الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (٣٩) ﴾ يقول تعالى ذكره: بل ليبعثن الله من يموت وعدا عليه حقا، ليبين لهؤلاء الذين يزعمون أن الله لا يبعث من يموت، ولغيرهم الذين يختلفون فيه من إحياء الله خلقه بعد فنائهم، وليعلم الذين جحدوا صحة ذلك، وأنكروا حقيقته أنهم كانوا كاذبين في قيلهم: لا يبعث الله من يموت. كما:- ⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ قال: للناس عامَّة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) ﴾ يقول تعالى ذكره: إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائناهم، ولا في غير ذلك ما نخلق ونكوّن ونحدث، لأنا إذا أردنا خلقه وإنشاءه، فإنما نقول له كن فيكون، لا معاناة فيه، ولا كُلفة علينا. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: يكون، فقرأه أكثر قرّاء الحجاز والعراق على الابتداء، وعلى أن قوله ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ﴾ كلام تامّ مكتف بنفسه عما بعده، ثم يبتدأ فيقال: فيكون، كما قال الشاعر: يُريدُ أنْ يُعْرِبَهُ فيعجِمُهْ [[هذا بيت من مشطور الرجز من شواهد الفراء في معاني القرآن (ص ١٦١) والشاهد في البيت: أن قوله فيعجمه بالرفع ليس معطوفاً على أن يعربه وإنما هو كلام مستأنف، أي فهو يعجمه ولا يعربه. ومثله قوله تعالى: (أن نقول له كن فيكون) بالرفع وليس معطوفاً على "أن نقول". ومثله أيضاً قوله تعالى: (ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل) بالرفع، وليس بالنصب على الجواب للنفي ومثله قوله تعالى: (لنبين لكم، ونقر في الأرحام) برفع نقر على الاستئناف وقوله تعالى في براءة: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) ثم قال: (ويتوب الله على من يشاء) . قال الفراء: فإذا رأيت الفعل منصوبًا، وبعده فعل قد نسق عليه بواو أو فاء أو ثم، فإن كان يشاكل معنى الفعل الذي قبله، نسقته عليه، وإن رأيته غير مشاكل لمعناه، استأنفته فرفعته. ومنه قوله: والشِّعْرُ لا يَسْتَطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهْ ... يُرِيدُ أنْ يُعْربَهُ فَيُعْجِمُهْ]] وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الشام وبعض المتأخرين من قرّاء الكوفيين ﴿فَيَكُونَ﴾ نصبا، عطفا على قوله ﴿أَنْ نَقُولَ لَهُ﴾ وكأن معنى الكلام على مذهبهم: ما قولنا لشيء إذا أردناه إلا أن نقول له: كن، فيكون. وقد حُكي عن العرب سماعا: أريد أن آتيك فيمنعني المطر، عطفا بيمنعني على آتيك. * * * وقوله ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ يقول: من بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ يقول: لنسكننهم في الدنيا مسكنا يرضونه صالحا. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ قال: هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة، فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. ⁕ حُدثت عن القاسم بن سلام، قال: ثنا هشيم، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ قال: المدينة. ⁕ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ قال: هم قوم هاجروا إلى رسول الله ﷺ من أهل مكة بعد ظلمهم، وظلمهم المشركون. وقال آخرون: عنى بقوله ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ لنرزقهم في الدنيا رزقا حسنا. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا. ⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. ⁕ حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن العوّام، عمن حدثه أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ذخره لك في الآخرة أفضل. ثم تلا هذه الآية ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُم﴾ : لنحلنهم ولنسكننهم، لأن التبوء في كلام العرب الحلول بالمكان والنزول به، ومنه قول الله تعالى ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ وقيل: إن هذه الآية نزلت في أبي جندل بن سهيل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن داود بن أبي هند، قال: نزلت ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ ... إلى قوله ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ في أبي جندل بن سهيل. * * * وقوله ﴿وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ يقول: ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الآخرة أكبر، لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الله ﴿وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ﴾ أي والله لما يثيبهم الله عليه من جنته أكبر ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب