّرُونَهُ، وفي هَذا بِشارَةٌ بِضَمانِ النَّجاحِ.
وفِي مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وأرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [الزمر: ١٠] .
وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ لِلْقَصْرِ، أيْ لا يَتَوَكَّلُونَ إلّا عَلى رَبِّهِمْ دُونَ التَّوَكُّلِ عَلى سادَةِ المُشْرِكِينَ ووَلائِهِمْ.
{"ayahs_start":41,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ فِی ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُوا۟ لَنُبَوِّئَنَّهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰۖ وَلَأَجۡرُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ","ٱلَّذِینَ صَبَرُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ فِی ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُوا۟ لَنُبَوِّئَنَّهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰۖ وَلَأَجۡرُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق