﴿أفَمَن هو قائِمٌ﴾ أيْ رَقِيبٌ ومُهَيْمِنٌ ﴿عَلى كُلِّ نَفْسٍ﴾ كائِنَةٍ ما كانَتْ ﴿بِما كَسَبَتْ﴾ فَعَلَتْ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ ولا يَفُوتُهُ ما يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنَ الجَزاءِ وهو اللَّهُ تَعالى شَأْنُهُ وما حَكاهُ القُرْطُبِيُّ عَنِ الضَّحّاكِ مِن أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ المَلائِكَةُ المُوَكَّلُونَ بِبَنِي آدَمَ فَمِمّا لا يَكادُ يُعَرَّجُ عَلَيْهِ هُنا و( مَن ) مُبْتَدَأٌ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ أيْ كَمَن لَيْسَ كَذَلِكَ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهو عَلى نُورٍ مِن رَبِّهِ﴾ وحَسَّنَ حَذْفَهُ المُقابَلَةُ وقَدْ جاءَ مُثْبَتًا كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ﴾ وقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هو أعْمى﴾ إلى غَيْرِ ذَلِكَ والهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ وإدْخالُ الفاءِ قِيلَ: لِتَوْجِيهِ الإنْكارِ إلى تَوَهُّمِ المُماثَلَةِ في ما عُلِمَ مِمّا فَعَلَ سُبْحانَهُ بِالمُسْتَهْزِئِينَ مِنَ الإمْلاءِ والأخْذِ ومِن (p-160)كَوْنِ الأمْرِ كُلِّهِ لَهُ سُبْحانَهُ وكَوْنِ هِدايَةِ النّاسِ جَمِيعًا مَنُوطَةً بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وعَلا ومِن تَواتُرِ القَوارِعِ عَلى الكَفَرَةِ حَتّى يَأْتِيَ وعْدُهُ تَعالى كَأنَّهُ قِيلَ: الأمْرُ كَذَلِكَ فَمَن هَذا شَأْنُهُ كَما لَيْسَ في عِدادِ الأشْياءِ حَتّى يُشْرِكُوهُ بِهِ فالإنْكارُ مُتَوَجِّهٌ إلى تَرَتُّبِ المَعْطُوفِ أعْنِي تَوَهُّمَ المُماثَلَةِ عَلى المَعْطُوفِ عَلَيْهِ المُقَدَّرِ أعْنِي كَوْنَ الأمْرِ كَما ذُكِرَ لا إلى المَعْطُوفِينَ جَمِيعًا وفي الكَشْفِ أنَّهُ ضِمْنَ هَذا التَّعْقِيبِ التَّرَقِّي في الإنْكارِ يَعْنِي لا عَجَبَ مِن إنْكارِهِمْ لِآياتِكَ الباهِرَةِ مَعَ ظُهُورِها إنَّما العَجَبُ كُلَّ العَجَبِ جَعْلُهُمُ القادِرَ عَلى إنْزالِها المُجازِيَ لَهم عَلى إعْراضِهِمْ عَنْ تَدَبُّرِ مَعانِيها وأمْثالِها بِقَوارِعَ تَتْرى واحِدَةٌ غِبَّ أُخْرى يُشاهِدُونَها رَأْيَ عَيْنٍ تَتَرامى بِهِمْ إلى دارِ البَوارِ وأهْوالِها كَمَن لا يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ ضَرًّا ولا نَفْعًا فَضْلًا عَمَّنِ اتَّخَذَهُ رَبًّا يَرْجُو مِنهُ دَفْعًا أوْ جَلْبًا وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الفاءَ لِلتَّعْقِيبِ الذِّكْرِيِّ أيْ بَعْدَ ما ذُكِرَ أقُولُ هَذا الأمْرُ ولَيْسَ بِذاكَ ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وفِيها دَلالَةٌ عَلى الخَبَرِ المَحْذُوفِ وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى ﴿كَسَبَتْ﴾ عَلى تَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ ( ما ) مَصْدَرِيَّةً لا مَوْصُولَةً والعائِدُ مَحْذُوفٌ ولا يَلْزَمُ اجْتِماعُ الأمْرَيْنِ حَتّى يَخُصَّ كُلَّ نَفْسٍ بِالمُشْرِكِينَ وأبْعَدَ مَن قالَ: إنَّها عَطْفٌ عَلى ﴿اسْتُهْزِئَ﴾ وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ حالِيَّةً عَلى مَعْنى أفَمَن هَذِهِ صِفاتُهُ كَمَن لَيْسَ كَذَلِكَ وقَدْ جَعَلُوا لَهُ شُرَكاءَ لا شَرِيكًا واحِدًا وقالَ صاحِبُ حَلِّ العَقْدِ: المَعْنى عَلى الحالِيَّةِ أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ مَوْجُودٌ والحالُ أنَّهم جَعَلُوا لَهُ شُرَكاءَ وهَذا نَظِيرُ قَوْلِكَ: أجَوادٌ يُعْطِي النّاسَ ويُغْنِيهِمْ مَوْجُودٌ ويُحْرَمُ مِثْلِي ومِنهم مَن أجازَ العَطْفَ عَلى جُمْلَةِ ﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ كَمَن لَيْسَ كَذَلِكَ لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ الإنْكارِيَّ بِمَعْنى النَّفْيِ فَهي خَبَرِيَّةٌ مَعْنًى وقَدَّرَ آخَرُونَ الخَبَرَ لَمْ يُوَحِّدُوهُ وجُعِلَ العَطْفُ عَلَيْهِ أيْ أفَمَن هَذا شَأْنُهُ لَمْ يُوَحِّدُوهُ وجَعَلُوا لَهُ شُرَكاءَ وظاهِرُ كَلامِهِمُ اخْتِصاصُ العَطْفِ عَلى الخَبَرِ بِهَذا التَّقْدِيرِ دُونَ تَقْدِيرِ كَمَن لَيْسَ كَذَلِكَ قالَ البَدْرُ الدَّمامِينِيُّ: ولَمْ يَظْهَرْ وجْهُ الِاخْتِصاصِ ووَجَّهَ ذَلِكَ الفاضِلُ الشَّمْنِيُّ بِأنَّ حُصُولَ المُناسَبَةِ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الَّتِي هي شَرْطُ قَبُولِ العَطْفِ بِالواوِ إنَّما هو عَلى التَّقْدِيرِ الأخِيرِ دُونَ التَّقْدِيرِ الأوَّلِ.
ويَدُلُّ عَلى الِاشْتِراطِ قَوْلُ أهْلِ المَعانِي: زَيْدٌ يَكْتُبُ ويُشْعِرُ مَقْبُولٌ دُونَ يُعْطِي ويُشْعِرُ وتَعَقَّبَهُ الشِّهابُ بِأنَّهُ مِن قِلَّةِ التَّدَبُّرِ فَإنَّ مُرادَهم أنَّهُ عَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ يَكُونُ الِاسْتِفْهامُ إنْكارِيًّا بِمَعْنى لَمْ يَكُنْ نَفْيًا لِلتَّشابُهِ عَلى طَرِيقِ الإنْكارِ فَلَوْ عُطِفَ جَعَلَهم شُرَكاءَ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أنَّهُ لَمْ يَكُنْ ولَيْسَ بِصَحِيحٍ وعَلى التَّقْدِيرِ الأخِيرِ الِاسْتِفْهامُ تَوْبِيخِيٌّ والإنْكارُ فِيهِ بِمَعْنى لِمَ كانَ وعَدَمُ التَّوْحِيدِ وجَعْلُ الشُّرَكاءِ واقِعٌ مُوَبَّخٌ عَلَيْهِ مُنْكَرٌ فَيَظْهَرُ العَطْفُ عَلى الخَبَرِ وأمّا ما ذُكِرَ مِن حَدِيثِ التَّناسُبِ فَغَفْلَةٌ لِأنَّ المُناسَبَةَ بَيْنَ تَشْبِيهِ اللَّهِ سُبْحانَهُ بِغَيْرِهِ والشِّرْكِ تامَّةٌ وعَلى الوَجْهِ الأخِيرِ عَدَمُ التَّوْحِيدِ عَيْنُ الإشْراكِ فَلَيْسَ مَحَلًّا لِلْعَطْفِ عِنْدَ أهْلِ المَعانِي عَلى ما ذَكَرَهُ فَهو مُحْتاجٌ إلى تَوْجِيهٍ آخَرَ.
واخْتارَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ التَّقْدِيرَ الأوَّلَ وفي ذَلِكَ الحَذْفِ تَعْظِيمٌ لِلْقالَةِ وتَحْقِيرٌ لِمَن زَنَّ بِتِلْكَ الحالَةِ وفي العُدُولِ عَنْ صَرِيحِ الِاسْمِ في ﴿أفَمَن هو قائِمٌ﴾ تَفْخِيمٌ فَخِيمٌ بِواسِطَةِ الإبْهامِ المُضْمَرِ في إيرادِهِ مَوْصُولًا مَعَ تَحْقِيقِ أنَّ القِيامَ كائِنٌ وهم مُحَقِّقُونَ وفي وضْعِ الِاسْمِ الجَلِيلِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ الرّاجِعِ إلى ( مَن ) تَنْصِيصٌ عَلى وحْدانِيَّتِهِ تَعالى ذاتًا واسْمًا وتَنْبِيهٌ عَلى اخْتِصاصِهِ بِاسْتِحْقاقِ العِبادَةِ مَعَ ما فِيهِ مِنَ البَيانِ بَعْدَ الإبْهامِ ولَعَلَّ تَوْجِيهَ الوَضْعِ المَذْكُورِ مِمّا لا يُخْتَصُّ بِهِ تَقْدِيرٌ دُونَ تَقْدِيرٍ وخَصَّهُ بَعْضُهم فِيما يَحْتاجُ عَلَيْهِ إلى ضَمِيرِ ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ تَبْكِيتٌ (p-161)إثْرَ تَبْكِيتٍ أيْ سَمُّوهم مَن هم وماذا أسْماؤُهم وفي البَحْرِ أنَّ المَعْنى أنَّهم لَيْسُوا مِمَّنْ يُذْكَرُ ويُسَمّى إنَّما يُذْكَرُ ويُسَمّى مَن يَنْفَعُ ويَضُرُّ وهَذا مِثْلُ أنْ يُذْكَرَ لَكَ أنَّ شَخْصًا يُوَقَّرُ ويُعَظَّمُ وهو عِنْدَكَ لا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ فَتَقُولُ لَذاكِرِهِ: سَمِّهِ حَتّى أُبَيِّنَ لَكَ زَيْفَهُ وأنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ اسْتِحْقاقِ ذَلِكَ وقَرِيبٌ مِنهُ ما قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ إنَّما يُقالُ في الشَّيْءِ المُسْتَحْقَرِ الَّذِي يَبْلُغُ في الحَقارَةِ إلى أنْ لا يُذْكَرَ ولا يُوضَعَ لَهُ اسْمٌ فَيُقالُ سَمِّهِ عَلى مَعْنى أنَّهُ أخَسُّ مِن أنْ يُذْكَرَ ويُسَمّى ولَكِنَّ إنْ شِئْتَ أنْ تَضَعَ لَهُ اسْمًا فافْعَلْ فَكَأنَّهُ قِيلَ: سَمُّوهم بِالآلِهَةِ عَلى التَّهْدِيدِ والمَعْنى سَواءٌ سَمَّيْتُمُوهم بِذَلِكَ أمْ لَمْ تُسَمُّوهم بِهِ فَإنَّهم في الحَقارَةِ بِحَيْثُ لا يَسْتَحِقُّونَ أنْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِمْ عاقِلٌ وقِيلَ: إنَّ التَّهْدِيدَ هَنا نَظِيرُ التَّهْدِيدِ لِمَن نُهِيَ عَنْ شُرْبِ الخَمْرِ ثُمَّ قِيلَ لَهُ: سَمِّ الخَمْرَ بَعْدَ هَذا وهو خِلافُ الظّاهِرِ وقِيلَ: المَعْنى اذْكُرُوا صِفاتِهِمْ وانْظُرُوا هَلْ فِيها ما يَسْتَحِقُّونَ بِهِ العِبادَةَ ويَسْتَأْهِلُونَ الشَّرِكَةَ ﴿أمْ تُنَبِّئُونَهُ﴾ أيْ بَلْ أتُخْبِرُونَ اللَّهَ تَعالى ﴿بِما لا يَعْلَمُ في الأرْضِ﴾ أيْ بِشُرَكاءَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِبادَةِ لا يَعْلَمُهم سُبْحانَهُ وتَعالى والمُرادُ نَفْيُها بِنَفْيِ لازِمِها عَلى طَرِيقِ الكِنايَةِ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ إذا كانَ لا يَعْلَمُها وهو الَّذِي لا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ فَهي لا حَقِيقَةَ لَها أصْلًا وتَخْصِيصُ الأرْضِ بِالذِّكْرِ لِأنَّ المُشْرِكِينَ إنَّما زَعَمُوا أنَّهُ سُبْحانَهُ لَهُ شُرَكاءُ فِيها والضَّمِيرُ المُسْتَقِرُّ في ﴿يَعْلَمُ﴾ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ لِلَّهِ تَعالى والعائِدُ عَلى ( ما ) مَحْذُوفٌ كَما أشَرْنا إلى ذَلِكَ.
وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ العائِدُ ضَمِيرَ ﴿يَعْلَمُ﴾ والمَعْنى أتُنَبِّئُونَ اللَّهَ تَعالى بِشَرِكَةِ الأصْنامِ الَّتِي لا تَتَّصِفُ بِعِلْمٍ البَتَّةَ وذُكِرَ نَفْيُ العِلْمِ في الأرْضِ لِأنَّ الأرْضَ مَقَرُّ الأصْنامِ فَإذا انْتَفى عِلْمُها في المَقَرِّ الَّتِي هي فِيهِ فانْتِفاؤُهُ في السَّماواتِ العُلى أحْرى وقَرَأ الحَسَنُ ( أتُنْبِئُونَهُ ) بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الإنْباءِ ﴿أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ﴾ أيْ بَلْ أتُسَمُّونَهم شُرَكاءَ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ مِن غَيْرِ مَعْنًى مُتَحَقِّقٍ في نَفْسِ الأمْرِ كَتَسْمِيَةِ الزِّنْجِيِّ كافُورًا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ قَوْلُهم بِأفْواهِهِمْ﴾ ورُوِيَ عَنِ الضَّحّاكِ وقَتادَةَ أنَّ الظّاهِرَ مِنَ القَوْلِ الباطِلِ مِنهُ وأنْشَدُوا مِن ذَلِكَ قَوْلَهُ: .
؎أعَيَّرْتَنا ألْبانَها ولُحُومَها وذَلِكَ عارٌ يا ابْنَ رَيْطَةَ ظاهِرُ
ويُطْلَقُ الظّاهِرُ عَلى الزّائِلِ كَما في قَوْلِهِ: .
؎وعَيَّرَها الواشُونَ أنِّي أُحِبُّها ∗∗∗ وتِلْكَ شَكاةٌ ظاهِرٌ عَنْكَ عارُها
ومَن أرادَ ذَلِكَ هُنا فَقَدْ تَكَلَّفَ وعَنِ الجُبّائِيِّ أنَّ المُرادَ مِن ظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ ظاهِرُ كِتابٍ أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى وسَمّى بِهِ الأصْنامَ آلِهَةً حَقَّةً وحاصِلُ الآيَةِ نَفْيُ الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ والدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلى حَقِّيَّةِ عِبادَتِها واتِّخاذِها آلِهَةً وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ ( أمْ ) مُتَّصِلَةً والِانْقِطاعُ هو الظّاهِرُ ولا يَخْفى ما في الآيَةِ مِنَ الِاحْتِجاجِ والأسالِيبِ العَجِيبَةِ ما يُنادِي بِلِسانٍ طَلْقٍ ذَلْقٍ أنَّهُ لَيْسَ مِن كَلامِ البَشَرِ كَما نَصَّ عَلى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وبَيَّنَ ذَلِكَ صاحِبُ الكَشْفِ بِأنَّهُ لَمّا كانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَمَن هو قائِمٌ﴾ كافِيًا في هَدْمِ قاعِدَةِ الإشْراكِ لِلتَّفَرُّعِ السّابِقِ والتَّحَقُّقِ بِالوَصْفِ اللّاحِقِ مَعَ ما ضُمِّنَ مِن زِياداتِ النُّكَتِ وكانَ إبْطالًا مِن طَرَفِ الحَقِّ وذُيِّلَ بِإبْطالِهِ مِن طَرَفِ النَّقِيضِ عَلى مَعْنى ولَيْتَهم إذْ أشْرَكُوا بِمَن لا يَجُوزُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ أشْرَكُوا مَن يُتَوَهَّمُ فِيهِ أدْنى تَوَهُّمٍ ورُوعِيَ فِيهِ أنَّهُ لا أسْماءَ لِلشُّرَكاءِ فَضْلًا عَنِ المُسَمّى عَلى الكِنايَةِ الإيمائِيَّةِ ثُمَّ بُولِغَ فِيهِ بِأنَّهُ لا يَسْتَأْهِلُ السُّؤالَ عَنْ حالِها بِظُهُورِ فَسادِها وسَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الكِنايَةِ التَّلْوِيحِيَّةِ مِن نَفْيِ العِلْمِ بِنَفْيِ المَعْلُومِ ثُمَّ مِنهُ بِعَدَمِ الِاسْتِئْهالِ والهَمْزَةُ المُضَمَّنَةُ فِيها تَدُلُّ عَلى التَّوْبِيخِ وتَقْرِيرِ (p-162)أنَّهم يُرِيدُونَ أنْ يُنَبِّئُوا عالِمَ السِّرِّ والخَفِيّاتِ بِما لا يَعْلَمُهُ وهَذا مُحالٌ عَلى مُحالٍ وفي جَعْلِهِ اتِّخاذَهم شُرَكاءَ ومُجادَلَتَهم رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نُكْتَةً سَرِيَّةً بَلْ نُكَتٌ سَرِيَّةٌ ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ وقِيلَ: قَدْ بَيَّنَ الشَّمْسَ لِذِي عَيْنَيْنِ وما تِلْكَ التَّسْمِيَةُ إلّا بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ تَحْتَهُ طائِلٌ وما هو إلّا مُجَرَّدُ صَوْتٍ فارِغٍ حُقَّ لِمَن تَأمَّلَ فِيهِ حَقَّ التَّأمُّلِ أنْ يَعْتَرِفَ بِأنَّهُ كَلامٌ مَصُونٌ عَنِ التَّعَمُّلِ صادِرٌ عَنْ خالِقِ القُوى والقَدْرِ تَتَضاءَلُ عَنْ بُلُوغِ طَرَفٍ مِن أسْرارِهِ أفْهامُ البَشَرِ.
وقَدْ ذَيَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَلامَهُ بِقَوْلِهِ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ وهي كَما في الِانْتِصافِ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِها باطِلٌ يُدَنْدِنُ بِها مَن هو عَنْ حِلْيَةِ الإنْصافِ عاطِلٌ هَذا ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إضْرابٌ عَنِ الِاحْتِجاجِ عَلَيْهِمْ ووُضِعَ المَوْصُولُ مَوْضِعَ المُضْمَرِ ذَمًّا لَهم وتَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ كَأنَّهُ قِيلَ: دَعْ هَذا فَإنَّهُ لا فائِدَةَ فِيهِ لِأنَّهم زُيِّنَ لَهم ﴿مَكْرُهُمْ﴾ كَيْدُهم لِلِاسْتِلامِ بِشِرْكِهِمْ أوْ تَمْوِيهِهِمُ الأباطِيلَ فَتَكَلَّفُوا إيقاعَها في الخَيالِ مِن غَيْرِ حَقِيقَةٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ظَنُّوها شَيْئًا لِتَمادِيَهم في الضَّلالِ وعَلى هَذا المُرادِ مَكْرُهم بِأنْفُسِهِمْ وعَلى الأوَّلِ مَكْرُهم بِغَيْرِهِمْ وإضافَةُ مَكْرٍ إلى ضَمِيرِهِمْ مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى الفاعِلِ وجُوِّزَ عَلى الثّانِي أنْ يَكُونَ مُضافًا إلى المَفْعُولِ وفِيهِ بُعْدٌ.
وقَرَأ مُجاهِدٌ ( بَلْ زَيَّنَ ) عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ و( مَكْرَهم ) بِالنَّصْبِ ( وصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ) أيْ سَبِيلِ الحَقِّ فَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ أوْ ما عَداهُ كَأنَّهُ غَيْرُ سَبِيلِ وفاعِلُ الصَّدِّ إمّا مَكْرُهم ونَحْوُهُ أوِ اللَّهُ تَعالى بِخَتْمِهِ عَلى قُلُوبِهِمْ أوِ الشَّيْطانُ بِإغْوائِهِ لَهم والِاحْتِمالانِ الأخِيرانِ جارِيانِ في فاعِلِ التَّزْيِينِ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ عامِرٍ ( وصَدُّوا ) عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ وهو كالأوَّلِ مِن صَدَّهُ صَدًّا فالمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أيْ صَدُّوا النّاسَ عَنِ الإيمانِ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن صَدَّ صُدُودًا فَلا مَفْعُولَ وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ ( وصِدُّوا ) بِكَسْرِ الصّادِ وقالَ بَعْضُهم: إنَّهُ قَرَأ كَذَلِكَ في المُؤْمِنِ والكَسْرُ هُنا لِابْنِ يَعْمُرَ والفِعْلُ عَلى ذَلِكَ مَجْهُولٌ نُقِلَتْ فِيهِ حَرَكَةُ العَيْنِ إلى الفاءِ إجْراءً لَهُ مَجْرى الأجْوَفِ وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ ( وصَدٌّ ) بِالتَّنْوِينِ عَطْفًا عَلى مَكْرِهِمْ ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ أيْ يَخْلُقُ فِيهِ الضَّلالَ لِسُوءِ اسْتِعْدادِهِ ﴿فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ . (33) . يُوَفِّقُهُ لِلْهُدى ويُوصِلُهُ إلى ما فِيهِ نَجاتُهُ
{"ayah":"أَفَمَنۡ هُوَ قَاۤىِٕمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَاۤءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا یَعۡلَمُ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَـٰهِرࣲ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُیِّنَ لِلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّوا۟ عَنِ ٱلسَّبِیلِۗ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادࣲ"}