الباحث القرآني

(p-٣٦٨٢)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٣٣ ] ﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهم أمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ في الأرْضِ أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهم وصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ ﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ أيْ: مُراقِبٌ لِأحْوالِها ومُشاهِدٌ لَها، لا يَخْفى عَلَيْهِ ما تَكْسِبُهُ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ. فَهو مُجازٍ؛ لِأنَّ القائِمَ عَلى الشَّيْءِ عالِمٌ بِهِ، ولِذا يُقالُ: وقَفَ عَلَيْهِ، إذا عَلِمَهُ فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن أحْوالِهِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَمَن لَيْسَ كَذَلِكَ. وإنَّما حُذِفَ اكْتِفاءً بِدَلالَةِ السِّياقِ عَلَيْهِ وهو قَوْلُهُ: ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ﴾ أيْ: عَبَدُوها مَعَهُ مِن أصْنامٍ وأنْدادٍ وأوْثانٍ، وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ تَبْكِيتٌ لَهم إثْرَ تَبْكِيتٍ، أيْ: سَمُّوهم مَن هُمْ، وماذا أسْماؤُهُمْ؟ فَإنَّهم لا حَقِيقَةَ لَهُمْ! أوْ صِفُوهم وانْظُرُوا هَلْ لَهم ما يَسْتَحِقُّونَ بِهِ العِبادَةَ ويَسْتَأْهِلُونَ الشَّرِكَةَ؟ وقالَ الرّازِيُّ: إنَّما يُقالُ ذَلِكَ في الأمْرِ المُسْتَحْقَرِ الَّذِي بَلَغَ في الحَقارَةِ إلى ألّا يُذْكَرَ ولا يُوضَعَ لَهُ اسْمٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُقالُ: سَمِّهِ إنْ شِئْتَ، يَعْنِي: أنَّهُ أخَسُّ مَن يُسَمّى ويُذْكَرُ، ولَكِنَّكَ إنْ شِئْتَ أنْ تَضَعَ لَهُ اسْمًا فافْعَلْ. فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: سَمُّوهم بِالآلِهَةِ، عَلى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، والمَعْنى: سَواءٌ سَمَّيْتُمُوهم بِهَذا الِاسْمِ أوْ لَمْ تُسَمُّوهم بِهِ، فَإنَّها في الحَقارَةِ بِحَيْثُ لا تَسْتَحِقُّ أنْ يَلْتَفِتَ العاقِلُ إلَيْها. ﴿أمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ في الأرْضِ﴾ أيْ: بِشُرَكاءَ لا يَعْلَمُهم سُبْحانَهُ. وإذا كانَ لا يَعْلَمُهُمْ، وهو عالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ مِمّا كانَ ومِمّا يَكُونُ، فَهم لا حَقِيقَةَ لَهم. فَهو نَفْيٌ لَهم بِنَفْيٍ لازَمَهم عَلى طَرِيقِ الكِنايَةِ. قالَ النّاصِرُ: وحَقِيقَةُ هَذا النَّفْيِ أنَّهم لَيْسُوا بِشُرَكاءَ وأنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُهم كَذَلِكَ؛ لِأنَّهم لَيْسُوا كَذَلِكَ، وإنْ كانَتْ لَهم ذَواتٌ ثابِتَةٌ يَعْلَمُها اللَّهُ، إلّا أنَّها مَرْبُوبَةٌ حادِثَةٌ لا آلِهَةٌ مَعْبُودَةٌ. ولَكِنَّ (p-٣٦٨٣)مَجِيءَ النَّفْيِ عَلى هَذا السَّنَنِ المَتْلُوِّ بَدِيعٌ لا تَكْتَنِهُ بَلاغَتُهُ وبَراعَتُهُ. ولَوْ أتى الكَلامُ عَلى الأصْلِ غَيْرَ مُحَلًّى بِهَذا التَّصْرِيفِ البَدِيعِ لَكانَ: وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ وما هم بِشُرَكاءَ. فَلَمْ يَكُنْ بِهَذا المَوْقِعِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ التِّلاوَةُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ﴾ أيْ: بَلْ أتُسَمُّونَهم شُرَكاءَ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لِذَلِكَ حَقِيقَةٌ، كَتَسْمِيَةِ الزِّنْجِيِّ كافُورًا مِن غَيْرِ بَياضٍ فِيهِ ولا رائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، لِفَرْطِ الجَهْلِ وسَخافَةِ العَقْلِ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ قَوْلُهم بِأفْواهِهِمْ﴾ [التوبة: ٣٠] ﴿ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلا أسْماءً سَمَّيْتُمُوها﴾ [يوسف: ٤٠] وعَنِ الضَّحّاكِ: إنَّ الظّاهِرَ بِمَعْنى الباطِلِ، كَقَوْلِهِ: ؎وذَلِكَ عارٌ يا ابْنَ رَيْطَةَ ظاهِرُ تَنْبِيهٌ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذا الِاحْتِجاجُ وأسالِيبُهُ العَجِيبَةُ الَّتِي ورَدَ عَلَيْها، مُنادٍ عَلى نَفْسِهِ بِلِسانٍ طَلْقٍ ذَلْقٍ؛ أنَّهُ لَيْسَ مِن كَلامِ البَشَرِ لِمَن عَرَفَ وأنْصَفَ مِن نَفْسِهِ. قالَ شارِحُوهُ: فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ﴾ لِما كانَ كافِيًا في هَدْمِ قاعِدَةِ الإشْراكِ مَعَ السّابِقِ واللّاحِقِ وما ضَمِنَ مِن زِياداتِ النُّكَتِ، وكانَ إبْطالًا مِن طَرِيقِ حَقٍّ، مُذَيَّلًا بِإبْطالٍ مِن طَرَفِ النَّقِيضِ عَلى مَعْنى: لَيْتَهم إذْ أشْرَكُوا بِمَن لا يَجُوزُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ، أشْرَكُوا مَن يُتَوَهَّمُ فِيهِ ذَلِكَ أدْنى تَوَهُّمٍ، ورُوعِيَ فِيهِ أنَّهُ لا أسْماءَ لِلشُّرَكاءِ ولا حَقِيقَةَ لَها فَضْلًا عَنِ المُسَمّى عَلى الكِنايَةِ الإيمائِيَّةِ. ثُمَّ بُولِغَ بِأنَّها لا تَسْتَأْهِلُ أنْ يُسْألَ عَنْها عَلى الكِنايَةِ التَّلْوِيحِيَّةِ اسْتِدْلالًا بِنَفْيِ العِلْمِ عَنْ نَفْيِ المَعْلُومِ. ثُمَّ مِنهُ إلى عَدَمِ الِاسْتِئْهالِ مَعَ التَّوْبِيخِ، وتَقْدِيرِ أنَّهم يُرِيدُونَ أنْ يُنْبِئُوا عالِمَ السِّرِّ والخَفِيّاتِ بِما لا يَعْلَمُهُ وهو مُحالٌ عَلى مُحالٍ وفي جَعْلِ اتِّخاذِهِمْ شُرَكاءَ، (p-٣٦٨٤)ومُجادِلَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنْباءً لَهُ تَعالى؛ نُكْتَةٌ بَلْ نُكَتٌ سِرِّيَّةٌ. ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ. وقِيلَ: قَدْ بَيَّنَ الشَّمْسَ لِذِي عَيْنَيْنِ، وما تِلْكَ التَّسْمِيَةُ إلّا بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ لا طائِلَ تَحْتَهُ بَلْ هو صَوْتٌ فارِغٌ. فَمَن تَأمَّلَ حَقَّ التَّأمُّلِ، اعْتَرَفَ بِأنَّهُ كَلامُ خالِقِ القُوى والقُدَرِ، الَّذِي تَقِفُ دُونَ أسْتارِ أسْرارِهِ أفْهامُ البَشَرِ...! وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ﴾ إضْرابٌ عَنْ الِاحْتِجاجِ عَلَيْهِمْ. كَأنَّهُ قِيلَ: دَعْ ذِكْرَ ما كُنّا فِيهِ مِنَ الدَّلائِلِ عَلى فَسادِ قَوْلِهِمْ؛ لِأنَّهُ زَيَّنَ لَهم كُفْرَهم ومَكْرَهُمْ، فَلا يَنْتَفِعُونَ بِهَذِهِ الدَّلائِلِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ﴾ أيْ: عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وقُرِئَ: بِفَتْحِ الصّادِ أيْ: صَدُّوا النّاسَ ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ أيْ: يَخْلُقُ فِيهِ الضَّلالَ بِسُوءِ اخْتِيارِهِ، أوْ يَخْذُلُهُ ﴿فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ أيْ: مِن أحَدٍ يَهْدِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب