الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَتَجِدَنَّهم أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا يَوَدُّ أحَدُهم لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَةٍ وما هو بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذابِ أنْ يُعَمَّرَ واللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا أخْبَرَ عَنْهم في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ أنَّهم لا يَتَمَنَّوْنَ المَوْتَ أخْبَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهم في غايَةِ الحِرْصِ عَلى الحَياةِ لِأنَّ هَهُنا قِسْمًا ثالِثًا وهو أنْ يَكُونَ الإنْسانُ بِحَيْثُ لا يَتَمَنّى المَوْتَ ولا يَتَمَنّى (p-١٧٦)الحَياةَ فَقالَ: ﴿ولَتَجِدَنَّهم أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ﴾ ? . أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَتَجِدَنَّهُمْ﴾ فَهو مِن وجَدَ بِمَعْنى عَلِمَ المُتَعَدِّي إلى المَفْعُولَيْنِ في قَوْلِهِ: وجَدْتُ زَيْدًا ذا حِفاظٍ، ومَفْعُولاهُ ”هم“ و”أحْرَصَ“ وإنَّما قالَ: ﴿عَلى حَياةٍ﴾ بِالتَّنْكِيرِ لِأنَّهُ حَياةٌ مَخْصُوصَةٌ وهي الحَياةُ المُتَطاوِلَةُ ولِذَلِكَ كانَتِ القِراءَةُ بِها أوْقَعَ مِن قِراءَةِ أُبَيٍّ ”عَلى الحَياةِ“ أمّا الواوُ في قَوْلِهِ: ﴿ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ فَفِيهِ [ ثَلاثَةُ أقْوالٍ ]: أحَدُها: أنَّها واوُ عَطْفٍ والمَعْنى أنَّ اليَهُودَ أحْرَصُ النّاسِ عَلى حَياةٍ وأحْرَصُ مِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا كَقَوْلِكَ: هو أسْخى النّاسِ ومِن حاتِمٍ. هَذا قَوْلُ الفَرّاءِ والأصَمِّ. فَإنْ قِيلَ: ألَمْ يَدْخُلِ الَّذِينَ أشْرَكُوا تَحْتَ النّاسِ ؟ قُلْنا: بَلى ولَكِنَّهم أُفْرِدُوا بِالذِّكْرِ لِأنَّ حِرْصَهم شَدِيدٌ وفِيهِ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ لِأنَّ الَّذِينَ أشْرَكُوا لا يُؤْمِنُونَ بِالمَعادِ وما يَعْرِفُونَ إلّا الحَياةَ الدُّنْيا فَحِرْصُهم عَلَيْها لا يُسْتَبْعَدُ لِأنَّها جَنَّتُهم فَإذا زادَ عَلَيْهِمْ في الحِرْصِ مَن لَهُ كِتابٌ وهو مُقِرٌّ بِالجَزاءِ كانَ حَقِيقًا بِأعْظَمِ التَّوْبِيخِ، فَإنْ قِيلَ: ولِمَ زادَ حِرْصُهم عَلى حِرْصِ المُشْرِكِينَ ؟ قُلْنا: لِأنَّهم عَلِمُوا أنَّهم صائِرُونَ إلى النّارِ لا مَحالَةَ والمُشْرِكُونَ لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ هَذِهِ الواوَ واوُ اسْتِئْنافٍ وقَدْ تَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ”عَلى حَياةٍ“ [ و] تَقْدِيرُهُ ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا أُناسٌ يَوَدُّ أحَدُهم عَلى حَذْفِ المَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ: ﴿وما مِنّا إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤] . القَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا وتَقْدِيرُهُ: ولَتَجِدَنَّهم وطائِفَةً مِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذِهِ المَحَبَّةَ بِقَوْلِهِ: ﴿يَوَدُّ أحَدُهم لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ، والقَوْلُ الأوَّلُ أوْلى لِأنَّهُ إذا كانَتِ القِصَّةُ في شَأْنِ اليَهُودِ خاصَّةً فالألْيَقُ بِالظّاهِرِ أنْ يَكُونَ المُرادُ: ولَتَجِدَنَّ اليَهُودَ أحْرَصَ عَلى الحَياةِ مِن سائِرِ النّاسِ ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا لِيَكُونَ ذَلِكَ أبْلَغَ في إبْطالِ دَعْواهم وفي إظْهارِ كَذِبِهِمْ في قَوْلِهِمْ. إنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَنا لا لِغَيْرِنا واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ قِيلَ المَجُوسُ: لِأنَّهم كانُوا يَقُولُونَ لِمَلِكِهِمْ: عِشْ ألْفَ نَيْرُوزَ وألْفَ مِهْرَجانٍ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ هو قَوْلُ الأعاجِمِ: زِيُّ هَزارْسالَ، وقِيلَ: المُرادُ مُشْرِكُو العَرَبِ وقِيلَ: كُلُّ مُشْرِكٍ لا يُؤْمِنُ بِالمَعادِ، لِأنّا بَيَّنّا أنَّ حِرْصَ هَؤُلاءِ عَلى الدُّنْيا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ أكْثَرَ ولَيْسَ المُرادُ مِن ذِكْرِ ألْفِ سَنَةٍ قَوْلَ الأعاجِمِ عِشْ ألْفَ سَنَةٍ، بَلِ المُرادُ بِهِ التَّكْثِيرُ وهو مَعْرُوفٌ في كَلامِ العَرَبِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوَدُّ أحَدُهم لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ فالمُرادُ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ بُعْدَهم عَنْ تَمَنِّي المَوْتِ مِن حَيْثُ إنَّهم يَتَمَنَّوْنَ هَذا البَقاءَ ويَحْرِصُونَ عَلَيْهِ هَذا الحِرْصَ الشَّدِيدَ، ومَن هَذا حالُهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنهُ تَمَنِّي المَوْتِ ؟ * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما هو بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذابِ أنْ يُعَمَّرَ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: في أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما هُوَ﴾ كِنايَةٌ عَمّاذا ؟ فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ كِنايَةٌ عَنْ ”أحَدِهِمْ“ الَّذِي جَرى ذِكْرُهُ أيْ وما أحَدُهم بِمَن يُزَحْزِحُهُ مِنَ النّارِ تَعْمِيرُهُ. وثانِيها: أنَّهُ ضَمِيرٌ لِما دَلَّ عَلَيْهِ ”يُعَمَّرُ“ مِن مَصْدَرِهِ و(أنْ يُعَمَّرَ) بَدَلٌ مِنهُ. وثالِثُها: أنْ يَكُونَ مُبْهَمًا و(أنْ يُعَمَّرَ) مُوَضِّحُهُ.(p-١٧٧) المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الزَّحْزَحَةُ التَّبْعِيدُ والإنْحاءُ، قالَ القاضِي: والمُرادُ أنَّهُ لا يُؤَثِّرُ في إزالَةِ العَذابِ أقَلَّ تَأْثِيرٍ ولَوْ قالَ تَعالى: وما هو بِمُبْعِدِهِ وبِمُنْجِيهِ لَمْ يَدُلَّ عَلى قِلَّةِ التَّأْثِيرِ كَدَلالَةِ هَذا القَوْلِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ﴾ فاعْلَمْ أنَّ البَصَرَ قَدْ يُرادُ بِهِ العِلْمُ، يُقالُ: إنَّ لِفُلانٍ بَصَرًا بِهَذا الأمْرِ، أيْ مَعْرِفَةً، وقَدْ يُرادُ بِهِ أنَّهُ عَلى صِفَةٍ لَوْ وُجِدَتِ المُبْصَراتُ لَأبْصَرَها وكِلا الوَصْفَيْنِ يَصِحّانِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ إلّا أنَّ مَن قالَ: إنَّ في الأعْمالِ ما لا يَصِحُّ أنْ يُرى حُمِلَ هَذا البَصَرُ عَلى العِلْمِ لا مَحالَةَ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب