الباحث القرآني

وهي مَكِّيَّةٌ كُلُّها في قَوْلِ الجُمْهُورِ. وقالَ مُقاتِلٌ: هي مَكِّيَّةٌ إلّا ثَلاثَ آياتٍ مِن قَوْلِهِ ﴿أمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿والسّاعَةُ أدْهى وأمَرُّ﴾ قالَ القُرْطُبِيُّ: ولا يَصِحُّ. وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والنَّحّاسُ،، والبَيْهَقِيُّ، في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " اقْتَرَبَتْ " تُدْعى في التَّوْراةِ المُبَيِّضَةَ تُبَيِّضُ وجْهَ صاحِبِها يَوْمَ تَبْيَضُّ الوُجُوهُ. قالَ البَيْهَقِيُّ: مُنْكَرٌ. وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ عَنْ إسْحاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي فَرْوَةَ رَفَعَهُ «مَن قَرَأ ﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ﴾ في كُلِّ لَيْلَتَيْنِ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ ووَجْهُهُ كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ» . وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ نَحْوَهُ عَنْ لَيْثِ بْنِ مَعْنٍ عَنْ شَيْخٍ مِن هَمْدانَ رَفَعَهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَقْرَأُ بِقافٍ، واقْتَرَبَتِ السّاعَةُ في الأضْحى والفِطْرِ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ: ﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ﴾ أيْ قَرُبَتْ ولا شَكَّ أنَّها قَدْ صارَتْ بِاعْتِبارِ نِسْبَةِ ما بَقِيَ بَعْدَ قِيامِ النُّبُوَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ إلى ما مَضى مِنَ الدُّنْيا قَرِيبَةً. ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ إنَّها لَمّا كانَتْ مُتَحَقِّقَةَ الوُقُوعِ لا مَحالَةَ كانَتْ قَرِيبَةً، فَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ ﴿وانْشَقَّ القَمَرُ﴾ أيْ وقَدِ انْشَقَّ القَمَرُ، وكَذا قَرَأ حُذَيْفَةُ بِزِيادَةِ " قَدْ " والمُرادُ الِانْشِقاقُ الواقِعُ في أيّامِ النُّبُوَّةِ مُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وإلى هَذا ذَهَبَ الجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ. قالَ الواحِدِيُّ: وجَماعَةُ المُفَسِّرِينَ عَلى هَذا إلّا ما رَوى عُثْمانُ بْنُ عَطاءٍ عَنْ أبِيهِ أنَّهُ قالَ: المَعْنى سَيَنْشَقُّ القَمَرُ، والعُلَماءُ كُلُّهم عَلى خِلافِهِ. قالَ: وإنَّما ذَكَرَ اقْتِرابَ السّاعَةِ مَعَ انْشِقاقِ القَمَرِ، لِأنَّ انْشِقاقَهُ مِن عَلاماتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ونُبُوَّتُهُ وزَمانُهُ مَن أشْراطِ اقْتِرابِ السّاعَةِ. قالَ ابْنُ كَيْسانَ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ: أيِ انْشَقَّ القَمَرُ واقْتَرَبَتِ السّاعَةُ. وحَكى القُرْطُبِيُّ عَنْ الحَسَنِ مِثْلَ قَوْلِ عَطاءٍ أنَّهُ الِانْشِقاقُ الكائِنُ يَوْمَ القِيامَةِ، وقِيلَ مَعْنى ﴿وانْشَقَّ القَمَرُ﴾: وضَحَ الأمْرُ وظَهَرَ، والعَرَبُ تَضْرِبُ بِالقَمَرِ المَثَلَ فِيما وضَحَ. وقِيلَ انْشِقاقُ القَمَرِ هو انْشِقاقُ الظُّلْمَةِ عَنْهُ وطُلُوعُهُ في أثْنائِها كَما يُسَمّى الصُّبْحُ فَلَقًا لِانْفِلاقِ الظُّلْمَةِ عَنْهُ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ كانَ الِانْشِقاقُ في زَمانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَما ثَبَتَ ذَلِكَ في الأحادِيثِ المُتَواتِرَةِ بِالأسانِيدِ الصَّحِيحَةِ. قالَ: وهَذا أمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ العُلَماءِ أنَّ انْشِقاقَ القَمَرِ قَدْ وقَعَ في زَمانِ النَّبِيِّ ﷺ، وأنَّهُ كانَ إحْدى المُعْجِزاتِ الباهِراتِ. قالَ الزَّجّاجُ: زَعَمَ قَوْمٌ عَنَدُوا عَنِ القَصْدِ وما عَلَيْهِ أهْلُ العِلْمِ أنَّ تَأْوِيلَهُ أنَّ القَمَرَ يَنْشَقُّ يَوْمَ القِيامَةِ. والأمْرُ بَيِّنٌ في اللَّفْظِ وإجْماعِ أهْلِ العِلْمِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا كانَ في الدُّنْيا لا في القِيامَةِ. انْتَهى، ولَمْ يَأْتِ مَن خالَفَ الجُمْهُورَ وقالَ إنَّ الِانْشِقاقَ سَيَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ إلّا بِمُجَرَّدِ اسْتِبْعادٍ، فَقالَ: لِأنَّهُ لَوِ انْشَقَّ في زَمَنِ النُّبُوَّةِ لَمْ يَبْقَ أحَدٌ إلّا رَآهُ لِأنَّهُ آيَةٌ، والنّاسُ في الآياتِ سَواءٌ. ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّهُ لا يَلْزَمُ أنْ يَراهُ كُلُّ أحَدٍ لا عَقْلًا ولا شَرْعًا ولا عادَةً، ومَعَ هَذا فَقَدْ نُقِلَ إلَيْنا بِطْرِيقِ التَّواتُرِ، وهَذا بِمُجَرَّدِهِ يَدْفَعُ الِاسْتِبْعادَ، ويَضْرِبُ بِهِ في وجْهِ قائِلِهِ. والحاصِلُ أنّا إذا نَظَرْنا إلى كِتابِ اللَّهِ، فَقَدْ أخْبَرَنا بِأنَّهُ انْشَقَّ، ولَمْ يُخْبِرْنا بِأنَّهُ سَيَنْشَقُّ، وإنْ نَظَرْنا إلى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ وغَيْرِهِ مِن طُرُقٍ مُتَواتِرَةٍ أنَّهُ قَدْ كانَ ذَلِكَ في أيّامِ النُّبُوَّةِ، وإنْ نَظَرْنا إلى أقْوالِ أهْلِ العِلْمِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى هَذا، ولا يُلْتَفَتُ إلى شُذُوذِ مَن شَذَّ واسْتِبْعادِ مَنِ اسْتَبْعَدَ، وسَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِ ما ورَدَ في ذَلِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ ﴿وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمّا انْشَقَّ القَمَرُ قالَ المُشْرِكُونَ (p-١٤٢٧)سَحَرَنا مُحَمَّدٌ، فَقالَ اللَّهُ: ﴿وإنْ يَرَوْا آيَةً﴾ يَعْنِي انْشِقاقَ القَمَرِ يُعْرِضُوا عَنِ التَّصْدِيقِ والإيمانِ بِها، ويَقُولُوا سِحْرٌ قَوِيٌّ شَدِيدٌ يَعْلُو كُلَّ سِحْرٍ، مِن قَوْلِهِمُ اسْتَمَرَّ الشَّيْءُ إذا قَوِيَ واسْتَحْكَمَ، وقَدْ قالَ بِأنَّ مَعْنى مُسْتَمِرٍّ: قَوِيٌّ شَدِيدٌ، جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ. قالَ الأخْفَشُ: هو مَأْخُوذٌ مِن إمْرارِ الحَبْلِ، وهو شِدَّةُ فَتْلِهِ، وبِهِ قالَ أبُو العالِيَةِ، والضَّحّاكُ واخْتارَهُ النَّحّاسُ، ومِنهُ قَوْلُ لَقِيطٍ: ؎حَتّى اسْتَمَرَّ عَلى شَرٍّ لا يَزِينُهُ صِدْقُ العَزِيمَةِ لا رَثًّا ولا ضَرَعًا وقالَ الفَرّاءُ، والكِسائِيُّ، وأبُو عُبَيْدَةَ: ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ أيْ ذاهِبٌ، مِن قَوْلِهِمْ مَرَّ الشَّيْءُ واسْتَمَرَّ: إذا ذَهَبَ، وبِهِ قالَ قَتادَةُ، ومُجاهِدٌ وغَيْرُهُما، واخْتارَهُ النَّحّاسُ. وقِيلَ مَعْنى مُسْتَمِرٌّ: دائِمٌ مُطَّرِدٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ألا إنَّما الدُّنْيا لَيالٍ وأعْصُرْ ∗∗∗ ولَيْسَ عَلى شَيْءٍ قَدِيمٍ بِمُسْتَمِرْ أيْ بِدائِمٍ باقٍ، وقِيلَ مُسْتَمِرٌّ باطِلٌ، رُوِيَ هَذا عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ أيْضًا. وقِيلَ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وقِيلَ قَدْ مَرَّ مِنَ الأرْضِ إلى السَّماءِ، وقِيلَ هو مِنَ المَرارَةِ: يُقالُ مَرَّ الشَّيْءُ صارَ مُرًّا: أيْ مُسْتَبْشَعٌ عِنْدَهم. وفِي هَذِهِ الآيَةِ أعْظَمُ دَلِيلٍ عَلى أنَّ الِانْشِقاقَ قَدْ كانَ كَما قَرَّرْنا سابِقًا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ تَكْذِيبَهم فَقالَ: ﴿وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا أهْواءَهم﴾ أيْ وكَذَّبُوا رَسُولَ اللَّهِ، وما عايَنُوا مِن قُدْرَةِ اللَّهِ، واتَّبَعُوا أهْواءَهم وما زَيَّنَهُ لَهُمُ الشَّيْطانُ الرَّجِيمُ، وجُمْلَةُ ﴿وكُلُّ أمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ بُطْلانِ ما قالُوهُ مِنَ التَّكْذِيبِ واتِّباعِ الأهْواءِ: أيْ وكُلُّ أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ مُنْتَهٍ إلى غايَةٍ، فالخَيْرُ يَسْتَقِرُّ بِأهْلِ الخَيْرِ، والشَّرُّ يَسْتَقِرُّ بِأهْلِ الشَّرِّ. قالَ الفَرّاءُ: يَقُولُ يَسْتَقِرُّ قَرارُ تَكْذِيبِهِمْ وقَرارُ قَوْلِ المُصَدِّقِينَ حَتّى يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ بِالثَّوابِ والعِقابِ. قالَ الكَلْبِيُّ: المَعْنى لِكُلِّ أمْرٍ حَقِيقَةٌ، ما كانَ مِنهُ في الدُّنْيا فَسَيَظْهَرُ، وما كانَ مِنهُ في الآخِرَةِ فَسَيُعْرَفُ. قَرَأ الجُمْهُورُ " مُسْتَقِرٌّ " بِكَسْرِ القافِ، وهو مُرْتَفِعٌ عَلى أنَّهُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ وهو " كُلُّ " . وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِجَرِّ " مُسْتَقِرٍّ " عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِأمْرٍ، وقَرَأ شَيْبَةُ بِفَتْحِ القافِ، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ نافِعٍ. قالَ أبُو حاتِمٍ: ولا وجْهَ لَها، وقِيلَ لَها وجْهٌ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ مَحْذُوفٍ: أيْ وكُلُّ أمْرٍ ذُو اسْتِقْرارٍ، أوْ زَمانُ اسْتِقْرارٍ، أوْ مَكانُ اسْتِقْرارٍ، عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ، أوْ ظَرْفُ زَمانٍ، أوْ ظَرْفُ مَكانٍ. ﴿ولَقَدْ جاءَهم مِنَ الأنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ أيْ ولَقَدْ جاءَ كَفارَ مَكَّةَ، أوِ الكُفّارَ عَلى العُمُومِ مِنَ الأنْباءِ، وهي أخْبارُ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ المَقْصُوصَةُ عَلَيْنا في القُرْآنِ ﴿ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ أيِ ازْدِجارٌ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، يُقالُ زَجَرْتُهُ: إذا نَهَيْتُهُ عَنِ السُّوءِ ووَعَظْتُهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْمَ مَكانٍ، والمَعْنى: جاءَهم ما فِيهِ مَوْضِعُ ازْدِجارٍ: أيْ أنَّهُ في نَفْسِهِ مَوْضِعٌ لِذَلِكَ، وأصْلُهُ " مُزْتَجَرٌ " وتاءُ الِافْتِعالِ تُقْلَبُ دالًا مَعَ الزّايِ والدّالِ والذّالِ كَما تَقَرَّرَ في مَوْضِعِهِ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ " مُزَّجَرٌ " بِقَلْبِ تاءِ الِافْتِعالِ زايًا وإدْغامِ الزّايِ في الزّايِ، و" مِن " في قَوْلِهِ: مِنَ الأنْباءِ لِلتَّبْعِيضِ وهي وما دَخَلَتْ عَلَيْهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ. وارْتِفاعُ " حِكْمَةٌ بالِغَةٌ " عَلى أنَّها خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أوْ بَدَلٌ مِن " ما " بَدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ، أوْ بَدَلَ اشْتِمالٍ، والمَعْنى: أنَّ القُرْآنَ حِكْمَةٌ قَدْ بَلَغَتِ الغايَةَ لَيْسَ فِيها نَقْصٌ ولا خَلَلٌ، وقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلى أنَّها حالٌ مِن ما: أيْ حالَ كَوْنِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةً بالِغَةً ﴿فَما تُغْنِ النُّذُرُ﴾ " ما " يَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْتِفْهامِيَّةً وأنْ تَكُونَ نافِيَةً: أيْ: أيُّ شَيْءٍ تُغْنِي النُّذُرُ، أوْ لَمْ تُغَنِ النُّذُرُ شَيْئًا، والفاءُ لِتَرْتِيبِ عَدَمِ الإغْناءِ عَلى مَجِيءِ الحِكْمَةِ البالِغَةِ، والنُّذُرُ جَمْعُ نَذِيرٍ بِمَعْنى المُنْذِرِ، أوْ بِمَعْنى الإنْذارِ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ. ثُمَّ أمَرَهُ سُبْحانَهُ بِالإعْراضِ عَنْهم فَقالَ: فَتَوَلَّ عَنْهم أيْ أعْرِضْ عَنْهم حَيْثُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمُ الإنْذارُ، وهي مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ ﴿يَوْمَ يَدْعُو الدّاعِي إلى شَيْءٍ نُكُرٍ﴾ انْتَصَبَ الظَّرْفُ إمّا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ: أيِ اذْكُرْ، وإمّا بِـ " يَخْرُجُونَ " المَذْكُورُ بَعْدَهُ، وإمّا بِقَوْلِهِ: " فَما تُغْنِ "، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ اعْتِراضٌ، أوْ بِقَوْلِهِ: " يَقُولُ الكافِرُونَ " . أوْ بِقَوْلِهِ: خُشَّعًا وسَقَطَتِ الواوُ مِن " يَدْعُ " اتِّباعًا لِلَّفْظِ، وقَدْ وقَعَتْ في الرَّسْمِ هَكَذا وحُذِفَتِ الياءُ مِنَ " الدّاعِ " لِلتَّخْفِيفِ واكْتِفاءً بِالكَسْرَةِ، و" الدّاعِ " هو إسْرافِيلُ، والشَّيْءُ النُّكُرُ: الأمْرُ الفَظِيعُ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ اسْتِعْظامًا لَهُ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ العَهْدِ لَهم بِمِثْلِهِ. قَرَأ الجُمْهُورُ بِضَمِّ الكافِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ بِسُكُونِها تَخْفِيفًا. وقَرَأ مُجاهِدٌ،، وقَتادَةُ، بِكَسْرِ الكافِ وفَتْحِ الرّاءِ عَلى صِيغَةِ الفِعْلِ المَجْهُولِ. ﴿خُشَّعًا أبْصارُهُمْ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ " خُشَّعًا " جَمْعُ خاشِعٍ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو عَمْرٍو خاشِعًا عَلى الإفْرادِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وشَبابٌ حَسَنٌ أوْجُهُهم مِن ∗∗∗ إيادِ بْنِ نِزارِ بْنِ مَعَدْ وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ " خاشِعَةً " قالَ الفَرّاءُ: الصِّفَةُ إذا تَقَدَّمَتْ عَلى الجَماعَةِ جازَ فِيها التَّذْكِيرُ والتَّأْنِيثُ والجَمْعُ: يَعْنِي جَمْعَ التَّكْسِيرِ لا جَمْعَ السَّلامَةِ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ فاعِلَيْنِ، ومِثْلُ قِراءَةِ الجُمْهُورِ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎وُقُوفًا بِها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيُّهم ∗∗∗ يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أسًى وتَجَلَّدِ وانْتِصابُ " خُشَّعًا " عَلى الحالِ مِن فاعِلِ " يَخْرُجُونَ "، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في عَنْهم، والخُشُوعُ في البَصَرِ: الخُضُوعُ والذِّلَّةُ، وأضافَ الخُشُوعَ إلى الأبْصارِ لِأنَّ العِزَّ والذُّلَّ يَتَبَيَّنُ فِيها ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْداثِ كَأنَّهم جَرادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ أيْ يَخْرُجُونَ مِنَ القُبُورِ، وواحِدُ الأجْداثِ جَدَثٌ وهو القَبْرُ، كَأنَّهم لِكَثْرَتِهِمْ واخْتِلاطِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ: أيْ مُنْبَثٌّ في الأقْطارِ مُخْتَلِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. ﴿مُهْطِعِينَ إلى الدّاعِي﴾ الإهْطاعُ: الإسْراعُ أيْ قالَ كَوْنُهم مُسْرِعِينَ إلى الدّاعِي، وهو إسْرافِيلُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎بِدِجْلَةَ دارُهم ولَقَدْ أراهم ∗∗∗ بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إلى السَّماعِ أيْ مُسْرِعِينَ إلَيْهِ. وقالَ الضَّحّاكُ: مُقْبِلِينَ. وقالَ قَتادَةُ: عامِدِينَ. وقالَ عِكْرِمَةُ: فاتِحِينَ آذانَهم إلى الصَّوْتِ، والأوَّلُ أوْلى، وبِهِ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ، وجُمْلَةُ ﴿يَقُولُ الكافِرُونَ هَذا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ مُهْطِعِينَ، والرّابِطُ مُقَدَّرٌ أوْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأنَّهُ قِيلَ، فَماذا يَكُونُ حِينَئِذٍ. والعَسِرُ: الصَّعْبُ الشَّدِيدُ، وفي إسْنادِ هَذا القَوْلِ إلى الكُفّارِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اليَوْمَ لَيْسَ بِشَدِيدٍ (p-١٤٢٨)عَلى المُؤْمِنِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ تَفْصِيلَ بَعْضِ ما تَقَدَّمَ مِنَ الأنْباءِ المُجْمَلَةِ فَقالَ: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ﴾ أيْ كَذَّبُوا نَبِيَّهم، وفي هَذا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقَوْلُهُ: ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنا﴾ تَفْسِيرٌ لِما قَبْلَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ المُبْهَمِ، وفِيهِ مَزِيدُ تَقْرِيرٍ وتَأْكِيدٍ: أيْ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نُوحًا، وقِيلَ المَعْنى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍالرُّسُلَ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نُوحًا بِتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ فَإنَّهُ مِنهم. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهم لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلى مُجَرَّدِ التَّكْذِيبِ فَقالَ: ﴿وقالُوا مَجْنُونٌ﴾ أيْ نَسَبُوا نُوحًا إلى الجُنُونِ، وقَوْلُهُ: وازْدُجِرَ مَعْطُوفٌ عَلى قالُوا: أيْ وزُجِرَ عَنْ دَعْوى النُّبُوَّةِ وعَنْ تَبْلِيغِ ما أُرْسِلَ بِهِ بِأنْواعِ الزَّجْرِ، والدّالُ بَدَلٌ مِن تاءِ الِافْتِعالِ كَما تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وقِيلَ إنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى " مَجْنُونٌ ": أيِ ازْدَجَرَتْهُ الجِنُّ وذَهَبَتْ بِلُبِّهِ، والأوَّلُ أوْلى. قالَ مُجاهِدٌ: هو مِن كَلامِ اللَّهِ سُبْحانَهُ أخْبَرَ عَنْهُ بِأنَّهُ انْتُهِرَ وزُجِرَ بِالسَّبِّ بِأنْواعِ الأذى. قالَ الرّازِيُّ: وهَذا أصَحُّ، لِأنَّ المَقْصُودَ تَقْوِيَةُ قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ بِذِكْرِ مَن تَقَدَّمَهُ. ﴿فَدَعا رَبَّهُ أنِّي مَغْلُوبٌ فانْتَصِرْ﴾ أيْ دَعا رَبَّهُ عَلى قَوْمِهِ بِأنِّي مَغْلُوبٌ مِن جِهَةِ قَوْمِي لِتَمَرُّدِهِمْ عَنِ الطّاعَةِ وزَجْرِهِمْ لِي عَنْ تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ، فانْتَصِرْ لِي: أيِ انْتَقِمْ لِي مِنهم. طَلَبَ مِن رَبِّهِ سُبْحانَهُ النُّصْرَةَ عَلَيْهِمْ لَمّا أيِسَ مِن إجابَتِهِمْ وعَلِمَ تَمَرُّدَهم وعُتُوَّهم وإصْرارَهم عَلى ضَلالَتِهِمْ. قَرَأ الجُمْهُورُ " أنِّي " بِفَتْحِ الهَمْزَةِ: أيْ بِأنِّي. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ، والأعْمَشُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ عاصِمٍ عَلى تَقْدِيرِ إضْمارِ القَوْلِ: أيْ فَقالَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما عاقَبَهم بِهِ فَقالَ: ﴿فَفَتَحْنا أبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ أيْ مَنصَبٍّ انْصِبابًا شَدِيدًا، والهَمْرُ: الصَّبُّ بِكَثْرَةٍ، يُقالُ: هَمَرَ الماءَ والدَّمْعَ يَهْمِرُ هَمْرًا وهُمُورًا: إذا كَثُرَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎أعَيْنَيَّ جُودا بِالدُّمُوعِ الهَوامِرِ ∗∗∗ عَلى خَيْرِ بادٍ مِن مَعَدٍّ وحاضِرِ ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ يَصِفُ عَيْنًا: ؎راحٌ تَمُرُّ بِهِ الصَّبا ثُمَّ انْتَحى ∗∗∗ فِيهِ بِشُؤْبُوبِ جَنُوبٍ مُنْهَمِرْ قَرَأ الجُمْهُورُ " فَتَحْنا " مُخَفَّفًا. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، ويَعْقُوبُ بِالتَّشْدِيدِ. ﴿وفَجَّرْنا الأرْضَ عُيُونًا﴾ أيْ جَعَلْنا الأرْضَ كُلَّها عُيُونًا مُتَفَجِّرَةً، والأصْلُ فَجَّرْنا عُيُونَ الأرْضِ. قَرَأ الجُمْهُورُ " فَجَّرْنا " بِالتَّشْدِيدِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو حَيْوَةَ، وعاصِمٌ في رِوايَةٍ عَنْهُ بِالتَّخْفِيفِ. قالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: أوْحى اللَّهُ إلى الأرْضِ أنْ تُخْرِجَ ماءَها فَتَفَجَّرَتْ بِالعُيُونِ ﴿فالتَقى الماءُ عَلى أمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ أيِ التَقى ماءُ السَّماءِ وماءُ الأرْضِ عَلى أمْرٍ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ: أيْ كائِنًا عَلى حالٍ قَدَّرَها اللَّهُ وقَضى بِها. وحَكى ابْنُ قُتَيْبَةَ أنَّ المَعْنى: عَلى مِقْدارٍ لَمْ يَزِدْ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ، بَلْ كانَ ماءُ السَّماءِ وماءُ الأرْضِ عَلى سَواءٍ. قالَ قَتادَةُ: قُدِّرَ لَهم إذْ كَفَرُوا أنْ يَغْرَقُوا. وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ " فالتَقى الماآنِ " وقَرَأ الحَسَنُ " فالتَقى الماوانِ " ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، ومُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. ﴿وحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ ألْواحٍ ودُسُرٍ﴾ أيْ وحَمَلْنا نُوحًا عَلى سَفِينَةٍ ذاتِ ألْواحٍ، وهي الأخْشابُ العَرِيضَةُ " ودُسُرٍ " قالَ الزَّجّاجُ: هي المَسامِيرُ الَّتِي تُشَدُّ بِها الألْواحُ واحِدُها دِسارٌ، وكُلُّ شَيْءٍ أُدْخِلَ في شَيْءٍ يَشُدُّهُ فَهو الدُّسُرُ، وكَذا قالَ قَتادَةُ، ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وابْنُ زَيْدٍ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وغَيْرُهم. وقالَ الحَسَنُ، وشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، وعِكْرِمَةُ: الدَّسُرُ ظَهْرُ السَّفِينَةِ الَّتِي يَضْرِبُها المَوْجُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها تَدْسُرُ الماءَ: أيْ تَدْفَعُهُ، والدَّسْرُ الدَّفْعُ. وقالَ اللَّيْثُ: الدِّسارُ خَيْطٌ تُشَدُّ بِهِ ألْواحُ السَّفِينَةِ. قالَ في الصِّحاحِ: الدِّسارُ واحِدُ الدَّسُرِ وهي خُيُوطٌ تُشَدُّ بِها ألْواحُ السَّفِينَةِ، ويُقالُ هي المَسامِيرُ. ﴿تَجْرِي بِأعْيُنِنا﴾ أيْ بِمَنظَرٍ ومَرْأًى مِنّا وحِفْظٍ لَها كَما في قَوْلِهِ: ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا﴾ [هود: ٣٧] وقِيلَ بِأمْرِنا، وقِيلَ بِوَحْيِنا، وقِيلَ بِالأعْيُنِ النّابِعَةِ مِنَ الأرْضِ، وقِيلَ بِأعْيُنِ أوْلِيائِنا مِنَ المَلائِكَةِ المُوَكَّلِينَ بِحِفْظِها ﴿جَزاءً لِمَن كانَ كُفِرَ﴾ قالَ الفَرّاءُ: فَعَلْنا بِهِ وبِهِمْ ما فَعَلْنا مِن إنْجائِهِ وإغْراقِهِمْ ثَوابًا لِمَن كَفَرَ بِهِ وجَحَدَ أمْرَهُ وهو نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإنَّهُ كانَ لَهم نِعْمَةٌ كَفَرُوها فانْتِصابُ " جَزاءً " عَلى العِلَّةِ، وقِيلَ عَلى المَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ: أيْ جازَيْناهم جَزاءً. قَرَأ الجُمْهُورُ " كُفِرَ " مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والمُرادُ بِهِ نُوحٌ. وقِيلَ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ، فَإنَّهم كَفَرُوا بِهِ وجَحَدُوا نِعْمَتَهُ. وقَرَأ يَزِيدُ بْنُ رُومانَ،، وقَتادَةُ،، ومُجاهِدٌ، وحُمَيْدٌ، وعِيسى " كَفَرَ " بِفَتْحِ الكافِ والفاءِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ: أيْ جَزاءً وعِقابًا لِمَن كَفَرَ بِاللَّهِ. ﴿ولَقَدْ تَرَكْناها آيَةً﴾ أيِ السَّفِينَةَ تَرْكَها اللَّهُ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وقِيلَ المَعْنى: ولَقَدْ تَرَكْنا هَذِهِ الفِعْلَةَ الَّتِي فَعَلْناها بِهِمْ عِبْرَةً ومَوْعِظَةً ﴿فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ أصْلُهُ " مُذْتَكِرٍ " فَأُبْدِلَتِ التّاءُ دالًا مُهْمَلَةً، ثُمَّ أُبْدِلَتِ المُعْجَمَةُ مُهْمَلَةً لِتَقارُبِهِما وأُدْغِمَتِ الدّالُ في الذّالِ، والمَعْنى: هَلْ مِن مُتَّعِظٍ ومُعْتَبِرٍ يَتَّعِظُ بِهَذِهِ الآيَةِ ويَعْتَبِرُ بِها. ﴿فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ﴾ أيْ إنْذارِي. قالَ الفَرّاءُ: الإنْذارُ والنُّذُرُ مَصْدَرانِ، والِاسْتِفْهامُ لِلتَّهْوِيلِ والتَّعْجِيبِ: أيْ كانا عَلى كَيْفِيَّةٍ هائِلَةٍ عَجِيبَةٍ لا يُحِيطُ بِها الوَصْفُ، وقِيلَ نُذُرٌ جَمْعُ نَذِيرٍ، ونَذِيرٌ بِمَعْنى الإنْذارِ كَنَكِيرٍ بِمَعْنى الإنْكارِ. ﴿ولَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ أيْ سَهَّلْناهُ لِلْحِفْظِ، وأعَنّا عَلَيْهِ مَن أرادَ حِفْظَهُ، وقِيلَ هَيَّأْناهُ لِلتَّذَكُّرِ والِاتِّعاظِ ﴿فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ أيْ مُتَّعِظٍ بِمَواعِظِهِ ومُعْتَبِرٍ بِعِبَرِهِ. وفِي الآيَةِ الحَثُّ عَلى دَرْسِ القُرْآنِ والِاسْتِكْثارِ مِن تِلاوَتِهِ والمُسارَعَةِ في تَعَلُّمِهِ ومُدَّكِرٌ أصْلُهُ مُذْتَكِرٌ كَما تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنْ أنَسٍ «أنَّ أهْلَ مَكَّةَ» سَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنْ يُرِيَهم آيَةً فَأراهُمُ القَمَرَ شِقَّتَيْنِ حَتّى رَأوْا حِراءً بَيْنَهُما. ورُوِيَ عَنْهُ مِن طَرِيقٍ أُخْرى عِنْدَ مُسْلِمٍ، والتِّرْمِذِيِّ وغَيْرِهِمْ قالَ: فَنَزَلَتِ ﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ﴾ وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «انْشَقَّ القَمَرُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ فَوْقَ الجَبَلِ، وفِرْقَةٌ دُونَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اشْهَدُوا» . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنْهُ قالَ: رَأيْتُ القَمَرَ مُنْشَقًا شِقَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِمَكَّةَ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ النَّبِيُّ ﷺ: شِقَّةٌ عَلى (p-١٤٢٩)أبِي قُبَيْسٍ، وشِقَّةٌ عَلى السُّوَيْداءِ. وذَكَرَ أنَّ هَذا سَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: رَأيْتُ القَمَرَ وقَدِ انْشَقَّ. وأبْصَرْتُ الجَبَلَ بَيْنَ فُرْجَتَيِ القَمَرِ. ولَهُ طَرُقٌ عَنْهُ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ﴾ قالَ: كانَ ذَلِكَ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ انْشَقَّ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ مِن دُونِ الجَبَلِ وفِرْقَةٌ خَلْفَهُ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ» . وأخْرَجَ أحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ، والبَيْهَقِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أبِيهِ في قَوْلِهِ: ﴿وانْشَقَّ القَمَرُ﴾ قالَ: «انْشَقَّ القَمَرُ ونَحْنُ بِمَكَّةَ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتّى صارَ فِرْقَةً عَلى هَذا الجَبَلِ وفِرْقَةً عَلى هَذا الجَبَلِ، فَقالَ النّاسُ: سَحَرَنا مُحَمَّدٌ، فَقالَ رَجُلٌ: إنْ كانَ سَحَرَكم فَإنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَسْحَرَ النّاسَ كُلَّهم» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في زَوائِدِ الزُّهْدِ وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قالَ: خَطَبَنا حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ بِالمَدائِنِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قالَ: ﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ﴾ ألا وإنَّ السّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، ألا وإنَّ القَمَرَ قَدِ انْشَقَّ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ألا وإنَّ الدُّنْيا قَدْ آذَنَتْ بِفِراقٍ، اليَوْمُ المِضْمارُ وغَدًا السِّباقُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: مُهْطِعِينَ قالَ: ناظِرِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ ﴿فَفَتَحْنا أبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ قالَ كَثِيرٌ: لَمْ تُمْطِرِ السَّماءُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ ولا بَعْدَهُ إلّا مِنَ السَّحابِ وفُتِحَتْ أبْوابُ السَّماءِ بِالماءِ مِن غَيْرِ سَحابٍ ذَلِكَ اليَوْمَ، فالتَقى الماآنِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أيْضًا ﴿عَلى ذاتِ ألْواحٍ ودُسُرٍ﴾ قالَ: الألْواحُ ألْواحُ السَّفِينَةِ، والدَّسُرُ: مَعارِيضُها الَّتِي تُشَدُّ بِها السَّفِينَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: " ودُسُرٍ " قالَ: المَسامِيرُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: الدَّسْرُ كَلْكَلُ السَّفِينَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ قالَ: لَوْلا أنَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ عَلى لِسانِ الآدَمِيِّينَ ما اسْتَطاعَ أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ أنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلامِ اللَّهِ. وأخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أنَسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ قالَ: هَلْ مِن مُتَذَكِّرٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب