الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) ﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفَالرَّبُ الذي هو دائمٌ لا يَبيدُ ولا يَهْلِك، قائم بحفظ أرزاق جميع الخَلْق، [[انظر تفسير" القيام" فيما سلف ٦: ٥١٩ - ٥٢١ / ٧: ١٢٠ - ١٢٤. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٣٣.]] متضمنٌ لها، عالمٌ بهم وبما يكسبُونه من الأعمال، رقيبٌ عليهم، لا يَعْزُب عنه شيء أينما كانوا، كَمن هو هالك بائِدٌ لا يَسمَع ولا يُبصر ولا يفهم شيئًا، ولا يدفع عن نفسه ولا عَمَّن يعبده ضُرًّا، ولا يَجْلب إليهما نفعًا؟ كلاهما سَواءٌ؟ * * * وحذف الجواب في ذلك فلم يَقُل، وقد قيل ﴿أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت﴾ : ككذا وكذا، اكتفاءً بعلم السامع بما ذَكَر عما ترك ذِكْره. وذلك أنه لما قال جل ثناؤه: ﴿وَجعلُوا لله شُرَكاء﴾ ، عُلِمَ أن معنى الكلام: كشركائهم التي اتخذوها آلهةً. كما قال الشاعر: [[هو القتال الكلابي.]] تَخَيَّرِي خُيِّرْتِ أُمَّ عَالِ ... بَيْنَ قَصِيرٍ شِبْرُهُ تِنْبَالِ ... أَذَاكَ أَمْ مُنْخَرِقُ السِّرْبَالِ ... وَلا يَزَالُ آخِرَ اللَّيالِي ... مُتْلِفَ مَالٍ وَمُفِيدَ مَالِ [[من رجز رواه صاحب الأغاني ٢٠: ١٦٤ في حديث طويل، أخرجه إحسان عباس فيما جمعه من شعر القتال الكلابي: ٨٣، والتخريج في: ١١٣، ويزاد عليه اللسان (رمل) ، مع اختلاف في روايته." أم عال"، هي" عالية"، امرأة من بني نصر بن معاوية، كانت زوجة لرجل من أشراف الحي، فكان القتال ينسب بها في أشعاره، ورواية الأغاني: * تَخَيَّرِي خُيِّرْتِ في الرِّجَالِ * لأن قبله: * لَعَلَّنَا نَطْرُقُ أُمَّ عَالِ * وفي المطبوع:" قصير شده"، وهو خطأ. ويقال:" فلان قصير الشبر"، إذا كان متقارب الخطو، وقال الزمخشري: متقارب الخلق. ورواية الأغاني:" قصير باعه". و" التنبال"، القصير. وبعد هذا البيت: وَأُمُّهُ رَاعِيَةُ الجِمَالِ ... تَبِيتُ بَيْنَ القَتِّ والجِعَالِ " منخرق السربال"، ممزق السربال، وهو القميص، قال البكري في شرح قول ليلى الأخيلة: وَمُخَرَّقٍ عَنْهُ القَمِيصُ تَخَالُهُ ... وَسْطَ البُيُوتِ مِنَ الحَيَاء سَقِيمَا فيه قولان، أحدهما: أن ذلك إشارة إلى جذب العفاة له، والثاني: أنه يؤثر بجيد ثيابه فيكسوها. والأجود عندي أنهم يمدحون الرجل بأنه ملازم للأسفار والغزو، يعاقب بينهما، فلا يزال في ثياب تبلى، لأنه غير مقيم ملازم للحي، فلا يبالى أن يستجد ثيابًا، وذلك من خلائق الكرم والبأس. وبعد هذا البيت، وهو يؤيد ما قلت: كَرِيمُ عَمٍّ وَكَرِيمُ خَالِ ... متْلِفُ مَالٍ ومُفِيدُ مَالِ وَلا تَزَالُ آخِرَ اللَّيَالِي ... قَلُوصُهُ تَعْثُرُ في النِّقَالِ و" مفيد مال"، مستفيد مال. ورواية اللسان:" ناقته ترمل في النقال". و" ترمل"، أي تسرع. و" النقال"، المناقلة، وهي أن تضع رجليها مواضع يديها وذلك من سرعتها.]] ولم يقل وقد قال:"شَبْرُهُ تِنْبَال"، [[في المطبوعة هنا أيضًا:" شره".]] وبين كذا وكذا، اكتفاء منه بقوله:"أذاكَ أم منخرق السربال"، ودلالة الخبر عن المنخرق السربال على مراده في ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٤٤٠- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد ، عن قتادة، قوله: ﴿أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت﴾ ، ذلكم ربكم تبارك وتعالى، قائمٌ على بني آدمَ بأرزاقهم وآجالهم، وحَفظ عليهم والله أعمالهم. [[الأثر: ٢٠٤٤٠ - الدر المنثور ٤: ٦٤، وأسقط آخر الخبر.]] ٢٠٤٤١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ﴿أفمَن هو قائم على كل نفس بما كسبت﴾ ، قال: الله قائم على كل نفس. [[من أول قوله:" قال ... "، ساقط من المطبوعة.]] ٢٠٤٤٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال: حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ﴿أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت﴾ ، يعني بذلك نفسه، يقول: هو معكم أينما كنتم، فلا يعمل عامل إلا والله حاضِرُه. ويقال: هم الملائكة الذين وُكِلوا ببني آدم. [[الأثر: ٢٠٤٤٢ - في الدر المنثور ٤: ٦٤، واقتصر علي" يعني بذلك نفسه". وفي المطبوعة" إلا وهو حاضر"، غير ما في المخطوطة. وقوله:" ويقال هم الملائكة ... "، ليس من قول ابن عباس بلا ريب، وكأنه من قول:" محمد بن سعد"، راوي الخبر.]] ٢٠٤٤٣- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: ﴿أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت﴾ ، وعلى رزقهم وعلى طعامهم، فأنا على ذلك قائم، وهم عبيدي، [[في المخطوطة:" فأنا على ذلك وهم عبيدي"، أسقط" قائم".]] ثم جعلوا لي شُركاء. ٢٠٤٤٤- حدثت عن الحُسَين بن فرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت﴾ ، فهو الله قائم على كل نفس بَرّ وفاجر، يرزقهم ويَكلؤُهم، ثم يشرك به منهم من أشرك. [[الأثر: ٢٠٤٤٤ - في المطبوعة أسقط من الإسناد:" بن الفرج"، وزاد في نص الخبر فجعله" على كل نفس بر وفاجر"، والذي أثبته مطابق لما في الدر المنثور: ٤: ٦٤.]] * * * وقوله: ﴿وجَعَلوا لله شركاءَ قُلْ سَموهم أم تنَبِّئونه بما لا يعلم في الأرض أمْ بظاهر من القول﴾ ، يقول تعالى ذكره: أنا القائم بأرزاق هؤلاء المشركين، والمدبِّرُ أمورهم، والحافظُ عليهم أعمالَهُمْ، وجعلوا لي شركاء من خلقي يعبدُونها دوني، قل لهم يا محمد: سمّوا هؤلاء الذين أشركتموهم في عبادة الله، فإنهم إن قالوا: آلهة فقد كذبوا، لأنه لا إله إلا الواحد القهار لا شريك له= ﴿أم تُنَبِّؤونُه بما لا يعلم في الأرضُ﴾ ، يقول: أتخبرونه بأن في الأرض إلهًا، ولا إله غيرُه في الأرض ولا في السماء؟ * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٤٤٥- حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿وجعلوا لله شركاء قل سمُّوهم﴾ ، ولو سمَّوْهم آلهةً لكذبَوا وقالوا في ذلك غير الحق، لأن الله واحدٌ ليس له شريك. قال الله: ﴿أم تُنَبؤونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول﴾ يقول: لا يعلم الله في الأرض إلها غيره. [[الأثر: ٢٠٤٤٥ - هو تتمة الخبر السالف في الدر المنثور ٤: ٦٤.]] ٢٠٤٤٦- حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ﴿وجَعلوا لله شركاء قل سموهم﴾ ، والله خلقهم. ٢٠٤٤٧- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: ﴿وجعلوا لله شركاء قل سموهم﴾ ، ولو سَمَّوهم كذبوا وقالوا في ذلك مَا لا يعلم الله، مَا من إله غير الله، [[في المطبوعة، أسقط" ما" من قوله:" ما من إله" فأفسد الكلام.]] فذلك قوله: ﴿أم تنبئونه لما لا يعلم في الأرض﴾ . * * * وقوله: ﴿أم بظاهر من القول﴾ ، مسموع، [[أسقط في المطبوعة:" وقوله"، فجعل الكلام سياقًا واحدًا.]] وهو في الحقيقة باطلٌ لا صحة له. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم قالوا: ﴿أم بظاهر﴾ ، معناه: أم بباطل، فأتوا بالمعنى الذي تدل عليه الكلمة دون البيان عن حَقيقة تأويلها. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٤٤٨- حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء، عن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ﴿بظاهر من القول﴾ ، بظنٍّ. ٢٠٤٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. ٢٠٤٥٠- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن قتادة قوله: ﴿أم بظاهر من القول﴾ ، والظاهر من القول: هو الباطل. ٢٠٤٥١- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿أم بظاهر من القول﴾ ، يقول: أم بباطل من القول وكذب، ولو قالوا قالُوا الباطلَ والكذبَ. * * * وقوله: ﴿بل زُيِّن للذين كفروا مكرهم﴾ ، يقول تعالى ذكره: ما لله من شريك في السموات ولا في الأرض، ولكن زُيِّن للمشركين الذي يدعون من دونه إلهًا، [[انظر تفسير" التزيين" فيما سلف ١٥: ٥٥، تعليق رقم: ٣، والمراجع هناك.]] مَكْرُهم، وذلك افتراؤهُم وكذبهم على الله. [[انظر تفسير" المكر" فيما سلف: ٦٨ تعليق رقم: ٢ والمراجع هناك.]] * * * وكان مجاهد يقول: معنى"المكر"، ههنا: القول، كأنه قال: يعني قَوْلُهم بالشرك بالله. [[في المطبوعة أسقط" يعني".]] ٢٠٤٥٢- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ﴿بل زين للذين كفروا مكرهم﴾ ، قال: قولهم. ٢٠٤٥٣- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * وأما قوله: ﴿وصدوا عن السبيل﴾ ، فإن القَرَأة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قَرَأة الكوفيين: ﴿وَصُدُّوا عن السَّبِيلِ﴾ ، بضم"الصاد"، بمعنى: وصدَّهم الله عن سبيله لكفرهم به، ثم جُعلت"الصاد" مضمومة إذ لم يُسَمَّ فاعله. * * * وأما عامة قرأة الحجاز والبصرة، فقرأوه بفتح"الصاد"، على معنى أن المشركين هم الذين صَدُّوا الناس عن سبيل الله. [[انظر تفسير:" الصد" فيما سلف ١٥: ٢٨٥، تعليق رقم: ١، والمراجع هناك.]] قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمةٌ من القرأة، متقاربتا المعنى، وذلك أن المشركين بالله كانوا مصدودين عن الإيمان به، وهم مع ذلك كانوا يعبدون غيرهم، كما وصفهم الله به بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُون أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ . [الأنفال: ٣٦] * * * وقوله ﴿ومن يُضْلل الله فمَا لهُ من هادٍ﴾ ، يقول تعالى ذكره: ومن أضلَّه الله عن إصابة الحق والهدى بخذلانه إياه، فما له أحدٌ يهديه لإصابتهما، لأن ذلك لا يُنَال إلا بتوفيق الله ومعونته، وذلك بيد الله وإليه دُون كل أحد سواه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب