الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في اللَّهِ﴾ أيْ في حَقِّهِ- فَفِي- عَلى ظاهِرِها فَفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّها هِجْرَةٌ مُتَمَكِّنَةٌ تَمَكُّنَ الظَّرْفِ في مَظْرُوفِهِ فَهي ظَرْفِيَّةٌ مَجازِيَّةٌ أوْ لِأجْلِ رِضاهُ- فَفِي- لِلتَّعْلِيلِ كَما في قَوْلِهِ ﷺ: ««إنَّ امْرَأةً دَخَلَتِ النّارَ في هِرَّةٍ»» والمُهاجَرَةُ في الأصْلِ مُصارَمَةُ (p-145)الغَيْرِ ومُتارَكَتُهُ واسْتُعْمِلَتْ في الخُرُوجِ مِن دارِ الكُفْرِ إلى دارِ الإيمانِ أيْ والَّذِينَ هَجَرُوا أوْطانَهم وتَرَكُوها في اللَّهِ تَعالى وخَرَجُوا ﴿مِن بَعْدِ ما ظُلِمُوا﴾ أيْ مِن بَعْدِ ظُلْمِ الكُفّارِ إيّاهم. أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ: هم أصْحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ ظَلَمَهم أهْلُ مَكَّةَ فَخَرَجُوا مِن دِيارِهِمْ حَتّى لَحِقَ طَوائِفُ مِنهم بِأرْضِ الحَبَشَةِ ثُمَّ بَوَّأهُمُ اللَّهُ تَعالى المَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ حَسْبَما وعَدَ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهم في الدُّنْيا حَسَنَةً﴾ أيْ مَباءَةً حَسَنَةً، وحاصِلُهُ لَنُنْزِلُهم في الدُّنْيا مَنزِلًا حَسَنًا، وعَنِ الحَسَنِ دارًا حَسَنَةً، والتَّقْدِيرُ الأوَّلُ أظْهَرُ لِدَلالَةِ الفِعْلِ عَلَيْهِ، والثّانِي أوْفَقُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَبَوَّءُوا الدّارَ﴾ [الحَشْرِ: 9]، وأيًّا ما كانَ- فَحَسَنَةً- صِفَةُ مَحْذُوفٍ مَنصُوبٍ نَصْبَ الظُّرُوفِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثانِيًا لِنُبَوِّئَنَّهم عَلى مَعْنى لَنُعْطِيَنَّهم مَنزِلَةً حَسَنَةً، وفُسِّرَ ذَلِكَ بِالغَلَبَةِ عَلى أهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ ظَلَمُوهم وعَلى العَرَبِ قاطِبَةً، وقِيلَ: هي ما بَقِيَ لَهم في الدُّنْيا مِنَ الثَّناءِ وما صارَ لِأوْلادِهِمْ مِنَ الشَّرَفِ، وعَنْ مُجاهِدٍ أنَّ التَّقْدِيرَ مَعِيشَةً حَسَنَةً أيْ رِزْقًا حَسَنًا وقِيلَ: التَّقْدِيرُ عَطِيَّةً حَسَنَةً، والمُرادُ بِالعَطِيَّةِ المُعْطى، ويُفَسَّرُ ذَلِكَ بِكُلِّ شَيْءٍ حَسَنٍ نالَهُ المُهاجِرُونَ في الدُّنْيا، وقَدَّرَ بَعْضُهم تَبْوِئَةً حَسَنَةً فَهو صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وقَدْ تُعْتَبَرُ هَذِهِ التَّبْوِئَةُ بِحَيْثُ تَشْمَلُ إعْطاءَ كُلِّ شَيْءٍ حَسَنٍ صارَ لِلْمُهاجِرِينَ عَلى نَحْوِ السّابِقِ. وفي البَحْرِ أنَّ الظّاهِرَ أنَّ انْتِصابَ ( حَسَنَةً ) عَلى المَصْدَرِ عَلى غَيْرِ الصَّدْرِ لِأنَّ مَعْنًى لَنُبَوِّئَنَّهم لَنُحْسِنَنَّ إلَيْهِمْ فَحَسَنَةً بِمَعْنى إحْسانًا، وعَلى جَمِيعِ التَّقادِيرِ (الَّذِينَ هاجَرُوا) مُبْتَدَأٌ وجُمْلَةُ (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) خَبَرُهُ. وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ ( الَّذِينَ ) مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ المَذْكُورُ، والأوَّلُ مُتَعَيِّنٌ عِنْدَ أبِي حَيّانَ قالَ: وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى صِحَّةِ وُقُوعِ الجُمْلَةِ القَسَمِيَّةِ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ خِلافًا لِثَعْلَبٍ، والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّ الخَبَرَ في مِثْلِ ذَلِكَ «إنَّما هو جُمْلَةُ الجَوابِ المُؤَكَّدَةُ بِالقَسَمِ وهي إخْبارِيَّةٌ لا إنْشائِيَّةٌ، واعْتُرِضَ عَلى أبِي البَقاءِ في الوَجْهِ الثّانِي بِأنَّهُ لا يَجُوزُ النَّصْبُ بِالفِعْلِ المَحْذُوفِ إلّا حَيْثُ يَجُوزُ لِلْمَذْكُورِ أنْ يَعْمَلَ في ذَلِكَ المَنصُوبِ حَتّى يَصِحَّ أنْ يَكُونَ مُفَسِّرًا وما هُنا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ لا يَجُوزُ زَيْدًا لَأضْرِبَنَّ فَلا يَجُوزُ زَيْدًا لَأضْرِبَنَّهُ، والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِما عِنْدَهُ، وقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن ( حَسَنَةً ) هَذا. ونُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في صُهَيْبٍ وبِلالٍ وعَمّارٍ وخَبّابٍ وعابِسٍ وجُبَيْرٍ وأبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ أخَذَهُمُ المُشْرِكُونَ فَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهم لِيَرُدُّوهم عَنِ الإسْلامِ، فَأمّا صُهَيْبٌ فَقالَ لَهُمْ: أنا رَجُلٌ كَبِيرٌ إنْ كُنْتُ مَعَكم لَمْ أنْفَعْكم وإنْ كُنْتُ عَلَيْكم لَمْ أضُرَّكم فافْتَدى مِنهم بِمالِهِ وهاجَرَ فَلَمّا رَآهُ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: رَبِحَ البَيْعُ يا صُهَيْبُ وقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخْفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ، والجُمْهُورُ عَلى ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ بَلْ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، ولَمْ نَجِدْ لِهَذا الخَبَرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما سَنَدًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وذَكَرَ العَلّامَةُ الشَّيْخُ بَهاءُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ كَغَيْرِهِ مِنَ المُحْدَثِينَ مِثْلَ الحافِظِ العَلّامَةِ زَيْنِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحِيمِ العِراقِيِّ ووَلَدِهِ الفَقِيهِ الحافِظِ أبِي زُرْعَةَ وغَيْرِهِما فِيما نُسِبَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فِيهِ مِن قَوْلِهِ: نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْبٌ إلى آخِرِهِ أنّا لَمْ نَجِدْهُ في شَيْءٍ مِن كُتُبِ الحَدِيثِ بَعْدَ الفَحْصِ الشَّدِيدِ، وهَذا يُوقِعُ شُبْهَةً قَوِيَّةً في صِحَّةِ ذَلِكَ. نَعَمْ في الدَّرِّ المَنثُورِ، أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ في هَؤُلاءِ الَّذِينَ هاجَرُوا: هم قَوْمٌ مِن أهْلِ مَكَّةَ هاجَرُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ (p-146)ظُلْمِهِمْ ثُمَّ قالَ: وظُلْمُهُمُ الشِّرْكُ، لَكِنْ يَقْتَضِي هَذا بِظاهِرِهِ أنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ كانَ يَقْرَأُ «ظَلَمُوا» بِالبِناءِ لِلْفاعِلِ. وأوْرَدَ عَلى الخِبْرَيْنِ أنَّهُ قِيلَ: إنِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ إلّا ثَلاثَ آياتٍ في آخِرِها فَإنَّها مَدَنِيَّةٌ، ويَلْتَزِمُ إذا صَحَّ الخَبَرُ الذَّهابُ إلى أنَّ فِيها مَدَنِيًّا غَيْرَ ذَلِكَ، أوِ القَوْلُ بِأنَّ المُرادَ مِنَ المَكِّيِّ ما نَزَلَ في حَقِّ أهْلِ مَكَّةَ، أوْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ بِالمَدِينَةِ وأنَّ المَكِّيَّ ما نَزَلْ بِغَيْرِها، أوِ القَوْلُ بِأنَّ ذَلِكَ مِنَ الإخْبارِ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، والكُلُّ كَما تَرى، ولا يُرَدُّ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ أنَّهُ مُخالِفٌ لِلْقَوْلِ المَشْهُورِ في السُّورَةِ لِأنَّ هِجْرَةَ الحَبَشَةِ كانَتْ قَبْلَ هِجْرَةِ المَدِينَةِ فَلا مانِعَ مِن كَوْنِ الآيَةِ مَكِّيَّةً بِالمَعْنى المَشْهُورِ عَلَيْهِ، لَكِنْ قِيلَ: إنَّ قَتادَةَ القائِلُ بِما تَقَدَّمَ قائِلٌ بِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ إلى آخِرِ السُّورَةِ مَدَنِيَّةٌ وهو آبٍ عَمّا ذُكِّرَ، ومِن هُنا حَمَلَ بَعْضُهم ما نُقِلَ عَنْهُ سابِقًا عَلى أنَّ نُزُولَها كانَ بَيْنَ الهِجْرَتَيْنِ بِالمَدِينَةِ، ولا يُمْكِنُ الجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الأقْوالِ أصْلًا، والَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ أنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ إلّا الآياتِ لَيْسَتْ هَذِهِ مِنها بَلْ هي مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ بَيْنَ الهِجْرَتَيْنِ فِيمَن ذَكَرَهُ الجُمْهُورُ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحالِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الَّذِينَ هاجَرُوا عامٌّ في المُهاجِرِينَ كائِنًا مَن كانَ فَيَشْمَلُ أوَّلَهم وآخِرَهم وكانَ هَذا مِن قائِلِهِ اعْتِبارٌ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لا لِخُصُوصِ السَّبَبِ كَما هو المُقَرَّرُ عِنْدَهم. وقَرَأ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، وعَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. ونُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ. والرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ- -لَنُثْوِيَنَّهُمْ- بِالثّاءِ المُثَلَّثَةِ مِن أثْوى المَنقُولِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ مِن ثَوى بِالمَكانِ أقامَ فِيهِ، قالَ في البَحْرِ: وانْتِصابُ (حَسَنَةً) عَلى تَقْدِيرِ إثْواءَةً حَسَنَةً أوْ عَلى نَزْعِ الخافِضِ أيْ في حَسَنَةٍ أيْ دارٍ حَسَنَةٍ أوْ مَنزِلَةٍ حَسَنَةٍ ولا مانِعَ عَلى ما قِيلَ مِنِ اعْتِبارِ تَضْمِينِ الفِعْلِ مَعْنى نُعْطِيهِمْ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ أوَّلًا. واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أحَدِ الأقْوالِ عَلى شَرَفِ المَدِينَةِ وشَرَفِ إخْلاصِ العَمَلِ لِلَّهِ تَعالى ﴿ولأجْرُ الآخِرَةِ﴾ أيْ أجْرُ أعْمالِهِمُ المَذْكُورَةِ في الدّارِ الآخِرَةِ ﴿أكْبَرُ﴾ مِمّا يُعَجِّلُ لَهم في الدُّنْيا. أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ كانَ إذا أعْطى الرَّجُلَ مِنَ المُهاجِرِينَ عَطاءً يَقُولُ لَهُ: خُذْ بارَكَ اللَّهُ تَعالى لَكَ هَذا ما وعَدَكَ اللَّهُ تَعالى في الدُّنْيا وما أخَّرَ لَكَ في الآخِرَةِ أفْضَلُ ثُمَّ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ، وقِيلَ: المُرادُ أكْبَرُ مِن أنْ يَعْلَمَهُ أحَدٌ قَبْلَ مُشاهَدَتِهِ، ولا يَخْفى ما في مُخالَفَةِ أُسْلُوبِ هَذا الوَعْدِ لِما قَبْلَهُ مِنَ المُبالَغَةِ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ الضَّمِيرُ لِلْكَفَرَةِ الظّالِمِينَ أيْ لَوْ عَلِمُوا أنَّ اللَّهَ تَعالى يَجْمَعُ لِهَؤُلاءِ المُهاجِرِينَ خَيْرَ الدّارَيْنِ لَوافَقُوهم في الدِّينِ، وقِيلَ: هو لِلْمُهاجِرِينَ أيْ لَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَزادُوا في الِاجْتِهادِ ولَما تَألَّمُوا لِما أصابَهم مِنَ المُهاجَرَةِ وشَدائِدِها ولازْدادُوا سُرُورًا. وفي المَعالِمِ لا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأنَّ المُهاجِرِينَ يَعْلَمُونَهُ ودُفِعَ بِأنَّ المُرادَ عِلْمُ المُشاهِدَةِ ولَيْسَ الخَبَرُ كالمُعايَنَةِ أوِ المُرادُ العِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الهِجْرَةِ يَعْنِي لَوْ عَلِمَ المُتَخَلِّفُونَ عَنِ الهِجْرَةِ ما لِلْمُهاجِرِينَ مِنَ الكَرامَةِ لَوافَقُوهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب