الباحث القرآني
سُورَةُ الْقَمَرِ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) وَلَا يَصِحُّ عَلَى مَا يَأْتِي. وَهِيَ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ آيَةً.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ (اقْتَرَبَتِ) أَيْ قَرُبَتْ مِثْلُ أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [[راجع ص ١٢٢ من هذا الجزء.]] (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. فَهِيَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا مَضَى قَرِيبَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى أَكْثَرُ الدُّنْيَا كَمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ تَغِيبُ فَقَالَ: (مَا بَقِيَ مِنْ دُنْيَاكُمْ فِيمَا مَضَى إِلَّا مِثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ فِيمَا مَضَى) وَمَا نَرَى مِنَ الشَّمْسِ إِلَّا يَسِيرًا. وَقَالَ كَعْبٌ وَوَهْبٌ: الدُّنْيَا سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ. قَالَ وَهْبٌ: قَدْ مَضَى مِنْهَا خَمْسَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَسِتُّمِائَةِ سَنَةٍ. ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أَيْ وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ. وَكَذَا قَرَأَ حُذَيْفَةُ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ) بِزِيَادَةِ (قَدْ) وَعَلَى هَذَا الْجُمْهُورُ مِنَ العلماء، ثبت ذلك في صحيح الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ ﷺ آيَةً، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ فَنَزَلَتْ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إِلَى قَوْلِهِ: (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) يَقُولُ ذَاهِبٌ قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حديث حسن صحيح. ولفظ البخاري عن أنسى قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَقَعِ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ بَعْدُ وَهُوَ مُنْتَظَرٌ، أَيِ اقْتَرَبَ قِيَامُ السَّاعَةِ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَأَنَّ السَّاعَةَ إِذَا قَامَتِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْقَمَرِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَا قَالَ الْقُشَيْرِيُّ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا انْشَقَّ مَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا رَآهُ، لِأَنَّهُ آيَةٌ وَالنَّاسُ فِي الْآيَاتِ سَوَاءٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ فَإِذَا جَاءَتِ انْشَقَّ الْقَمَرُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. وَقِيلَ: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أَيْ وَضَحَ الْأَمْرُ وَظَهَرَ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ بِالْقَمَرِ مَثَلًا فِيمَا وَضَحَ، قَالَ:
أَقِيمُوا بَنِي أُمِّي صُدُورَ مَطِيِّكُمْ ... فَإِنِّي إِلَى حَيٍّ سِوَاكُمْ لَأَمْيَلُ
فَقَدْ حُمَّتِ الْحَاجَاتُ وَاللَّيْلُ مُقْمِرٌ ... وَشُدَّتْ لِطِيَّاتٍ مَطَايَا وَأَرْحُلُ
وَقِيلَ: انْشِقَاقُ الْقَمَرِ هُوَ انْشِقَاقُ [[في تفسير الجمل نقلا عن القرطبي: (زوال الظلمة).]] الظُّلْمَةِ عَنْهُ بِطُلُوعِهِ فِي أَثْنَائِهَا، كَمَا يُسَمَّى الصُّبْحُ فَلْقًا، لِانْفِلَاقِ الظُّلْمَةِ عَنْهُ. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ انْفِلَاقِهِ بِانْشِقَاقِهِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
فَلَمَّا أَدْبَرُوا وَلَهُمْ دَوِيٌّ ... دَعَانَا عِنْدَ شَقِّ الصُّبْحِ دَاعِ
قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ بِنَقْلِ الْآحَادِ الْعُدُولِ أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ بِمَكَّةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْتَوِيَ النَّاسُ فِيهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ آيَةً لَيْلِيَّةً، وَأَنَّهَا كَانَتْ بِاسْتِدْعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّحَدِّي. فَرُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ أَسْلَمَ غَضَبًا مِنْ سَبِّ أَبِي جَهْلٍ الرَّسُولَ ﷺ طَلَبَ أَنْ يُرِيَهُ آيَةً يَزْدَادُ بِهَا يَقِينًا فِي إِيمَانِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا وَطَلَبُوا أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ فِلْقَتَيْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ خَطَبَ بِالْمَدَائِنِ ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَأَنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّكُمْ ﷺ. وَقَدْ قِيلَ: هُوَ على التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَتَقْدِيرُهُ انْشَقَّ الْقَمَرُ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقَدْ مَرَّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ إِذَا كَانَا مُتَقَارِبَيِ الْمَعْنَى فَلَكَ أَنْ تُقَدِّمَ وَتُؤَخِّرَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) [[راجع ص ٨٩ من هذا الجزء.]].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا﴾ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوُا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَاشْقُقْ لَنَا الْقَمَرَ فِرْقَتَيْنِ، نِصْفٌ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَنِصْفٌ عَلَى قُعَيْقِعَانَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنْ فَعَلْتُ تُؤْمِنُونَ) قَالُوا: نَعَمْ؟ وَكَانَتْ لَيْلَةَ بَدْرٍ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا قَالُوا، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْنِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُنَادِي الْمُشْرِكِينَ: (يَا فُلَانُ يَا فُلَانُ اشْهَدُوا). وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا مِنْ سِحْرِ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، سَحَرَكُمْ فَاسْأَلُوا السُّفَّارَ، فَسَأَلُوهُمْ فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَا الْقَمَرَ انْشَقَّ فَنَزَلَتْ: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) أَيْ إِنْ يَرَوْا آيَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَعْرَضُوا عَنْ الْإِيمَانِ (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أَيْ ذَاهِبٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَّ الشَّيْءُ وَاسْتَمَرَّ إِذَا ذَهَبَ، قَالَهُ أَنَسٌ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ: مُحْكَمٌ قَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَهُوَ مِنَ الْمِرَّةِ وَهِيَ الْقُوَّةُ، كَمَا قَالَ لَقِيطٌ:
حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ ... مُرُّ الْعَزِيمَةِ لَا [قَحْمًا [[راجع هامش ص ٨٦ من هذا الجزء في شرح البيت.]]] وَلَا ضَرَعَا
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِمْرَارِ الْحَبْلِ وَهُوَ شِدَّةُ فَتْلِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُرٌّ مِنَ الْمَرَارَةِ. يُقَالُ: أَمَرَّ الشَّيْءَ صَارَ مُرًّا، وَكَذَلِكَ مَرَّ الشَّيْءُ [يَمُرُّ] بِالْفَتْحِ مَرَارَةٌ فَهُوَ مُرٌّ، وَأَمَرَّهُ غَيْرُهُ وَمَرَّهُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: مُسْتَمِرٌّ نَافِذٌ. يَمَانٌ: مَاضٍ. أَبُو عُبَيْدَةَ: بَاطِلٌ. وَقِيلَ: دَائِمٌ. قال [[البيت لامرى القيس وصدره:
الا انما الدنيا ليال وأعصر]]:
وليس على شي قويم بمستمر أَيْ بِدَائِمٍ. وَقِيلَ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، أَيْ قَدِ اسْتَمَرَّتْ أَفْعَالُ مُحَمَّدٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يَأْتِي بِشَيْءٍ لَهُ حَقِيقَةٌ بَلِ الْجَمِيعُ تَخْيِيلَاتٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَدْ مَرَّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ.
(وَكَذَّبُوا) نَبِيَّنَا (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أَيْ ضَلَالَاتَهُمْ وَاخْتِيَارَاتَهُمْ.
(وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أَيْ يَسْتَقِرُّ بِكُلِّ عَامِلٍ عَمِلَهُ، فَالْخَيْرُ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّرُّ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ فِي النَّارِ. وَقَرَأَ شيبة (مستقر) بفتح القاف، أي لكل شي وَقْتٌ يَقَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَالرَّاءِ جَعَلَهُ نَعْتًا لِأَمْرٍ وَ (كُلُّ) عَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ كَائِنٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالْعَطْفِ عَلَى السَّاعَةِ، الْمَعْنَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ، أَيِ اقْتَرَبَ اسْتِقْرَارُ الْأُمُورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ رَفَعَهُ جَعَلَهُ خَبَرًا عَنْ (كُلُّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ﴾ أَيْ مِنْ بَعْضِ الْأَنْبَاءِ، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ لَهُمْ فِيهِ شِفَاءٌ. وَقَدْ كَانَ هُنَاكَ أُمُورٌ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اقْتَصَّ عَلَيْنَا مَا عَلِمَ أَنَّ بِنَا إِلَيْهِ حَاجَةً وَسَكَتَ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ﴾ أَيْ جَاءَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ (مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أَيْ مَا يَزْجُرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ لَوْ قَبِلُوهُ. وَأَصْلُهُ مُزْتَجَرٌ فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا، لِأَنَّ التَّاءَ حَرْفٌ مَهْمُوسٌ وَالزَّايُ حَرْفٌ مَجْهُورٌ، فَأُبْدِلَ مِنَ التَّاءِ دَالًا تُوَافِقُهَا فِي الْمَخْرَجِ وَتُوَافِقُ الزَّايَ فِي الْجَهْرِ. وَ (مُزْدَجَرٌ) مِنَ الزَّجْرِ وَهُوَ الِانْتِهَاءُ، يُقَالُ: زَجَرَهُ وَازْدَجَرَهُ فَانْزَجَرَ وَازْدَجَرَ، وَزَجَرْتُهُ أَنَا فَانْزَجَرَ أَيْ كَفَفْتُهُ فَكَفَّ، كَمَا قَالَ:
فَأَصْبَحَ مَا يَطْلُبُ الْغَانِيَا ... تُ مُزْدَجَرًا عن هواه ازدجارا
وقرى (مُزَّجَرٌ) بِقَلْبِ تَاءِ الِافْتِعَالِ زَايًا وَإِدْغَامِ الزَّايِ فِيهَا، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) يَعْنِي الْقُرْآنَ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: (مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ). وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ حِكْمَةٌ.
(فَما تُغْنِ النُّذُرُ) إِذَا كَذَّبُوا وَخَالَفُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) [[راجع ج ٨ ص (٣٨٦)]] ف (فَما) نَفْيٌ أَيْ لَيْسَتْ تُغْنِي عَنْهُمُ النُّذُرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ، أَيْ فَأَيُّ شي تُغْنِي النُّذُرُ عَنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهَا. وَ (النُّذُرُ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَمْعُ نَذِيرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: هُوَ تَمَامُ الْكَلَامِ. ثُمَّ قال: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) الْعَامِلُ فِي (يَوْمَ) (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أَوْ (خُشَّعاً) أَوْ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرْ يَوْمَ. وَقِيلَ: عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْفَاءِ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ مِنْ جَوَابِ الْأَمْرِ، تَقْدِيرُهُ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي. وَقِيلَ: تَوَلَّ عَنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ فَقَدْ أَقَمْتَ الْحُجَّةَ وَأَبْصِرْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي. وَقِيلَ: أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُمْ وَعَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) وَيَنَالُهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ. وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: لَا تَسْأَلُ عَمَّا جَرَى عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَخْبَرْتُهُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ. وقيل: أي وكل أمر مستقر يوم يدعوا الدَّاعِي. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (نُكْرٌ) بِإِسْكَانِ الْكَافِ، وَضَمَّهَا الْبَاقُونَ وَهُمَا لُغَتَانِ كَعُسْرٍ وَعُسُرٍ وَشُغْلٍ وَشُغُلٍ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ الْفَظِيعُ الْعَظِيمُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالدَّاعِي هُوَ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ روي عن مجاهد وقتادة أنهما قرءا (إِلَى شَيْءٍ نُكِرَ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ.
(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) الْخُشُوعُ فِي الْبَصَرِ الْخُضُوعُ وَالذِّلَّةُ، وَأَضَافَ الْخُشُوعَ إِلَى الْأَبْصَارِ لِأَنَّ أَثَرَ الْعِزِّ وَالذُّلِّ يَتَبَيَّنُ فِي نَاظِرِ الْإِنْسَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) [[راجع ج ١٩ ص (١٩٤)]] وَقَالَ تَعَالَى: (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) [[راجع ج ١٥ ص ٤٥.]]. وَيُقَالُ: خَشَعَ وَاخْتَشَعَ إِذَا ذَلَّ. وَخَشَعَ بِبَصَرِهِ أَيْ غَضَّهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو (خَاشِعًا) بِالْأَلِفِ وَيَجُوزُ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ التَّوْحِيدُ، نَحْوُ: (خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ) وَالتَّأْنِيثُ نَحْوُ: (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) [[راجع ج ١٨ ص (٢٤٨)]] وَيَجُوزُ الْجَمْعُ نحو: (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) قال [[هو الحرث بن دوس الايادي، ويروى لابي دواد الايادي.]]:
وَشَبَابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بن معد
وَ (خُشَّعاً) جَمْعُ خَاشِعٍ وَالنَّصْبُ فِيهِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي (عَنْهُمْ) فَيَقْبُحُ الْوَقْفُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عَلَى (عَنْهُمْ). وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُضْمَرِ فِي (يَخْرُجُونَ) فيوقف على (عَنْهُمْ). وقرى (خُشَّعٌ أَبْصَارُهُمْ) عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، كَقَوْلِهِ: [
وَجَدْتُهُ [[الزيادة من اعراب القرآن للسمين.]] [حَاضِرَاهُ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
(يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أَيِ الْقُبُورُ وَاحِدُهَا جدث.
(كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ). وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [[راجع ج ٢٠ ص ١٦٥.]] فَهُمَا صِفَتَانِ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَحَدُهُمَا- عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ، يَخْرُجُونَ فَزِعِينَ لَا يَهْتَدُونَ أَيْنَ يَتَوَجَّهُونَ، فَيَدْخُلُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَهُمْ حِينَئِذٍ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ لَا جِهَةَ لَهُ يَقْصِدُهَا] الثَّانِي [[الزيادة من مفصل اعراب القرآن وغيره.]] [- فَإِذَا سَمِعُوا الْمُنَادِيَ قَصَدُوهُ فَصَارُوا كَالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ، لِأَنَّ الْجَرَادَ لَهُ جِهَةٌ يَقْصِدُهَا. وَ (مُهْطِعِينَ) مَعْنَاهُ مُسْرِعِينَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ:
بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ [[في اللسان: (أهلها).]] وَلَقَدْ أَرَاهُمْ ... بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِ
الضَّحَّاكُ: مُقْبِلِينَ. قَتَادَةُ: عَامِدِينَ. ابْنُ عَبَّاسٍ: نَاظِرِينَ. عِكْرِمَةُ: فَاتِحِينَ آذَانَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. يُقَالُ: هَطَعَ الرَّجُلُ يَهْطَعُ هُطُوعًا إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الشَّيْءِ بِبَصَرِهِ لَا يُقْلِعُ عَنْهُ، وَأَهْطَعَ إِذَا مَدَّ عُنُقَهُ وَصَوَّبَ رَأْسَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ [[قائله تبع.]]:
تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ أَرَى ... وونمر بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ وَمُهْطِعُ
وَبَعِيرٌ مُهْطِعٌ: فِي عُنُقِهِ تَصْوِيبٌ خِلْقَةً. وَأَهْطَعَ فِي عَدْوِهِ أَيْ أَسْرَعَ.
(يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَا يَنَالُهُمْ فِيهِ مِنَ الشدة.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ","وَإِن یَرَوۡا۟ ءَایَةࣰ یُعۡرِضُوا۟ وَیَقُولُوا۟ سِحۡرࣱ مُّسۡتَمِرࣱّ","وَكَذَّبُوا۟ وَٱتَّبَعُوۤا۟ أَهۡوَاۤءَهُمۡۚ وَكُلُّ أَمۡرࣲ مُّسۡتَقِرࣱّ","وَلَقَدۡ جَاۤءَهُم مِّنَ ٱلۡأَنۢبَاۤءِ مَا فِیهِ مُزۡدَجَرٌ","حِكۡمَةُۢ بَـٰلِغَةࣱۖ فَمَا تُغۡنِ ٱلنُّذُرُ","فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡۘ یَوۡمَ یَدۡعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَیۡءࣲ نُّكُرٍ","خُشَّعًا أَبۡصَـٰرُهُمۡ یَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ كَأَنَّهُمۡ جَرَادࣱ مُّنتَشِرࣱ","مُّهۡطِعِینَ إِلَى ٱلدَّاعِۖ یَقُولُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا یَوۡمٌ عَسِرࣱ"],"ayah":"حِكۡمَةُۢ بَـٰلِغَةࣱۖ فَمَا تُغۡنِ ٱلنُّذُرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق