الباحث القرآني

﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهم أمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ في الأرْضِ أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهم وصَدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ الفاءُ الواقِعَةُ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ مُؤَخَّرَةٌ مِن تَقْدِيمٍ؛ لِأنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهامِ لَها الصَّدارَةُ. فَتَقْدِيرُ أصْلِ النَّظْمِ: أفَمَنَ هو قائِمٌ. فالفاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهامِ (p-١٤٩)ولَيْسَ اسْتِفْهامًا عَلى التَّفْرِيعِ، وذَلِكَ هو الوَجْهُ في وُقُوعِ حُرُوفِ العَطْفِ الثَّلاثَةِ الواوِ والفاءِ وثُمَّ بَعْدَ الِاسْتِفْهامِ وهو رَأْيُ المُحَقِّقِينَ، خِلافًا لِمَن يَجْعَلُونَ الِاسْتِفْهامَ وارِدًا عَلى حَرْفِ العَطْفِ وما عَطَفَهُ. فالفاءُ تَفْرِيعٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿قُلْ هو رَبِّي لا إلَهَ إلّا هو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ [الرعد: ٣٠] المُجابِ بِهِ حِكايَةُ كَفْرِهِمُ المُضَمَّنِ في جُمْلَةِ ﴿وهم يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد: ٣٠]، فالتَّفْرِيعُ في المَعْنى عَلى مَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ: كُفْرِهِمْ وإيمانِ النَّبِيءِ ﷺ بِاللَّهِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ تَفْرِيعًا عَلى جُمْلَةِ ﴿ولَوْ أنَّ قُرْءانًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبالُ﴾ [الرعد: ٣١]، فَيَكُونُ تَرَقِّيًا في إنْكارِ سُؤالِهِمْ إتْيانَ مُعْجِزَةٍ غَيْرِ القُرْآنِ، أيْ إنْ تَعْجَبْ مِن إنْكارِهِمْ آياتِ القُرْآنِ فَإنَّ أعْجَبَ مِنهُ جَعْلُهُمُ القائِمَ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ مُماثِلًا لِمَن جَعَلُوهم لِلَّهِ شُرَكاءَ. واعْتُرِضَ أثَرَ ذَلِكَ بِرَدِّ سُؤالِهِمْ أنْ تُسَيَّرَ الجِبالُ أوْ تُقَطَّعَ الأرْضُ أوْ تُكَلَّمَ المَوْتى، وتَذْكِيرُهم بِما حَلَّ بِالمُكَذِّبِينَ مِن قَبْلِهِمْ مَعَ إدْماجِ تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لِمَ فُرِّعَ عَلى ذَلِكَ الِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ. ولِلْمُفَسِّرِينَ في تَصْوِيرِ الآيَةِ مَحامِلُ مُخْتَلِفَةٌ وكَثِيرٌ مِنها مُتَقارِبَةٌ، ومَرْجِعُ المُتَّجَهِ مِنها إلى أنَّ في النَّظْمِ حَذْفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ ما هو مَذْكُورٌ فِيهِ، أوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِياقُ. والوَجْهُ في بَيانِ النَّظْمِ أنَّ التَّفْرِيعَ عَلى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ ﴿وهم يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هو رَبِّي لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [الرعد: ٣٠] أيْ أنَّ كُفْرَهم بِالرَّحْمَنِ وإيمانَكَ بِأنَّهُ رَبُّكَ المَقْصُورَةَ عَلَيْهِ الرُّبُوبِيَّةُ يَتَفَرَّعُ عَلى مَجْمُوعِ ذَلِكَ اسْتِفْهامُهُمُ اسْتِفْهامَ إنْكارٍ عَلَيْهِمْ تَسْوِيَتَهم مَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِمَن لَيْسَ مِثْلُهُ مَن جَعَلُوهم لَهُ شُرَكاءَ، أيْ كَيْفَ يُشْرِكُونَهم وهم لَيْسُوا سَواءً مَعَ اللَّهِ. وماصَدَقُ مَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ هو اللَّهُ الإلَهُ الحَقُّ الخالِقُ المُدَبِّرُ. (p-١٥٠)وخَبَرُ مَن هو قائِمٌ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ والتَّقْدِيُ: أمَّنْ هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ ومَن جَعَلُوهم بِهِ شُرَكاءَ سَواءٌ في اسْتِحْقاقِ العِبادَةِ. دَلَّ عَلى تَقْدِيرِهِ ما تَقْتَضِيهِ الشَّرِكَةُ في العِبادَةِ مِنَ التَّسْوِيَةِ في الإلَهِيَّةِ واسْتِحْقاقِ العِبادَةِ. والِاسْتِفْهامُ إنْكارٌ لِتِلْكَ التَّسْوِيَةِ المُفادِ مِن لَفْظِ شُرَكاءَ، وبِهَذا المَحْذُوفِ اسْتُغْنِيَ عَنْ تَقْدِيرِ مُعادِلٍ لِلْهَمْزَةِ كَما نَبَّهَ عَلَيْهِ صاحِبُ مُغْنِي اللَّبِيبِ؛ لِأنَّ هَذا المُقَدَّرَ المَدْلُولَ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ خاصٍّ أقْوى فائِدَةً مِن تَقْدِيرِ المُعادِلِ الَّذِي حاصِلُهُ أنْ يَقْدِّرَ: أمْ مَن لَيْسَ كَذَلِكَ. وسَيَأْتِي قَرِيبًا بَيانُ مُوقِعِ وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ. والعُدُولُ عَنِ اسْمِ الجَلالَةِ إلى المَوْصُولِ في قَوْلِهِ أفَمَن هو قائِمٌ؛ لِأنَّ في الصِّلَةِ دَلِيلًا عَلى انْتِفاءِ المُساواةِ، وتَخْطِئَةً لِأهْلِ الشِّرْكِ في تَشْرِيكِ آلِهَتِهِمْ لِلَّهِ تَعالى في الإلَهِيَّةِ، ونِداءً عَلى غَباوَتِهِمْ إذْ هم مُعْتَرِفُونَ بِأنَّ اللَّهَ هو الخالِقُ. والمُقَدَّرُ بِاعْتِقادِهِمْ ذَلِكَ هو أصْلُ إقامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمْ بِإقْرارِهِمْ، ولِما في هَذِهِ الصِّلَةِ مِنَ التَّعْرِيضِ لِما سَيَأْتِي قَرِيبًا. والقائِمُ عَلى الشَّيْءِ: الرَّقِيبُ، فَيَشْمَلُ الحِفْظَ والإبْقاءَ والإمْدادَ، ولِتُضَمُّنِهِ مَعْنى الرَّقِيبِ عُدِّيَ بِحَرْفِ عَلى المُفِيدِ لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ. وأصْلُهُ مِنَ القِيامِ وهو المُلازَمَةُ كَقَوْلِهِ ﴿إلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا﴾ [آل عمران: ٧٥]، ويَجِيءُ مِن مَعْنى القائِمِ أنَّهُ العَلِيمُ بِحالِ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأنَّ تَمامَ القَيُّومِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلى إحاطَةِ العِلْمِ. فَمَعْنى ﴿قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ﴾ مُتَوَلِّيها ومُدَبِّرُها في جَمِيعِ شُؤُونِها في الخَلْقِ والأجَلِ والرِّزْقِ، والعالَمُ بِأحْوالِها وأعْمالِها، فَكانَ إطْلاقُ وصْفِ قائِمٌ هُنا مِن إطْلاقِ المُشْتَرَكِ عَلى مَعْنَيَيْهِ. والمُشْرِكُونَ لا يُنازِعُونَ في انْفِرادِ اللَّهِ بِهَذا القِيامِ ولَكِنَّهم لا يُراعُونَ ذَلِكَ في عِبادَتِهِمْ غَيْرَهُ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ لَزِمَتْهُمُ الحُجَّةُ ولِمُراعاةِ هَذا المَعْنى تَعَلَّقَ قائِمٌ بُقُولِهِ ﴿عَلى كُلِّ نَفْسٍ﴾ لِيَعُمَّ القِيامُ سائِرَ شُؤُونِها. والباءُ في قَوْلِهِ بِما كَسَبَتْ لِلْمُلابَسَةِ. وهي في مَوْقِعِ الحالِ مِن نَفْسٍ (p-١٥١)أوْ مِن قائِمٌ بِاعْتِبارِ ما يَقْتَضِيهِ القِيامُ مِنَ العِلْمِ، أيْ قِيامًا مُلابِسًا لِما عَمِلَتْهُ كُلُّ نَفْسٍ، أيْ قِيامًا وِفاقًا لِأعْمالِها مِن عَمَلِ خَيْرٍ يَقْتَضِي القِيامَ عَلَيْها بِاللُّطْفِ والرِّضى فَتَظْهَرُ آثارُ ذَلِكَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ لِقَوْلِهِ ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧]، وقالَ ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهم دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهم ولَيُبَدِّلَنَّهم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْنًا﴾ [النور: ٥٥]، أوْ مِن عَمَلِ شَرٍّ يَقْتَضِي قِيامَهُ عَلى النَّفْسِ بِالغَضَبِ والبَلايا. فَفي هَذِهِ الصِّلَةِ بِعُمُومِها تَبْشِيرٌ وتَهْدِيدٌ لِمَن تَأْمَّلَ مِنَ الفَرِيقَيْنِ. فَهَذا تَعْرِيضٌ بِالأمْرَيْنِ لِلْفَرِيقَيْنِ أفادَتْهُ صِلَةُ المَوْصُولِ. وجُمْلَةُ ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، والواوُ لِلْحالِ أيْ والحالُ جَعَلُوا لَهُ شُرَكاءَ. وإظْهارُ اسْمِ الجَلالَةِ إظْهارٌ في مَقامِ الإتْيانِ بِضَمِيرِ مَن هو قائِمٌ، وفائِدَةُ هَذا الإظْهارِ التَّعْبِيرُ عَنِ المُسَمّى بِاسْمِهِ العَلَمِ الَّذِي هو الأصْلُ إذْ كانَ قَدْ وقَعَ الإيفاءُ بِحَقِّ العُدُولِ عَنْهُ إلى المَوْصُولِ في الجُمْلَةِ السّابِقَةِ فَتَهَيَّأ المَقامُ لِلِاسْمِ العَلَمِ، ولِيَكُونَ تَصْرِيحًا بِأنَّهُ المُرادُ مِنَ المَوْصُولِ السّابِقِ زِيادَةً في التَّصْرِيحِ بِالحُجَّةِ. وجُمْلَةُ ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ اسْتِئْنافٌ أُعِيدَ مَعَها الأمْرُ بِالقَوْلِ لِاسْتِرْعاءِ الأفْهامِ لِوَعْيِ ما سَيُذْكَرُ. وهَذِهِ كَلِمَةٌ جامِعَةٌ، أعْنِي جُمْلَةَ سَمُّوهم، وقَدْ تَضَمَّنَتْ رَدًّا عَلَيْهِمْ. فالمَعْنى: سَمُّوهم شُرَكاءَ فَلَيْسَ لَهم حَظٌّ إلّا التَّسْمِيَةُ، أيْ دُونَ مُسَمّى الشَّرِيكِ، فالأمْرُ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى الإباحَةِ كِنايَةً عَنْ قِلَّةِ المُبالاةِ بِدُعائِهِمْ أنَّهم شُرَكاءُ، مِثْلَ ﴿قُلْ كُونُوا حِجارَةً﴾ [الإسراء: ٥٠]، وكَما تَقُولُ لِلَّذِي يُخْطِئُ في كَلامِهِ: قُلْ ما شِئْتَ. والمَعْنى: إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها لا مُسَمَّياتِ لَها بِوَصْفِ الإلَهِيَّةِ لِأنَّها حِجارَةٌ لا صِفاتِ لَها مِن صِفاتِ التَّصَرُّفِ. وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ما تُعَبِّدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أسْماءً سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم ما (p-١٥٢)أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ [يوسف: ٤٠] وقَوْلُهُ ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها﴾ [النجم: ٢٣]، وهَذا إفْحامٌ لَهم وتَسْفِيهٌ لِأحْلامِهِمْ بِأنَّهم ألَّهُوا ما لا حَقائِقَ لَها فَلا شُبْهَةَ لَهم في ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿أمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ [الرعد: ١٦]، وقَدْ تَمَحَّلَ المُفَسِّرُونَ في تَأْوِيلِ ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ بِما لا مُحَصِّلَ لَهُ مِنَ المَعْنى. ثُمَّ أُضْرِبَ عَنْ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ ﴿أمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ في الأرْضِ﴾ وهي أمِ المُنْقَطِعَةُ. ودَلَّتْ أمْ عَلى أنَّ ما بَعْدَها في مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، وهو إنْكارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ، أيْ ما كانَ لَكم أنْ تَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ فَتَضَعُوا لَهُ شُرَكاءَ لَمْ يُنْبِئْكم بِوُجُودِهِمْ، فَقَوْلُهُ ﴿بِما لا يَعْلَمُ في الأرْضِ﴾ كِنايَةٌ عَنْ غَيْرِ المَوْجُودِ؛ لِأنَّ ما لا يَعْلَمُهُ اللَّهُ لا وُجُودَ لَهُ إذْ لَوْ كانَ مَوْجُودًا لَمْ يَخْفَ عَلى عِلْمِ العَلّامِ بِكُلِّ شَيْءٍ. وتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِ الأرْضِ لِزِيادَةِ تَجْهِيلِهِمْ لِأنَّهُ لَوْ كانَ يَخْفى عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ لِخَفِيَ عَنْهُ ما لا يُرى ولَما خَفِيَتْ عَنْهُ مَوْجُوداتٌ عَظِيمَةٌ بِزَعْمِكم. وفِي سُورَةِ يُونُسَ ﴿قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ﴾ [يونس: ١٨] زِيادَةٌ في التَّعْمِيمِ. و(أمْ) الثّانِيَةُ مُتَّصِلَةٌ هي مُعادِلَةٌ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهامِ المُقَدَّرَةَ في ﴿أمْ تُنَبِّئُونَهُ﴾، وإعادَةُ الباءِ لِلتَّأْكِيدِ بَعْدَ أمِ العاطِفَةِ. والتَّقْدِيرُ: بَلْ أتُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ في الأرْضِ بَلْ أتُنَبِّئُونَهُ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ. ولَيْسَ الظّاهِرُ هُنا مِنَ الظُّهُورِ بِمَعْنى الوُضُوحِ بَلْ هو مُشْتَقٌّ مِنَ الظُّهُورِ بِمَعْنى الزَّوالِ كِنايَةً عَنِ البُطْلانِ، أيْ بِمُجَرَّدِ قَوْلٍ لا ثَباتَ لَهُ ولَيْسَ بِحَقٍّ، كَقَوْلِ أبِي ذُؤَيْبٍ: وتِلْكَ شِكاةٌ ظاهِرٌ عَنْكَ عارُها وقَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الفَقْعَسِيِّ: أعَيَّرْتِنا ألْبانَها ولُحُومَها ∗∗∗ وذَلِكَ عارٌ يا ابْنَ رَيْطَةَ ظاهِرٌ(p-١٥٣)وقَوْلُهُ ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ﴾ إضْرابٌ عَنَ الِاحْتِجاجِ عَلَيْهِمْ بِإبْطالِ إلَهِيَّةِ أصْنامِهِمْ إلى كَشْفِ السَّبَبِ، وهو أنَّ أيِمَّةَ المُشْرِكِينَ زَيَّنُوا لِلَّذِينِ كَفَرُوا مَكْرَهم بِهِمْ إذْ بِهِمْ وضَعُوا لَهم عِبادَتَها. والمَكْرُ: إخْفاءُ وسائِلِ الضُّرِّ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾ [آل عمران: ٥٤] في أوائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، وعِنْدَ قَوْلِهِ ﴿أفَأمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ٩٩] في سُورَةِ الأعْرافِ، وعِنْدَ قَوْلِهِ ﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: ٣٠] في سُورَةِ الأنْفالِ، والمُرادُ هُنا أنَّ أيِمَّةَ الكُفْرِ مِثْلَ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وضَعُوا لِلْعَرَبِ عِبادَةَ الأصْنامِ وحَسَّنُوها إلَيْهِمْ مُظْهِرِينَ لَهم أنَّها حَقٌّ ونَفْعٌ وما أرادُوا بِذَلِكَ إلّا أنْ يَكُونُوا قادَةً لَهم لِيَسُودُوهم ويُعَبِّدُوهم. فَلَمّا كانَ الفِعْلُ المَبْنِيُّ لِلْمَجْهُولِ يَقْتَضِي فاعِلًا مَنوِيًّا كانَ قَوْلُهُ ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في قُوَّةِ قَوْلِكَ: زَيَّنَّ لَهم مُزَيَّنٌ. والشَّيْءُ المُزَيَّنُ بِالفَتْحِ هو الَّذِي الكَلامُ فِيهِ وهو عِبادَةُ الأصْنامِ فَهي المَفْعُولُ في المَعْنى لِفِعْلِ التَّزْيِينِ المَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ، فَتَعَيَّنَ أنَّ المَرْفُوعَ بَعْدَ ذَلِكَ الفِعْلِ هو المَفْعُولُ في المَعْنى، فَلا جَرَمَ أنَّ مَكْرَهم هو المَفْعُولُ في المَعْنى، فَتَعِيَّنَ أنَّ المَكْرَ مُرادٌ بِهِ عِبادَةُ الأصْنامِ. وبِهَذا يَتَّجِهُ أنْ يَكُونَ إضافَةُ مَكْرُ إلى ضَمِيرِ الكُفّارِ مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى ما هو في قُوَّةِ المَفْعُولِ وهو المَجْرُورُ بِباءِ التَّعْدِيَةِ، أيِ المَكْرِ بِهِمْ مِمَّنْ زَيَّنُوا لَهم. وقَدْ تَضَمَّنَ هَذا الِاحْتِجاجُ أسالِيبَ وخُصُوصِيّاتٍ: أحَدُها: تَوْبِيخُهم عَلى قِياسِهِمْ أصْنامَهم عَلى اللَّهِ في إثْباتِ الإلَهِيَّةِ لَها قِياسًا فاسِدًا لِانْتِفاءِ الجِهَةِ الجامِعَةِ فَكَيْفَ يُسَوّى مَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِمَن لَيْسُوا في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ. ثانِيها: تَبْهِيلُهم في جَعْلِهِمْ أسْماءً لا مُسَمَّياتِ لَها آلِهَةً. ثالِثُها: إبْطالُ كَوْنِ أصْنامِهِمْ آلِهَةً بِأنْ لا يَعْلَمَها آلِهَةً، وهو كِنايَةٌ عَنَ انْتِفاءِ إلَهِيَّتِها. (p-١٥٤)رابِعُها: أنَّ ادِّعاءَهم آلِهَةً مُجَرَّدُ كَلامٍ لا انْطِباقَ لَهُ مَعَ الواقِعِ، وهو قَوْلُهُ ﴿أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ﴾ . خامِسُها: أنَّ ذَلِكَ تَمْوِيهٌ باطِلٌ رَوَّجَهُ فِيهِمْ دُعاةُ الكُفْرِ، وهو مَعْنى تَسْمِيَتِهِ مَكْرًا في قَوْلِهِ ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ﴾ . سادِسُها: أنَّهم يَصُدُّونَ النّاسَ عَنْ سَبِيلِ الهُدى. وعَطْفُ (وصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) عَلى جُمْلَةِ ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ﴾، وقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ الصّادِ فَهو بِاعْتِبارِ كَوْنِ مَضْمُونِ كِلْتا الجُمْلَتَيْنِ مِن أحْوالِ المُشْرِكِينَ: فالأوْلى بِاعْتِبارِ كَوْنِهِمْ مَفْعُولَيْنِ، والثّانِيَةُ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِمْ فاعِلَيْنِ لِلصَّدِّ بَعْدَ أنِ انْفَعَلُوا بِالكُفْرِ، وقَرَأهُ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ وصُدُّوا بِضَمِّ الصّادِ فَهو كَجُمْلَةِ ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في كَوْنِ مَضْمُونِ كِلْتَيْهِما جَعْلُ (الَّذِينَ كَفَرُوا) مَفْعُولًا لِلتَّزْيِينِ والصَّدِّ. وجُمْلَةُ ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ تَذْيِيلٌ لِما فِيهِ مِنَ العُمُومِ. وتَقَدَّمَ الخِلافُ بَيْنَ الجُمْهُورِ وابْنِ كَثِيرٍ في إثْباتِ ياءِ هادٍ في حالَةِ الوَصْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ [الرعد: ٧] في هَذِهِ السُّورَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب