الباحث القرآني

وهي مَكِّيَّةٌ كُلُّها، وقِيلَ نَزَلَتْ ما بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ وقْتَ الهِجْرَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ عَنْهُ وقَتادَةُ: إلّا أرْبَعَ آياتٍ. وأخْرَجَ النَّحّاسُ وأبُو الشَّيْخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ يُوسُفَ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ رِفاعَةَ بْنِ رافِعٍ الزُّرَقِيِّ: أنَّهُ خَرَجَ هو وابْنُ خالَتِهِ مُعاذُ بْنُ عَفْراءَ حَتّى قَدِما مَكَّةَ، وذَكَرَ قِصَّةً وفي آخِرِها أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَلَّمَهُما سُورَةَ يُوسُفَ، و﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: ١]، ثُمَّ رَجَعا. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ مِن طَرِيقِ الكَلْبِيِّ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ حَبْرًا مِنَ اليَهُودِ دَخَلَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، فَوافَقَهُ وهو يَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ مَن عَلَّمَكَها ؟ قالَ: اللَّهُ عَلَّمَنِيها، فَعَجِبَ الحَبْرُ لِما سَمِعَ مِنهُ، فَرَجَعَ إلى اليَهُودِ، فَقالَ لَهم: واللَّهِ إنَّ مُحَمَّدًا لَيَقْرَأُ القُرْآنَ كَما أُنْزِلَ في التَّوْراةِ، فانْطَلَقَ بِنَفَرٍ مِنهم حَتّى دَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ، ونَظَرُوا إلى خاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَجَعَلُوا سَمْعَهم إلى (p-٦٨٢)قِراءَتِهِ لِسُورَةِ يُوسُفَ فَتَعَجَّبُوا مِنهُ، وأسْلَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ» وأخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: " «عَلِّمُوا أقارِبَكم سُورَةَ يُوسُفَ، فَإنَّهُ أيُّما مُسْلِمٌ تَلاها أوْ عَلَّمَها أهْلَهُ وما مَلَكَتْ يَمِينُهُ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَكَراتَ المَوْتِ، وأعْطاهُ القُوَّةَ أنْ لا يَحْسُدَ مُسْلِمًا» . وفِي إسْنادِهِ سَلامُ بْنُ سالِمٍ، ويُقالُ ابْنُ سُلَيْمٍ المَدائِنِيُّ، وهو مَتْرُوكٌ عَنْ هارُونَ بْنِ كَثِيرٍ. قالَ أبُو حاتِمٍ: مَجْهُولٌ، وقَدْ ذَكَرَ لَهُ الحافِظُ ابْنُ عَساكِرَ مُتابِعًا مِن طَرِيقِ القاسِمِ بْنِ الحَكَمِ عَنْ هارُونَ بْنِ كَثِيرٍ، ومِن طَرِيقِ شَبابَةَ عَنْ مِجْلَزِ بْنِ عَبْدِ الواحِدِ البَصْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعانَ، وعَنْ عَطاءِ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وهو مُنْكَرٌ مِن جَمِيعِ طُرُقِهِ. قالَ القُرْطُبِيُّ: قالَ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ: «أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَتَلاهُ عَلَيْهِمْ زَمانًا، فَقالُوا: لَوْ حَدَّثْتَنا، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ﴾» [الزمر: ٢٣] قالَ: قالَ العُلَماءُ: وذَكَرَ اللَّهُ أقاصِيصَ الأنْبِياءِ في القُرْآنِ وكَرَّرَها بِمَعْنًى واحِدٍ في وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ بِألْفاظٍ مُتَبايِنَةٍ عَلى دَرَجاتِ البَلاغَةِ، وقَدْ ذَكَرَ قِصَّةَ يُوسُفَ ولَمْ يُكَرِّرْها، فَلَمْ يَقْدِرْ مُخالِفٌ عَلى مُعارَضَةِ ما تَكَرَّرَ، ولا عَلى مُعارَضَةِ غَيْرِ المُتَكَرِّرِ. * * * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . قَوْلُهُ: ﴿الر﴾ قَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِ في فاتِحَةِ سُورَةِ يُونُسَ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إلى آياتِ السُّورَةِ، والكِتابِ المُبِينِ: السُّورَةُ، أيْ تِلْكَ الآياتُ الَّتِي أُنْزِلَتْ إلَيْكَ في هَذِهِ السُّورَةِ آياتُ السُّورَةِ الظّاهِرِ أمْرُها في إعْجازِ العَرَبِ وتَبْكِيتِهِمْ، والمُبِينِ مِن أبانَ بِمَعْنى بانَ: أيِ الظّاهِرِ أمْرُهُ في كَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ وفي إعْجازِهِ، أوِ المُبِينِ بِمَعْنى الواضِحِ المَعْنى بِحَيْثُ لا يَلْتَبِسُ عَلى قارِئِهِ وسامِعِهِ، أوِ المُبَيِّنِ لِما فِيهِ مِنَ الأحْكامِ. ﴿إنّا أنْزَلْناهُ﴾ أيِ الكِتابَ المُبِينَ حالَ كَوْنِهِ ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾، فَعَلى تَقْدِيرِ أنَّ الكِتابَ السُّورَةُ تَكُونُ تَسْمِيَتُها قُرْآنًا بِاعْتِبارِ أنَّ القُرْآنَ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلى الكُلِّ وعَلى البَعْضِ، وعَلى تَقْدِيرِ أنَّ المُرادَ بِالكِتابِ كُلُّ القُرْآنِ، فَتَكُونُ تَسْمِيَتُهُ قُرْآنًا واضِحَةً، وعَرَبِيًا صِفَةٌ لَقُرْآنًا: أيْ عَلى لُغَةِ العَرَبِ ﴿لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ أيْ لِكَيْ تَعْلَمُوا مَعانِيَهُ وتَفْهَمُوا ما فِيهِ. ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ﴾ القَصَصُ تَتَبُّعُ الشَّيْءِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١]، أيْ تَتَبَّعِي أثَرَهُ وهو مَصْدَرٌ، والتَّقْدِيرُ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ قَصَصًا أحْسَنَ القَصَصِ، فَيَكُونُ بِمَعْنى الِاقْتِصاصِ، أوْ هو بِمَعْنى المَفْعُولِ: أيِ المَقْصُوصِ ﴿بِما أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ أيْ بِإيحائِنا إلَيْكَ ﴿هَذا القُرْآنَ﴾ وانْتِصابُ القُرْآنِ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِاسْمِ الإشارَةِ، أوْ بَدَلٌ مِنهُ، أوْ عَطْفُ بَيانٍ، وأجازَ الزَّجّاجُ الرَّفْعَ عَلى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، وأجازَ الفَرّاءُ الجَرَّ، ولَعَلَّ وجْهَهُ أنْ يُقَدَّرَ حَرْفُ الجَرِّ في بِما أوْحَيْنا داخِلًا عَلى اسْمِ الإشارَةِ، فَيَكُونُ المَعْنى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ بِهَذا القُرْآنِ ﴿وإنْ كُنْتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافِلِينَ﴾ إنْ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ بِدَلِيلِ اللّامِ الفارِقَةِ بَيْنَها وبَيْنَ النّافِيَةِ، والضَّمِيرُ في مِن قَبِلَهِ عائِدٌ عَلى الإيحاءِ المَفْهُومِ مَن أوْحَيْنا، والمَعْنى: أنَّكَ قَبْلَ إيحائِنا إلَيْكَ مِنَ الغافِلِينَ عَنْ هَذِهِ القِصَّةِ. واخْتُلِفَ في وجْهِ كَوْنِ ما في هَذِهِ السُّورَةِ هو أحْسَنُ القَصَصِ، فَقِيلَ: لِأنَّ ما في هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ القَصَصِ يَتَضَمَّنُ مِنَ العِبَرِ والمَواعِظِ والحِكَمِ ما لَمْ يَكُنْ في غَيْرِها، وقِيلَ لِما فِيها مِن حُسْنِ المُحاوَرَةِ وما كانَ مِن يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الصَّبْرِ عَلى أذاهم وعَفْوِهِ عَنْهم، وقِيلَ لِأنَّ فِيها ذِكْرَ الأنْبِياءِ والصّالِحِينَ والمَلائِكَةِ والشَّياطِينِ والجِنِّ والإنْسِ والأنْعامِ والطَّيْرِ وسِيَرِ المُلُوكِ والمَمالِيكِ والتُّجّارِ والعُلَماءِ والجُهّالِ والنِّساءِ وحِيَلِهِنَّ ومَكْرِهِنَّ، وقِيلَ لِأنَّ فِيها ذِكْرُ الحَبِيبِ والمَحْبُوبِ وما دارَ بَيْنَهُما، وقِيلَ إنَّ أحْسَنَ هُنا بِمَعْنى أعْجَبَ، وقِيلَ إنَّ كُلَّ مَن ذُكِرَ فِيها كانَ مَآلُهُ السَّعادَةَ. قَوْلُهُ: ﴿إذْ قالَ يُوسُفُ لِأبِيهِ﴾ إذْ مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ: أيِ اذْكُرْ وقْتَ قالَ يُوسُفُ. قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿يُوسُفُ﴾ بِضَمِّ السِّينِ، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِكَسْرِها مَعَ الهَمْزِ مَكانَ الواوِ، وحَكى ابْنُ زَيْدٍ الهَمْزَ وفَتْحَ السِّينِ، وهو غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعُجْمَةِ والعَلَمِيَّةِ، وقِيلَ هو عَرَبِيٌّ، والأوَّلُ أوْلى بِدَلِيلِ عَدَمِ صَرْفِهِ لِأبِيهِ أيْ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ ﴿ياأبَتِ﴾ بِكَسْرِ التّاءِ في قِراءَةِ أبِي عَمْرٍو وعاصِمٍ وحَمْزَةَ والكِسائِيِّ ونافِعٍ وابْنِ كَثِيرٍ، وهي عِنْدَ البَصْرِيِّينَ عَلامَةُ التَّأْنِيثِ، ولَحِقَتْ في لَفْظِ أبٍ في النِّداءِ خاصَّةً بَدَلًا مِنَ الياءِ وأصْلُهُ يا أبِي، وكَسْرُها لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّها عِوَضٌ عَنْ حَرْفٍ يُناسِبُ الكَسْرَ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ بِفَتْحِها، لِأنَّ الأصْلَ عِنْدَهُ يا أبَتا، ولا يُجْمَعُ بَيْنَ العِوَضِ والمُعَوَّضِ، فَيُقالُ يا أبَتِي، وأجازَ الفَرّاءُ يا أبَتُ بِضَمِّ التّاءِ ﴿إنِّي رَأيْتُ﴾ مِنَ الرُّؤْيا النَّوْمِيَّةِ لا مِنَ الرُّؤْيَةِ البَصَرِيَّةِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إخْوَتِكَ﴾ . قَوْلُهُ: ﴿أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ قُرِئَ بِسُكُونِ العَيْنِ تَخْفِيفًا لِتَوالِي الحَرَكاتِ، وقُرِئَ بِفَتْحِها عَلى الأصْلِ ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ﴾ إنَّما أخَّرَهُما عَنِ الكَواكِبِ لِإظْهارِ مَزِيَّتِهِما وشَرَفِهِما كَما في عَطْفِ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ عَلى المَلائِكَةِ، وقِيلَ إنَّ الواوَ بِمَعْنى مَعَ، وجُمْلَةُ ﴿رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ الحالَةِ الَّتِي رَآهم عَلَيْها، وأُجْرَيَتْ مُجْرى العُقَلاءِ في الضَّمِيرِ المُخْتَصِّ بِهِمْ لِوَصْفِها بِوَصْفِ العُقَلاءِ، وهو كَوْنُها ساجِدَةً كَذا قالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ، والعَرَبُ تَجْمَعُ ما لا يَعْقِلُ جَمْعَ مَن يَعْقِلُ إذا أنْزَلُوهُ مَنزِلَتَهُ. ﴿قالَ يابُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إخْوَتِكَ﴾ الرُّؤْيا (p-٦٨٣)مَصْدَرُ رَأى في المَنامِ رُؤْيا عَلى وزْنِ فُعْلى كالسُّقْيا والبُشْرى، وألِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ ولِذَلِكَ لَمْ يُصْرَفْ، نَهى يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ ابْنَهُ يُوسُفَ عَنْ أنْ يَقُصَّ رُؤْياهُ عَلى إخْوَتِهِ، لِأنَّهُ قَدْ عَلِمَ تَأْوِيلَها وخافَ أنْ يَقُصَّها عَلى إخْوَتِهِ فَيَفْهَمُونَ تَأْوِيلَها ويَحْصُلُ مِنهُمُ الحَسَدُ لَهُ، ولِهَذا قالَ: ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ وهَذا جَوابُ النَّهْيِ وهو مَنصُوبٌ بِإضْمارِ أنَّ: أيْ فَيَفْعَلُوا لَكَ: أيْ لِأجْلِكَ كَيْدًا مُثْبَتًا راسِخًا لا تَقْدِرُ عَلى الخُلُوصِ مِنهُ، أوْ كَيْدًا خَفِيًا عَنْ فَهْمِكَ، وهَذا المَعْنى الحاصِلُ بِزِيادَةِ اللّامِ آكَدُ مِن أنْ يُقالَ فَيَكِيدُوا كَيْدًا، وقِيلَ إنَّما جِيءَ بِاللّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنى الِاحْتِيالِ المُتَعَدِّي بِاللّامِ، فَيُفِيدُ هَذا التَّضْمِينُ مَعْنى الفِعْلَيْنِ جَمِيعًا الكَيْدَ والِاحْتِيالَ كَما هو القاعِدَةُ في التَّضْمِينِ أنْ يُقَدَّرَ أحَدُهُما أصْلًا والآخَرُ حالًا، وجُمْلَةُ ﴿إنَّ الشَّيْطانَ لِلْإنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ، كَأنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: كَيْفَ يَقَعُ مِنهم، فَنَبَّهَهُ بِأنَّ الشَّيْطانَ يَحْمِلُهم عَلى ذَلِكَ، لِأنَّهُ عَدُوٌّ لِلْإنْسانِ مُظْهِرٌ لِلْعَداوَةِ مُجاهِرٌ بِها. قَوْلُهُ ﴿وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ أيْ مِثْلَ ذَلِكَ الِاجْتِباءِ البَدِيعِ الَّذِي رَأيْتَهُ في النَّوْمِ مِن سُجُودِ الكَواكِبِ والشَّمْسِ والقَمَرِ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ، ويُحَقِّقُ فِيكَ تَأْوِيلَ تِلْكَ الرُّؤْيا، فَيَجْعَلُكَ نَبِيًّا ويَصْطَفِيكَ عَلى سائِرِ العِبادِ، ويُسَخِّرُهم لَكَ كَما تَسَخَّرَتْ لَكَ تِلْكَ الأجْرامُ الَّتِي رَأيْتَها في مَنامِكَ فَصارَتْ ساجِدَةً لَكَ، قالَ النَّحّاسُ: والِاجْتِباءُ أصْلُهُ مَن جَبَيْتُ الشَّيْءَ حَصَّلْتُهُ، ومِنهُ جَبَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ جَمَعْتُهُ، ومَعْنى الِاجْتِباءِ: الِاصْطِفاءُ، وهَذا يَتَضَمَّنُ الثَّناءَ عَلى يُوسُفَ وتَعْدِيدَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، ومِنها ﴿ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ أيْ تَأْوِيلِ الرُّؤْيا. قالَ القُرْطُبِيُّ: وأجْمَعُوا أنَّ ذَلِكَ في تَأْوِيلِ الرُّؤْيا، وقَدْ كانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ أعْلَمَ النّاسِ بِتَأْوِيلِها، وقِيلَ المُرادُ: ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ أحادِيثِ الأُمَمِ والكُتُبِ، وقِيلَ المُرادُ بِهِ إحْواجُ إخْوَتِهِ إلَيْهِ، وقِيلَ إنْجاؤُهُ مِن كُلِّ مَكْرُوهٍ، وقِيلَ إنْجاؤُهُ مِنَ القَتْلِ خاصَّةً ﴿ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ فَيَجْمَعُ لَكَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ والمُلْكِ كَما تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الرُّؤْيا الَّتِي أراكَ اللَّهُ، أوْ يَجْمَعُ لَكَ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيا والآخِرَةِ ﴿وعَلى آلِ يَعْقُوبَ﴾ وهم قَرابَتُهُ مِن إخْوَتِهِ وأوْلادِهِ ومَن بَعْدَهم، وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أعْطاهُمُ النُّبُوَّةَ كَما قالَهُ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى ما حَصَلَ لَهم بَعْدَ دُخُولِهِمْ مِصْرَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها كَوْنُ المُلْكِ فِيهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ أنْبِياءَ ﴿كَما أتَمَّها عَلى أبَوَيْكَ﴾، أيْ إتْمامًا مِثْلَ إتْمامِها عَلى أبَوَيْكَ: وهي نِعْمَةُ النُّبُوَّةِ عَلَيْهِما، مَعَ كَوْنِ إبْراهِيمَ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا، ومَعَ كَوْنِ إسْحاقَ نَجّاهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ مِنَ الذَّبْحِ وصارَ لَهُما الذُّرِّيَّةُ الطَّيِّبَةُ: وهم يَعْقُوبُ، ويُوسُفُ، وسائِرُ الأسْباطِ، ومَعْنى ﴿مِن أبِيكُمْ﴾ مِن قَبْلِ هَذا الوَقْتِ الَّذِي أنْتَ فِيهِ، أوْ مِن قَبْلِكَ، وإبْراهِيمَ وإسْحاقَ عَطْفُ بَيانٍ لِأبَوَيْكَ، وعَبَّرَ عَنْهُما بِالأبَوَيْنِ مَعَ كَوْنِ أحَدِهِما جَدًّا: وهو إبْراهِيمُ، لِأنَّ الجَدَّ أبٌ ﴿إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ﴾ بِكُلِّ شَيْءٍ حَكِيمٌ في كُلِّ أفْعالِهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها تَعْلِيلًا لَهُ: أيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأنَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وكانَ هَذا كَلامٌ مِن يَعْقُوبَ مَعَ ولَدِهِ يُوسُفَ تَعْبِيرًا لِرُؤْياهُ عَلى طَرِيقِ الإجْمالِ، أوْ عَلِمَ ذَلِكَ مِن طَرِيقِ الوَحْيِ، أوْ عَرَفَهُ بِطَرِيقِ الفِراسَةِ وما تَقْتَضِيهِ المَخايِلُ اليُوسُفِيَّةُ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ﴾ قالَ: بَيَّنَ اللَّهُ حَلالَهُ وحَرامَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُعاذٍ قالَ: بَيَّنَ اللَّهُ الحُرُوفَ الَّتِي سَقَطَتْ عَنْ ألْسُنِ الأعاجِمِ، وهي سِتَّةُ أحْرُفٍ. وأخْرَجَ الحاكِمُ عَنْ جابِرٍ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ تَلا قُرْآنًا عَرَبِيًّا ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: أُلْهِمَ إسْماعِيلُ هَذا اللِّسانَ العَرَبِيَّ إلْهامًا» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: نَزَلَ القُرْآنُ بِلِسانِ قُرَيْشٍ، وهو كَلامُهم. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالُوا يا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنا، فَنَزَلَتْ ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ﴾ قالَ: مِنَ الكُتُبِ الماضِيَةِ وأُمُورِ اللَّهِ السّالِفَةِ في الأُمَمِ، ﴿وإنْ كُنْتَ مِن قَبْلِهِ﴾ أيْ مِن قَبْلِ هَذا القُرْآنِ ﴿لَمِنَ الغافِلِينَ﴾ . وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحّاكِ ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ﴾ قالَ: القُرْآنَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ والحاكِمُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. فِي قَوْلِهِ: ﴿إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ قالَ: رُؤْيا الأنْبِياءِ وحْيٌ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ والبَزّارُ وأبُو يَعْلى وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والعُقَيْلِيُّ وابْنُ حِبّانَ في الضُّعَفاءِ وأبُو الشَّيْخِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وأبُو نُعَيْمٍ والبَيْهَقِيُّ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «جاءَ بُسْتانِيٌّ اليَهُودِيُّ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ أخْبَرَنِي عَنِ الكَواكِبِ الَّتِي رَآها يُوسُفُ ساجِدَةً لَهُ ما أسْماؤُها ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَأخْبَرَهُ بِأسْمائِها، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ إلى البُسْتانِيِّ اليَهُودِيِّ فَقالَ: هَلْ أنْتَ مُؤْمِنٌ إنْ أخْبَرْتُكَ بِأسْمائِها ؟ قالَ نَعَمْ، قالَ: خُرْثانُ، والطّارِقُ، والذَّيّالُ، وذُو الكَتِفانِ، وقابِسُ، ووَثّابُ، وعَمُودانُ، والفَيْلَقُ، والمُصْبِحُ، والضَّرُوحُ، وذُو الفَرْغِ، والضِّياءُ والنُّورُ: رَآها في أُفُقِ السَّماءِ ساجِدَةً لَهُ، فَلَمّا قَصَّ يُوسُفُ عَلى يَعْقُوبَ قالَ: هَذا أمْرٌ مُشَتَّتٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ مِن بَعْدُ، فَقالَ اليَهُودِيُّ: إي واللَّهِ إنَّها لَأسْماؤُها» هَكَذا ساقَهُ السُّيُوطِيُّ في الدَّرِّ المَنثُورِ، وأمّا ابْنُ كَثِيرٍ فَجَعَلَ قَوْلَهُ: فَلَمّا قَصَّ إلَخْ رِوايَةً مُنْفَرِدَةً وقالَ: تَفَرَّدَ بِها الحَكَمُ بْنُ ظَهِيرَةَ الفَزارِيُّ: وقَدْ ضَعَّفُوهُ وتَرَكَهُ الأكْثَرُونَ. وقالَ الجَوْزَجانِيُّ: ساقِطٌ. وقالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: هو مَوْضُوعٌ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ قالَ: إخْوَتُهُ، والشَّمْسُ قالَ: أُمُّهُ، والقَمَرُ قالَ: أبَوْهُ، وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ نَحْوَهُ أيْضًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ قالَ: يَصْطَفِيكَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجاهِدٍ (p-٦٨٤)﴿ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ قالَ: عِبارَةُ الرُّؤْيا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ﴿ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ قالَ: تَأْوِيلُ العِلْمِ والحُلْمِ، وكانَ يُوسُفُ مِن أعْبَرِ النّاسِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ﴿كَما أتَمَّها عَلى أبَوَيْكَ﴾ قالَ: فَنِعْمَتُهُ عَلى إبْراهِيمَ: أنْ نَجّاهُ مِنَ النّارِ، وعَلى إسْحاقَ: أنْ نَجّاهُ مِنَ الذَّبْحِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب