الباحث القرآني

(p-١٦٠٨)وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، والنَّحّاسُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «نَزَلَتْ ﴿والسَّماءِ والطّارِقِ﴾ بِمَكَّةَ، وأخْرَجَ أحْمَدُ، والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ خالِدٍ العَدْوانِيِّ أنَّهُ أبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في سُوقِ ثَقِيفٍ وهو قائِمٌ عَلى قَوْسٍ أوْ عِصِيٍّ حِينَ أتاهم يَبْتَغِي النَّصْرَ عِنْدَهم، فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ ﴿والسَّماءِ والطّارِقِ﴾ حَتّى خَتَمَها، قالَ: فَوَعَيْتُها في الجاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قَرَأْتُها في الإسْلامِ، قالَ: فَدَعَتْنِي ثَقِيفٌ فَقالُوا: ماذا سَمِعْتَ مِن هَذا الرَّجُلِ ؟ فَقَرَأْتُها، فَقالَ مَن مَعَهم مِن قُرَيْشٍ: نَحْنُ أعْلَمُ بِصاحِبِنا، لَوْ كُنّا نَعْلَمُ ما يَقُولُ حَقًّا لاتَّبَعْناهُ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿والسَّماءِ والطّارِقِ﴾ أقْسَمَ سُبْحانَهُ بِالسَّماءِ والطّارِقِ، وهو النَّجْمُ الثّاقِبُ كَما صَرَّحَ بِهِ التَّنْزِيلُ. قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: أقْسَمَ اللَّهُ بِالسَّماءِ والطّارِقِ، يَعْنِي الكَواكِبَ تَطْرُقُ بِاللَّيْلِ وتَخْفى بِالنَّهارِ. قالَ الفَرّاءُ: الطّارِقُ النَّجْمُ لِأنَّهُ يَطْلُعُ بِاللَّيْلِ، وما أتاكَ لَيْلًا فَهو طارِقٌ. وكَذا قالَ الزَّجّاجُ، والمُبَرِّدُ: ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ومِثْلُكِ حُبْلى قَدْ طَرَقْتِ ومُرْضِعٌ فَألْهَيْتُها عَنْ ذِي تَمائِمَ مُحْوِلِ وقَوْلُهُ أيْضًا: ؎ألَمْ تَرَيانِي كُلَّما جِئْتُ طارِقًا ∗∗∗ وجَدْتُ بِها طِيبًا وإنْ لَمْ تُطَيَّبِ وقَدِ اخْتُلِفَ في الطّارِقِ هَلْ هو نَجْمٌ مُعَيَّنٌ أوْ جِنْسُ النَّجْمِ ؟ فَقِيلَ هو زُحَلُ، وقِيلَ الثُّرَيّا، وقِيلَ هو الَّذِي تُرْمى بِهِ الشَّياطِينُ، وقِيلَ هو جِنْسُ النَّجْمِ. قالَ في الصِّحاحِ: والطّارِقُ: النَّجْمُ الَّذِي يُقالُ لَهُ كَوْكَبُ الصُّبْحِ، ومِنهُ قَوْلُ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ: ؎نَحْنُ بَناتُ طارِقْ ∗∗∗ نَمْشِي عَلى النَّمارِقْ أيْ إنَّ آباءَنا في الشَّرَفِ كالنَّجْمِ المُضِيءِ، وأصْلُ الطُّرُوقِ الدَّقُّ، فَسُمِّيَ قاصِدُ اللَّيْلِ طارِقًا لِاحْتِياجِهِ في الوُصُولِ إلى الدَّقِّ. وقالَ قَوْمٌ: إنَّ الطُّرُوقَ قَدْ يَكُونُ نَهارًا، والعَرَبُ تَقُولُ: أتَيْتُكَ اليَوْمَ طَرْقَتَيْنِ: أيْ مَرَّتَيْنِ، ومِنهُ قَوْلُهُ ﷺ: «أعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ طَوارِقِ اللَّيْلِ والنَّهارِ إلّا طارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ» . ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ ما هو الطّارِقُ، تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ بَعْدَ تَعْظِيمِهِ بِالإقْسامِ بِهِ فَقالَ: ﴿وما أدْراكَ ما الطّارِقُ النَّجْمُ الثّاقِبُ﴾ الثّاقِبُ: المُضِيءُ، ومِنهُ يُقالُ ثَقَبَ النَّجْمُ ثُقُوبًا وثَقابَةً إذا أضاءَ، وثُقُوبُهُ ضَوْؤُهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎أذاعَ بِهِ في النّاسِ حَتّى كَأنَّهُ ∗∗∗ بِعَلْياءَ نارٌ أُوْقِدَتْ بِثُقُوبِ قالَ الواحِدِيُّ: الطّارِقُ يَقَعُ عَلى كُلِّ ما طَرَقَ لَيْلًا، ولَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ يَدْرِي ما المُرادُ بِهِ لَوْ لَمْ يُبَيِّنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿النَّجْمُ الثّاقِبُ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: الثّاقِبُ المُتَوَهِّجُ. قالَ سُفْيانُ: كُلُّ ما في القُرْآنِ " وما أدْراكَ " فَقَدْ أخْبَرَهُ، وكُلُّ شَيْءٍ قالَ: " وما يُدْرِيكَ " لَمْ يُخْبِرْهُ بِهِ. وارْتِفاعُ قَوْلِهِ: ﴿النَّجْمُ الثّاقِبُ﴾ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ نَشَأ مِمّا قَبْلَهُ، كَأنَّهُ قِيلَ ما هو ؟ فَقِيلَ هو النَّجْمُ الثّاقِبُ. ﴿إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ﴾ هَذا جَوابُ القَسَمِ، وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ هُودٍ اخْتِلافُ القُرّاءِ في لَمّا، فَمَن قَرَأ بِتَخْفِيفِها كانَتْ إنْ هُنا هي المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ فِيها ضَمِيرُ الشَّأْنِ المُقَدَّرُ، وهو اسْمُها، واللّامُ هي الفارِقَةُ. وما مَزِيدَةٌ: أيْ إنَّ الشَّأْنَ كُلُّ نَفْسٍ لَعَلَيْها حافِظٌ، ومَن قَرَأ بِالتَّشْدِيدِ فَإنْ نافِيَةٌ، ولَمّا بِمَعْنى إلّا: أيْ ما كُلَّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها حافِظٌ، وقَدْ قَرَأ هُنا بِالتَّشْدِيدِ ابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ. وقَرَأ الباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قِيلَ والحافِظُ: هُمُ الحَفَظَةُ مِنَ المَلائِكَةِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ عَلَيْها عَمَلَها وقَوْلَها وفِعْلَها ويُحْصُونَ ما تَكْسِبُ مَن خَيْرٍ وشَرٍّ، وقِيلَ: الحافِطُ هو اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، وقِيلَ هو العَقْلُ يُرْشِدُهم إلى المَصالِحِ، ويَكُفُّهم عَنِ المَفاسِدِ. والأوَّلُ أوْلى لِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّ عَلَيْكم لَحافِظِينَ﴾ [الانفطار: ١٠] وقَوْلِهِ: ﴿ويُرْسِلُ عَلَيْكم حَفَظَةً﴾ [الأنعام: ٦١] وقَوْلِهِ: ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ﴾ [الرعد: ١١] والحافِظُ عَلى الحَقِيقَةِ هو اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ كَما في قَوْلِهِ: ﴿فاللَّهُ خَيْرٌ حافِظًا﴾ [يوسف: ٦٤] وحِفْظُ المَلائِكَةِ مِن حِفْظِهِ لِأنَّهم بِأمْرِهِ. ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ الفاءُ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ كَوْنَ عَلى كُلِّ نَفْسِ حافِظٌ يُوجِبُ عَلى الإنْسانِ أنْ يَتَفَكَّرَ في مُبْتَدَأِ خَلْقِهِ لِيَعْلَمَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلى ما هو دُونَ ذَلِكَ مِنَ البَعْثِ. قالَ مُقاتِلٌ: يَعْنِي المُكَذِّبَ بِالبَعْثِ مِمَّ خُلِقَ مِن أيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ، والمَعْنى: فَلْيَنْظُرْ نَظَرَ التَّفَكُّرِ والِاسْتِدْلالِ حَتّى يَعْرِفَ أنَّ الَّذِي ابْتَدَأهُ مِن نُطْفَةٍ قادِرٌ عَلى إعادَتِهِ. ﴿خُلِقَ مِن ماءٍ دافِقٍ﴾ والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، والماءُ: هو المَنِيُّ، والدَّفْقُ: الصَّبُّ، يُقالُ دَفَقْتُ الماءَ: أيْ صَبَبْتُهُ، يُقالُ ماءٌ دافِقٌ: أيُّ مَدْفُوقٌ، مِثْلُ ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ [القارعة: ٧] أيْ مَرْضِيَّةٍ. قالَ الفَرّاءُ، والأخْفَشُ: ماءٌ دافِقٌ: أيُّ مَصْبُوبٌ في الرَّحِمِ. قالَ الفَرّاءُ: وأهْلُ الحِجازِ يَجْعَلُونَ الفاعِلَ بِمَعْنى المَفْعُولِ في كَثِيرٍ مِن كَلامِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: سِرٌّ كاتِمٌ: أيُّ مَكْتُومٌ، وهم ناصِبٌ: أيْ مَنصُوبٌ، ولَيْلٌ نائِمٌ ونَحْوَ ذَلِكَ. قالَ الزَّجّاجُ: مِن ماءٍ ذِي انْدِفاقٍ، يُقالُ دارِعٌ وقايِسٌ ونابِلٌ: أيْ ذُو دِرْعٍ وقَوْسٍ ونَبْلٍ، وأرادَ سُبْحانَهُ ماءَ الرَّجُلِ والمَرْأةِ لِأنَّ الإنْسانَ مَخْلُوقٌ مِنهُما، لَكِنْ جَعَلَهُما ماءً واحِدًا لِامْتِزاجِهِما. ثُمَّ وصَفَ هَذا الماءَ فَقالَ: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ﴾ أيْ صُلْبِ (p-١٦٠٩)الرَّجُلِ، وتَرائِبِ المَرْأةِ، والتَّرائِبُ جَمْعُ تَرِيبَةٍ، وهي مَوْضِعُ القِلادَةِ مِنَ الصَّدْرِ، والوَلَدُ لا يَكُونُ إلّا مِنَ الماءَيْنِ. قَرَأ الجُمْهُورُ يَخْرُجُ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وابْنُ مِقْسَمٍ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وفِي الصُّلْبِ: وهو الظَّهْرُ لُغاتٌ. قَرَأ الجُمْهُورُ بِضَمِّ الصّادِ وسُكُونِ اللّامِ، وقَرَأ أهْلُ مَكَّةَ بِضَمِّ الصّادِ واللّامِ. وقَرَأ اليَمانِيُّ بِفَتْحِهِما، ويُقالُ صالِبٌ عَلى وزْنِ قالِبٍ. ومِنهُ قَوْلُ العَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ: ؎تَنْقُلُ مِن صُلْبٍ إلى رَحِمٍ فِي أبْياتِهِ المَشْهُورَةِ في مَدْحِ النَّبِيِّ ﷺ . وقَدْ تَقَدَّمَ كَلامٌ في هَذا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] وقِيلَ التَّرائِبُ: ما بَيْنَ الثَّدْيَيْنِ. وقالَ الضَّحّاكُ: تَرائِبُ المَرْأةِ: اليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ والعَيْنَيْنِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هي الجِيدُ. وقالَ مُجاهِدٌ: هي ما بَيْنَ المَنكِبَيْنِ والصَّدْرِ. ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ: هي الصَّدْرُ، ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ: هي التَّراقِي. وحَكى الزَّجّاجُ: أنَّ التَّرائِبَ عُصارَةُ القَلْبِ، ومِنهُ يَكُونُ الوَلَدُ، والمَشْهُورُ في اللُّغَةِ أنَّها عِظامُ الصَّدْرِ والنَّحْرِ، ومِنهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: ؎فَإنْ تُدْبِرُوا نَأْخُذْكم في ظُهُورِكم ∗∗∗ وإنْ تُقْبِلُوا نَأْخُذْكم في التَّرائِبِ قالَ عِكْرِمَةُ: التَّرائِبُ: الصَّدْرُ، وأنْشَدَ: ؎نِظامُ دُرٍّ عَلى تَرائِبِها قالَ في الصِّحاحِ: التَّرِيبَةُ: واحِدَةُ التَّرائِبِ، وهي عِظامُ الصَّدْرِ، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: جَمْعُ التَّرِيبَةِ تَرِيبٌ، ومِنهُ قَوْلُ المُثَقَّبِ العَبْدِيِّ: ؎ومِن ذَهَبٍ بُنِينَ عَلى تَرِيبٍ ∗∗∗ كَلَوْنِ العاجِ لَيْسَ بِذِي غُضُونِ وقَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ‌‌‌‌‌‌ ؎تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ وحَكى الزَّجّاجُ: أنَّ التَّرائِبَ أرْبَعُ أضْلاعٍ مِن يَمْنَةِ الصَّدْرِ، وأرْبَعُ أضْلاعٍ مِن يَسْرَةِ الصَّدْرِ. قالَ قَتادَةُ، والحَسَنُ: المَعْنى ويَخْرُجُ مِن صُلْبِ الرَّجُلِ وتَرائِبِ المَرْأةِ. وحَكى الفَرّاءُ أنَّ مِثْلَ هَذا يَأْتِي عَنِ العَرَبِ يَكُونُ مَعْنًى مِن بَيْنِ الصُّلْبِ، مِنَ الصُّلْبِ، وقِيلَ إنَّ ماءَ الرَّجُلِ يَنْزِلُ مِنَ الدِّماغِ، ولا يُخالِفُ هَذا ما في الآيَةِ لِأنَّهُ إذا نَزَلَ مِنَ الدِّماغِ نَزَلَ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ، وقِيلَ إنَّ المَعْنى: يَخْرُجُ مِن جَمِيعِ أجْزاءِ البَدَنِ، ولا يُخالِفُ هَذا ما في الآيَةِ؛ لِأنَّ نِسْبَةَ خُرُوجِهِ إلى بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ بِاعْتِبارِ أنَّ أكْثَرَ أجْزاءِ البَدَنِ هي الصُّلْبُ والتَّرائِبُ وما يُجاوِرُها وما فَوْقَها مِمّا يَكُونُ تَنَزُّلُهُ مِنها. ﴿إنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ﴾ الضَّمِيرُ في إنَّهُ يَرْجِعُ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ لِدَلالَةِ قَوْلِهِ: " خُلِقَ " عَلَيْهِ، فَإنَّ الَّذِي خَلَقَهُ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ، والضَّمِيرُ في رَجْعِهِ عائِدٌ إلى الإنْسانِ، والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ عَلى جَعْلِ الإنْسانِ: أيْ إعادَتِهِ بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ لَقادِرٌ. هَكَذا قالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: وقالَ مُجاهِدٌ: عَلى أنْ يَرُدَّ الماءَ في الإحْلِيلِ. وقالَ عِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ: عَلى أنْ يَرُدَّ الماءَ في الصُّلْبِ. وقالَ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ يَقُولُ: إنْ شِئْتُ رَدَدْتُهُ مِنَ الكِبَرِ إلى الشَّبابِ، ومِنَ الشَّبابِ إلى الصِّبا، ومِنَ الصِّبا إلى النُّطْفَةِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: إنَّهُ عَلى حَبْسِ ذَلِكَ الماءِ حَتّى لا يَخْرُجَ لَقادِرٌ، والأوَّلُ أظْهَرُ، ورَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، والثَّعْلَبِيُّ، والقُرْطُبِيُّ. ﴿يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ﴾ العامِلُ في الظَّرْفِ عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ، هو رَجْعُهُ، وقِيلَ " لَقادِرٌ " . واعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ يَلْزَمُ تَخْصِيصُ القُدْرَةِ بِهَذا اليَوْمِ، وقِيلَ العامِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ: أيْ يَرْجِعُهُ يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ، وقِيلَ العامِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ، وهو اذْكُرْ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، وأمّا عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ المُرادَ رَجْعُ الماءِ، فالعامِلُ في الظَّرْفِ مُقَدَّرٌ، وهو اذْكُرْ، ومَعْنى تُبْلى السَّرائِرُ: تُخْتَبَرُ وتُعْرَفُ، ومِنهُ قَوْلُ الرّاجِزِ: ؎قَدْ كُنْتَ قَبْلَ اليَوْمِ تَزْدَرِينِي ∗∗∗ فاليَوْمَ أبْلُوكَ وتَبْتَلِينِي أيْ أخْتَبِرُكَ وتَخْتَبِرُنِي، وأمْتَحِنُكَ وتَمْتَحِنُنِي، والسَّرائِرُ: ما يُسَرُّ في القُلُوبِ مِنَ العَقائِدِ والنِّيّاتِ وغَيْرِها، والمُرادُ هُنا عَرْضُ الأعْمالِ ونَشْرُ الصُّحُفِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَيَّزُ الحَسَنُ مِنها عَنِ القَبِيحِ، والغَثُّ مِنَ السَّمِينِ. ﴿فَما لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا ناصِرٍ﴾ أيْ فَما لِلْإنْسانِ مِن قُوَّةٍ في نَفْسِهِ يَمْتَنِعُ بِها عَنْ عَذابِ اللَّهِ، ولا ناصِرٍ يَنْصُرُهُ مِمّا نَزَلَ بِهِ. قالَ عِكْرِمَةُ: هَؤُلاءِ المُلُوكُ ما لَهم يَوْمَ القِيامَةِ مِن قُوَّةٍ ولا ناصِرٍ. قالَ سُفْيانُ: القُوَّةُ العَشِيرَةُ، والنّاصِرُ الحَلِيفُ، والأوَّلُ أوْلى. ﴿والسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ﴾ الرَّجْعُ: المَطَرُ. قالَ الزَّجّاجُ: الرَّجْعُ المَطَرُ لِأنَّهُ يَجِيءُ ويَرْجِعُ ويَتَكَرَّرُ. قالَ الخَلِيلُ: الرَّجْعُ المَطَرُ نَفْسُهُ، والرَّجْعُ نَباتُ الرَّبِيعِ. قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: الرَّجْعُ المَطَرُ. قالَ المُتَنَخِّلُ يَصِفُ سَيْفًا لَهُ: ؎أبْيَضُ كالرَّجْعِ رَسُوبٌ إذا ∗∗∗ ما باحَ في مُحْتَفِلٍ يَخْتَلِي قالَ الواحِدِيُّ: الرَّجْعُ المَطَرُ في قَوْلِ جَمِيعِ المُفَسِّرِينَ، وفي هَذا الَّذِي حَكاهُ عَنْ جَمِيعِ المُفَسِّرِينَ نَظَرٌ، فَإنَّ ابْنَ زَيْدٍ قالَ: الرَّجْعُ الشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ يَرْجِعْنَ في السَّماءِ تَطْلُعُ مِن ناحِيَةٍ وتَغِيبُ في أُخْرى. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: ذاتُ الرَّجْعِ ذاتُ المَلائِكَةِ لِرُجُوعِهِمْ إلَيْها بِأعْمالِ العِبادِ. وقالَ بَعْضُهم: مَعْنى ذاتِ الرَّجْعِ: ذاتُ النَّفْعِ، ووَجْهُ تَسْمِيَةِ المَطَرِ رَجْعًا ما قالَهُ القَفّالُ إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن تَرْجِيعِ الصَّوْتِ وهو إعادَتُهُ، وكَذا المَطَرُ لِكَوْنِهِ يَعُودُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى سُمِّيَ رَجْعًا. وقِيلَ إنَّ العَرَبَ كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّ السَّحابَ يَحْمِلُ الماءَ مِن بِحارِ الأرْضِ، ثُمَّ يُرْجِعُهُ إلى الأرْضِ، وقِيلَ سَمَّتْهُ العَرَبُ رَجْعًا لِأجْلِ التَّفاؤُلِ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِمْ، وقِيلَ لِأنَّ اللَّهَ يُرْجِعُهُ وقْتًا بَعْدَ وقْتٍ. ﴿والأرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ﴾ هو ما تَتَصَدَّعُ عَنْهُ الأرْضُ مِنَ النَّباتِ والثِّمارِ والشَّجَرِ، والصَّدْعُ: الشَّقُّ لِأنَّهُ يُصَدِّعُ الأرْضَ فَتَنْصَدِعُ لَهُ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ، والفَرّاءُ: تَتَصَدَّعُ بِالنَّباتِ. قالَ مُجاهِدٌ: والأرْضُ ذاتُ الطُّرُقِ الَّتِي تُصَدِّعُها المِياهُ، وقِيلَ ذاتُ الحَرْثِ لِأنَّهُ يُصَدِّعُها، وقِيلَ ذاتُ الأمْواتِ لِانْصِداعِها عَنْهم عِنْدَ البَعْثِ. والحاصِلُ أنَّ الصَّدْعَ إنْ كانَ اسْمًا لِلنَّباتِ فَكَأنَّهُ قالَ: والأرْضِ ذاتِ النَّباتِ، وإنْ كانَ المُرادُ بِهِ الشَّقَّ فَكَأنَّهُ قالَ: والأرْضِ ذاتِ الشَّقِّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنهُ النَّباتُ ونَحْوُهُ. وجَوابُ القَسَمِ قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ أيْ إنَّ القُرْآنَ لَقَوْلٌ يَفْصِلُ (p-١٦١٠)بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ بِالبَيانِ عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما. ﴿وما هو بِالهَزْلِ﴾ أيْ لَمْ يَنْزِلْ بِاللَّعِبِ، فَهو جَدٌّ لَيْسَ بِالهَزْلِ، والهَزْلُ ضِدُّ الجِدِّ. قالَ الكُمَيْتُ: ؎تَجِدُّ بِنا في كُلِّ يَوْمٍ وتَهْزِلُ ﴿إنَّهم يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ أيْ يَمْكُرُونَ في إبْطالِ ما جاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الدِّينِ الحَقِّ. قالَ الزَّجّاجُ: يُخاتِلُونَ النَّبِيَّ ﷺ ويُظْهِرُونَ ما هم عَلى خِلافِهِ. ﴿وأكِيدُ كَيْدًا﴾ أيْ أسْتَدْرِجُهم مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وأُجازِيهِمْ جَزاءَ كَيْدِهِمْ، قِيلَ هو ما أوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ القَتْلِ والأسْرِ. ﴿فَمَهِّلِ الكافِرِينَ﴾ أيْ أخِّرْهم، ولا تَسْألِ اللَّهَ سُبْحانَهُ تَعْجِيلَ هَلاكِهِمْ، وارْضَ بِما يُدَبِّرُهُ لَكَ في أُمُورِهِمْ، وقَوْلُهُ: ﴿أمْهِلْهُمْ﴾ بَدَلٌ، مِن مَهِّلِ. ومَهِّلْ وأمْهِلْ بِمَعْنًى مِثْلَ نَزِّلْ وأنْزِلْ، والإمْهالُ الإنْظارُ، وتَمَهَّلَ في الأمْرِ اتَّأدَ، وانْتِصابُ رُوَيْدًا عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ المَذْكُورِ أوْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أيْ أمْهِلْهم إمْهالًا رُوَيْدًا: أيْ قَرِيبًا أوْ قَلِيلًا. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: والرُّوَيْدُ في كَلامِ العَرَبِ تَصْغِيرُ الرَّوْدِ، وأنْشَدَ: ؎كَأنَّها تَمْشِي عَلى رَوْدٍ أيْ عَلى مَهْلٍ، وقِيلَ تَصْغِيرُ أرْوادٍ مَصْدَرُ رَوْدٍ تَصْغِيرُ التَّرْخِيمِ، ويَأْتِي اسْمُ فِعْلٍ نَحْوَ رُوَيْدَ زَيْدًا: أيْ أمْهِلْهُ، ويَأْتِي حالًا نَحْوَ سارَ القَوْمُ رُوَيْدًا: أيْ مُتَمَهِّلِينَ، ذَكَرَ مَعْنى هَذا الجَوْهَرِيُّ، والبَحْثُ مُسْتَوْفًى في عِلْمِ النَّحْوِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿والسَّماءِ والطّارِقِ﴾ قالَ: أقْسَمَ رَبُّكَ بِالطّارِقِ: وكُلُّ شَيْءٍ طَرَقَكَ بِاللَّيْلِ فَهو طارِقٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ﴾ قالَ: كُلُّ نَفْسٍ عَلَيْها حَفَظَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿النَّجْمُ الثّاقِبُ﴾ قالَ: النَّجْمُ المُضِيءُ ﴿إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ﴾ قالَ: إلّا عَلَيْها حافِظٌ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ﴾ قالَ: ما بَيْنَ الجِيدِ والنَّحْرِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: تَرِيبَةُ المَرْأةِ وهي مَوْضِعُ القِلادَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: التَّرائِبُ بَيْنَ ثَدْيَيِ المَرْأةِ. وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْهُ أيْضًا قالَ: التَّرائِبُ أرْبَعَةُ أضْلاعٍ مِن كُلِّ جانِبٍ مِن أسْفَلِ الأضْلاعِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أيْضًا ﴿إنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ﴾ قالَ: عَلى أنْ يَجْعَلَ الشَّيْخَ شابًّا والشّابَّ شَيْخًا. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، والفِرْيابِيُّ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿والسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ﴾ قالَ: المَطَرُ بَعْدَ المَطَرِ ﴿والأرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ﴾ قالَ: صَدْعُها عَنِ النَّباتِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿والأرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ﴾ تَصَدُّعُ الأوْدِيَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَندَهْ، والدَّيْلَمِيُّ عَنْ مُعاذِ بْنِ أنَسٍ مَرْفُوعًا ﴿والأرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ﴾ قالَ: تَصْدَعُ بِإذْنِ اللَّهِ عَنِ الأمْوالِ والنَّباتِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ قالَ: حَقٌّ ﴿وما هو بِالهَزْلِ﴾ قالَ: بِالباطِلِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿أمْهِلْهم رُوَيْدًا﴾ قالَ: قَرِيبًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب