الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وّلَتَجِدَنَّهُم﴾ دخلت اللام والنون لأن القسم مضمر تقديره: والله لتجدنهم، فهو جواب القسم [["تفسيرالثعلبي" 1/ 1038.]]، فأكّد باللام والنون، وهذه النون إذا دخلت عَلَى (يفعل) فُتِحَ لدخولها، وبني الفعل معها على الفتح نحو: ليفعلنّ، وحذْفُ النون التي تَثبُت في نحو [[ساقطة من (م).]] يفعلان، في الرفع مع النون الشديدة [[يعني عند التوكيد فتقول: يفعلانِّ.]]، كحذف الضمة في (ليفعلن). ومَعناه: ولَتجدنّ اليهود، يعني: علماءهم، وهؤلاء الذين كتموا أمر محمد ﷺ عن عنَادٍ في حالِ دعائك إياهم إلى تمني الموت أحرص الناس على حياة؛ لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار إذا ماتوا في أمر محمدعليه السلام [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 178.]]. والحرص: شدّة الطَلَب، يقال: رجل حريصٌ، وقوم حِرَاص، ومِنْهُ: عليّ حِرَاصًا لَو يُسِرُّون مَقتَلي [[عجز بيت لامرئ القيس من معلقته في "شرح القصائد السبع الطوال" لابن الأنباري ص 49، وصدره: تجاوزتُ أحراسًا إليها ومعشرًا]] ومنه يقال: حَرَص القَصَّارُ الثوبَ، إذا ألحَّ في الدقِّ إلحاح الحَريص. والحَارِصَة: شَجّةٌ تشقّ الجلد قليلًا، كما يحرص القصَّار الثوب عند الدقّ [[ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 786، "اللسان" 2/ 835 (حرص).]]. وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ قال الفرّاء [[ينظر: "معاني القرآن" 1/ 62.]]، والزجَّاج [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 178.]]: أي، وأحرص من الذين أشركوا، وهذا كما يقال: هو أسخى الناس ومن هَرِم، أي: وأسخى من هَرِم. وحقيقة الإشراك: عبادة غير الله مع الله، وهو أن يجعَل عبادته مشتركةً بين الله وغيره، ثم يسمّى كلُّ كافر بالله مُشرِكًا من عظم ذنبه حتى ساوى به عظم ذنب المشرك في عبادة الله. وقال بعضهم [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 1039.]]: تم الكلامُ عند قوله: ﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾، ثم ابتدأ، فقال [[في (أ) و (ش): (قال).]]: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾، أي: من يود، فأضمر الموصول بيَوَدّ كقول ذي الرُمَّة: فظلوا وَمنهم [[ساقطة من (م).]] دمعُه سابقٌ له ... وآخرُ تُذري دمعَه العينُ بالهَملِ [[البيت في "ديوانه" ص 141، "تفسير الثعلبي" 1/ 1039، وبلا نسبة في "الدر" 2/ 66، و"همع الهوامع" 1/ 116. وينظر: "المعجم المفصل في شواهد اللغة" 6/ 563.]] أراد: ومنهم من دمعه سابق [["تفسير الثعلبي" 1/ 1039.]]. وهذا الوجه يضعف من جهتين: إحداهما: أن المراد بالآية بيان حرص اليهود على الحياة، فلا يحسن قطع الكلام عند قوله: ﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾ ثم الإخبار عن غيرهم بحب التعمير. والأخرى: أنه لا يجوز حذف الموصول وترك صلته، واستقصاء هذا مذكور عند قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ في سورة [النساء: 46] واختلفوا في المعْنيّ بقوله: الذين أشركوا، فقال أبو العالية [[أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 429، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 179.]]، والربيع [[أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 429.]]: هم المجوس، وإنما وصفوا بالإشراك؛ لأنهم يقولون بالنور والظلمة، وَيزدَان، وأَهرَمَن، وهم أيضًا موصوفون بالحرص على الحياة، ولهذا جعلوا التحيّة بينهم: زِه هَزَار [[في (ش): (هزاز).]] سَال، أي: عِشْ ألف سنة [[أخرج نحوه الثوري ص 47، والطبري في "تفسيره" 1/ 429 - 430، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 179 عن ابن عباس وسعيد بن جبير ورواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال: هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم: زه (يعني: زي، الأمر من مصدر "زيستن") هزار سال، يعني: عش ألف سنة، فمعنى زه: عش؛ وهزار: ألف، وسال: سنة.]]، وقال أبن عباس: أراد منكري البَعْث، ومن أنكر البَعث فهو يحب طول الحياة؛ لأنه لا يرجو بعثًا بعد الموت [[أخرجه الطبري 1/ 429، وابن أبي حاتم 1/ 179.]]. قال العلماء: وإنما كانت اليهود أحرص من الذين أشركوا؛ لأن المشركين لا يؤمنون بالمعاد، ولا يخافون النار، واليهود تؤمن، وقد علموا ما جَنَوا فهم يخافون النار [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 178، و"البحر" 1/ 313.]]. وقوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾، أي: أحد اليهود أن [[في (م): (لو يعمر).]] يعمر ألف سنة؛ لأنه يعلم أن آخرته قد فسدت عليه، فالبقاء في دار الدنيا آثر عنده من القدوم على العذاب الأليم. وقوله تعالى: ﴿يَوَدُّ﴾ يقال: وَدِدتُ أوَدّ، والمصدر: الوَدّ، والوُدّ، والوِداد، والوَدادة، أنشد الفرّاء [[نقله عن الفراء صاحب "اللسان" 8/ 4792، ولم أجده في "معاني القرآن" والظاهر أنه في المصادر للفراء.]]: ودِدت ودادَةً لو أَنّ حظّي ... مِنَ الخُلَّانِ أن لا يَصرمُوني [[البيت بلا نسبة في: "لسان العرب" 8/ 4793.]]. ويقال أيضًا: وَدَادًا بالفتح، ووِدَادَةً بالكسر، ويقلّ [[في (ش): (ونقل).]] هذان، واستقصاء هذا يذكر عند قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ [هود: 90] [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 179، "اللسان" 8/ 4793 (ودد)، "المفردات" للراغب 532، وقال: الود: محبة الشيء، وتمني كونه، ويستعمل في كل واحد من المعنيين.]]. وقوله تعالى: ﴿لَوْ يُعَمَّرُ﴾ يقال: عَمَّرَه الله تعميرًا، إذا أطال عمره، وأصله من العمارة، الذي هو ضدّ الخراب، والعُمُر: اسم للمدّة التي يُعَمَّرُ فيها البدن بالحياة والنمو [[ينظر: "المفردات" 350، "اللسان" 5/ 3099 (عمر).]]. وقوله تعالى: ﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾ سُمي الألف ألفًا، لأنه تأليف العشرات في عِقْدٍ، ويقال: ثلاثة آلاف إلى العشرة، ثم أُلُوف جمع الجمع، والألف مذكر، وإذا أُنِّثَ على أنه جمع فهو جائز، وكلام العرب فيه التذكير [[ينظر "تهذيب اللغة" 1/ 183، "المفردات" 30، "اللسان" 1/ 108 مادة (ألف).]]، وقال أبو عبيد: يقال: آلفتُ القوم، إذا جعلتهم ألفًا، وقد آلفوا هم، إذا صاروا ألفًا [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 183، "اللسان" 1/ 108.]]. وأما السنة فأصلها والكلام فيها يذكر عند قوله: ﴿لَمْ يَتَسَنَّه﴾ [البقرة: 259]. وخَصَّ الألف هاهُنا بالذكر: لأنه نهاية العُقُود، وقيل: لأنه نهاية ما كانت تدعُو بهِ المجوس لملوكها [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 178، "تفسير الطبري" 1/ 429، "تفسير الثعلبي" 1/ 1039، "زاد المسير" 1/ 117.]]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ﴾ الكناية راجعة إلى أحدهم، كأنه قيل: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره، كما تقول: ما عبد لله بضاربه أبوه. قال أبو إسحاق: ويصلح أن يكون هو كناية عما جرى ذكره من طول العمر، وهو قوله: (لو يعمر) فيكون: وما تعميره بمزحزحه [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 178.]]، والفعل يدل على المصدر، كقوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121] وإنه يريد إنأكله، وعلى هذا قوله: ﴿وأَن يُعَمَّرَ﴾ تكرير لذكر التعمير، فيكون كقوله: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ أعاد المصدر بعد ما كنى عنه [[ينظر: "البحر المحيط" 1/ 315.]]. وقال ابن الأنباري: يجوز أن يكون هو كناية عن الشأن والأمر في قول الكسائي، والمعنى عنده: وما الشأن بمزحزحه من العذاب أن يعمَّر [[وأجاز هذا الوجه أبو علي كما في "البحر المحيط" 1/ 315، وقال في التبيان 1/ 78: ولا يجوز أن يكون هو ضمير الشأن لأن المفسر لضمير الشأن مبتدأ وخبر، ودخول الباء في بمزحزحه يمنع من ذلك.]]. قال: ويجوز أن يكون عمادًا في قول الفراء. والعرب تدخل (هو) للعماد مع (ما) في الجحد و (هل) و (واو الحال)، فيقولون: هل هو قائم عبد الله؟ وما هو بقائم زيد، ولقيت محمدًا وهو حسن وجهه [["معاني القرآن" للفراء 1/ 51 - 52، وينظر أيضًا: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 179، و"التبيان" 1/ 78.]]. واحتج بما أنشده الفراء: فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بما هاهنا رأسُ [[ذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 51 - 52 فقال: وأنشدني بعض العرب، والأبيات: فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيتهَ ... على العِيسِ فىِ آباطِها عَرَقٌ يَبْسُ بأن السُّلامِيَّ الذي بضَرِيَّةٍ ... أميَر الحِمَى قد باع حقي بني عبسِ بثوبٍ ودينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ ... فهل هو مرفوع بما هاهنا رأسُ]] من أبيات ذكرها [[ابن الأنباري. قال في "البحر المحيط" 1/ 316: وتلخص في هذا القول الضمير، أهو عائد على أحدهم أو على المصدر المفهوم من يعمر، أو على ما بعده من قوله: أن يعمر أو هو ضمير الشأن، أو عماد، أقوال خمسة أظهرها الأول.]]. والزحزحة الإبعاد والتنحية، يقال: زحّه وزحزحه فتزحزح: إذا تنحى [[ينظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 179، "البحر المحيط" 1/ 298، "اللسان" 3/ 1816، "القاموس" 222.]]. وقوله تعالى: ﴿أَن يُعَمَّرَ﴾ في موضع رفع بمزحزحه كما يرتفع الفاعل بالفعل؛ لأن المعنى: ما يزحزحه تعميره [[ينظر: "البحر المحيط" 1/ 315 قال: وأجازوا أن يكون هو ضميرًا عائدًا على المصدر المفهوم من قوله: لو يعمر. وأن يعمر بدل منه، وارتفاع هو على وجهين من كونه اسم ما، أو مبتدأ.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب