الباحث القرآني

(p-٨٠)سُورَةُ الطّارِقِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّها بِإجْماعِهِمْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والسَّماءِ والطّارِقِ﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الطّارِقُ: النَّجْمُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأنَّهُ يَطْرُقُ، أيْ: يَطْلَعُ لَيْلًا، وكُلُّ مَن أتاكَ لَيْلًا، فَقَدَ طَرَقَكَ. ومِنهُ قَوْلُ هِنْدِ ابْنَةِ عُتْبَةَ: ؎ نَحْنُ بَناتُ طارِقْ نَمْشِي عَلى النَّمارِقْ تُرِيدُ: إنَّ أبانا نَجْمٌ في شَرَفِهِ وعُلُوِّهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أدْراكَ ما الطّارِقُ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: ذَلِكَ أنَّ هَذا الِاسْمَ (p-٨١)يَقَعُ عَلى كُلِّ ما طَرَقَ لَيْلًا، فَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ يَدْرِي ما المُرادُ بِهِ حَتّى تَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿النَّجْمُ الثّاقِبُ﴾ يَعْنِي: المُضِيءَ، كَما بَيَّنّا في [الصّافّاتِ: ١٠] . وَفِي المُرادِ بِهَذا النَّجْمِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ زُحَلُ، قالَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ورَوى أبُو الجَوْزاءِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: هو زُحَلُ، ومَسْكَنُهُ في السَّماءِ السّابِعَةِ لا يَسْكُنُها غَيْرُهُ مِنَ النُّجُومِ، فَإذا أخَذَتِ النُّجُومُ أمْكِنَتَها مِنَ السَّماءِ، هَبَطَ، فَكانَ مَعَها، ثُمَّ رَجَعَ إلى مَكانِهِ مِنَ السَّماءِ السّابِعَةِ، فَهو طارِقٌ حِينَ يَنْزِلُ، وطارِقٌ حِينَ يَصْعَدُ. والثّانِي: أنَّهُ الثُّرَيّا، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. والثّالِثُ: أنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أحْمَدَ النَّيْسابُورِيُّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ قَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وأبُو المُتَوَكِّلِ [إنَّ] بِالتَّشْدِيدِ " كَلَّ " بِالنَّصْبِ ﴿لَمّا عَلَيْها حافِظٌ﴾ وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، وحَمْزَةُ، وأبُو حاتِمٍ عَنْ يَعْقُوبَ " لَمّا " بِالتَّشْدِيدِ. وقَرَأ الباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قالَ الزَّجّاجُ: هَذِهِ الآيَةُ جَوابُ القَسَمِ، ومَن خَفَّفَ فالمَعْنى: لَعَلَيْها حافِظٌ و " ما " لَغْوٌ. ومَن شَدَّدَ، فالمَعْنى: إلّا، قالَ: فاسْتُعْمِلَتْ " لَمّا " في مَوْضِعِ (p-٨٢)" إلّا " في مَوْضِعَيْنِ. أحَدُهُما: هَذا. والآخَرُ: في بابِ القَسَمِ. تَقُولُ: سَألْتُكَ لَمّا فَعَلْتَ، بِمَعْنى: إلّا فَعَلْتَ. قالَ المُفَسِّرُونَ: المَعْنى: ما مِن نَفْسٍ إلّا عَلَيْها حافِظٌ. وفِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُمُ الحَفَظَةُ مِنَ المَلائِكَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. قالَ قَتادَةُ: يَحْفَظُونَ عَلى الإنْسانِ عَمَلَهُ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ. والثّانِي: حافِظٌ يَحْفَظُ الإنْسانَ حَتّى حِينِ يُسَلِّمُهُ إلى المَقادِيرِ، قالَهُ الفَرّاءُ. ثُمَّ نَبَّهَ عَلى البَعْثِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ أيْ: مَن أيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ؟ والمَعْنى: فَلْيَنْظُرْ نَظَرَ التَّفَكُّرِ والِاسْتِدْلالِ لِيَعْرِفَ أنَّ الَّذِي ابْتَدَأهُ مِن نُطْفَةٍ قادِرٌ عَلى إعادَتِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن ماءٍ دافِقٍ﴾ قالَ الفَرّاءُ: مَعْناهُ: مَدْفُوقٌ، كَقَوْلِ العَرَبِ. سِرٌّ كاتِمٌ، وهَمٌّ ناصِبٌ، ولَيْلٌ نائِمٌ، وعِيشَةٌ راضِيَةٌ. وأهْلُ الحِجازِ يَجْعَلُونَ المَفْعُولَ فاعِلًا. قالَ الزَّجّاجُ: ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وأصْحابِهِ أنَّ مَعْناهُ النَّسَبُ إلى الِانْدِفاقِ، والمَعْنى: مِن ماءٍ ذِي انْدِفاقٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ﴾ قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ سِيرِينَ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ " الصُّلُبِ " بِضَمِّ الصّادِ، واللّامِ جَمِيعًا. يَعْنِي: يَخْرُجُ مِن صُلْبِ الرَّجُلِ وتَرائِبِ المَرْأةِ. قالَ الفَرّاءُ: يُرِيدُ يَخْرُجُ مِنَ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ. يُقالُ: يَخْرُجُ مِن بَيْنِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ خَيْرٌ كَثِيرٌ. بِمَعْنى: يَخْرُجُ مِنهُما. (p-٨٣)وَفِي " التَّرائِبِ " ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ مَوْضِعُ القِلادَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. قالَ الزَّجّاجُ: قالَ أهْلُ اللُّغَةِ أجْمَعُونَ: التَّرائِبُ: مَوْضِعُ القِلادَةِ مِنَ الصَّدْرِ، وأنْشَدُوا لِامْرِئِ القَيْسِ: ؎ مُهَفْهَفَةٌ بَيْضاءُ غَيْرُ مُفاضَةٍ ∗∗∗ تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ قَرَأْتُ عَلى شَيْخِنا أبِي مَنصُورٍ اللُّغَوِيِّ قالَ: السَّجَنْجَلُ: المِرْآةُ بِالرُّومِيَّةِ. وقِيلَ: هي سَبِيكَةُ الفِضَّةِ، وقِيلَ: السَّجَنْجَلُ: الزَّعْفَرانُ، وقِيلَ: ماءُ الذَّهَبِ. ويُرْوى: البَيْتُ " بِالسَّجَنْجَلِ " . والثّانِي: أنَّ التَّرائِبَ: اليَدانِ والرِّجْلانِ والعَيْنانِ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ الضَّحّاكُ. والثّالِثُ: أنَّها أرْبَعَةُ أضْلاعٍ مِن يَمْنَةِ الصَّدْرِ، وأرْبَعَةُ أضْلاعٍ مِن يَسْرَةِ الصَّدْرِ، حَكاهُ الزَّجّاجُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ﴾ الهاءُ كِنايَةٌ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ﴿عَلى رَجْعِهِ﴾ الرَّجْعُ: رَدُّ الشَّيْءِ إلى أوَّلِ حالِهِ. وفي هَذِهِ الهاءِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها تَعُودُ عَلى الإنْسانِ. ثُمَّ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ عَلى إعادَةِ الإنْسانِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ قادِرٌ، قالَهُ الحَسَنُ، وقَتادَةُ. قالَ الزَّجّاجُ: ويَدُلُّ عَلى هَذا القَوْلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ﴾ . والثّانِي: أنَّهُ عَلى رَجْعِهِ مِن حالِ الكِبَرِ (p-٨٤)إلى الشَّبابِ، ومِنَ الشَّبابِ إلى الصِّبا، ومِنَ الصِّبا إلى النُّطْفَةِ قادِرٌ، قالَهُ الضَّحّاكُ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّها تَعُودُ إلى الماءِ. ثُمَّ في مَعْنى الكَلامِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحُدُها: رَدُّ الماءِ في الإحْلِيلِ، قالَهُ مُجاهِدٌ. والثّانِي: عَلى رَدِّهِ في الصُّلْبِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ. والثّالِثُ: عَلى حَبْسِ الماءِ فَلا يَخْرُجُ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ﴾ الَّتِي بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رَبِّهِ حَتّى يَظْهَرَ خَيْرُها مِن شَرِّها، ومُؤَدِّيها مِن مُضَيِّعِها، فَإنَّ الإنْسانَ مَسْتُورٌ في الدُّنْيا، لا يَدْرِي أصَلّى، أمْ لا؟ أتَوَضَّأ، أمْ لا؟ فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أبْدى اللَّهُ كُلَّ سِرٍّ، فَكانَ زَيْنًا في الوَجْهِ، أوْ شَيْنًا. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تُخْتَبَرُ سَرائِرُ القُلُوبِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما لَهُ مِن قُوَّةٍ﴾ أيْ: فَما لِهَذا الإنْسانِ المُنْكِرِ لِلْبَعْثِ مِن قُوَّةٍ يَمْتَنِعُ بِها مِن عَذابِ اللَّهِ ﴿وَلا ناصِرٍ﴾ يَنْصُرُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب