الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا أمَرَهم بِالإيمانِ أوَّلًا ثُمَّ نَهاهم عَنْ لَبْسِ الحَقِّ بِالباطِلِ وكِتْمانِ دَلائِلِ النُّبُوَّةِ ثانِيًا، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيانَ ما لَزِمَهم مِنَ الشَّرائِعِ، وذَكَرَ مِن جُمْلَةِ الشَّرائِعِ ما كانَ كالمُقَدَّمِ، والأصْلُ فِيها وهو الصَّلاةُ الَّتِي هي أعْظَمُ العِباداتِ البَدَنِيَّةِ والزَّكاةُ الَّتِي هي أعْظَمُ العِباداتِ المالِيَّةِ وهَهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: القائِلُونَ بِأنَّهُ لا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيانِ المُجْمَلِ عَنْ وقْتِ الخِطابِ قالُوا: إنَّما جاءَ الخِطابُ في قَوْلِهِ: ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ بَعْدَ أنْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ وصَفَ لَهم أرْكانَ الصَّلاةِ وشَرائِطَها فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: وأقِيمُوا الصَّلاةَ الَّتِي عَرَفْتُمُوها والقائِلُونَ بِجَوازِ التَّأْخِيرِ قالُوا: يَجُوزُ أنْ يُرادَ الأمْرُ بِالصَّلاةِ وإنْ كانُوا لا يَعْرِفُونَ أنَّ الصَّلاةَ ما هي ويَكُونُ المَقْصُودُ أنْ يُوَطِّنَ السّامِعُ نَفْسَهُ عَلى الِامْتِثالِ، وإنْ كانَ لا يَعْلَمُ أنَّ المَأْمُورَ بِهِ ما هو كَما أنَّهُ لا نِزاعَ في أنْ يَحْسُنَ مِنَ السَّيِّدِ أنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: إنِّي آمُرُكَ غَدًا بِشَيْءٍ فَلا بُدَّ وأنْ تَفْعَلَهُ ويَكُونُ غَرَضُهُ مِنهُ بِأنْ يَعْزِمَ العَبْدُ في الحالِ عَلى أدائِهِ في الوَقْتِ الثّانِي. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: الصَّلاةُ مِنَ الأسْماءِ الشَّرْعِيَّةِ قالُوا: لِأنَّها أمْرٌ حَدَثَ في الشَّرْعِ فاسْتَحالَ أنْ يَكُونَ الِاسْمُ المَوْضُوعُ قَدْ كانَ حاصِلًا قَبْلَ الشَّرْعِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في وجْهِ التَّشْبِيهِ فَقالَ بَعْضُهم: أصْلُها في اللُّغَةِ الدُّعاءُ. قالَ الأعْشى: (p-٤٢) ؎عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فاعْتَصِمِي عَيْنًا فَإنَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجِعا وقالَ آخَرُ: ؎وقابَلَها الرِّيحُ في دَنِّها ∗∗∗ وصَلّى عَلى دَنِّها وارْتَسَمَ وقالَ بَعْضُهم: الأصْلُ فِيها اللُّزُومُ قالَ الشّاعِرُ: ؎لَمْ أكُنْ مِن جُناتِها عَلِمَ اللَّهُ ∗∗∗ وإنِّي بَحْرَها اليَوْمَ صالِي أيْ مُلازِمٌ، وقالَ آخَرُونَ: بَلْ هي مَأْخُوذَةٌ مِنَ المُصَلِّي وهو الفَرَسُ الَّذِي يَتْبَعُ غَيْرَهُ. والأقْرَبُ أنَّها مَأْخُوذَةٌ مِنَ الدُّعاءِ؛ إذْ لا صَلاةَ إلّا ويَقَعُ فِيها الدُّعاءُ أوْ ما يَجْرِي مَجْراهُ، وقَدْ تَكُونُ صَلاةً ولا يَحْصُلُ فِيها مُتابَعَةُ الغَيْرِ، وإذا حَصَلَ في وجْهِ التَّشْبِيهِ ما عَمَّ كُلَّ الصُّوَرِ كانَ أوْلى أنْ يُجْعَلَ وجْهُ التَّشْبِيهِ شَيْئًا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الصُّوَرِ. وقالَ أصْحابُنا مِنَ المَجازاتِ المَشْهُورَةِ في اللُّغَةِ إطْلاقُ اسْمِ الجُزْءِ عَلى الكُلِّ، ولَمّا كانَتِ الصَّلاةُ الشَّرْعِيَّةُ مُشْتَمِلَةً عَلى الدُّعاءِ لا جَرَمَ أُطْلِقَ اسْمُ الدُّعاءِ عَلَيْها عَلى سَبِيلِ المَجازِ، فَإنْ كانَ مُرادُ المُعْتَزِلَةِ مِن كَوْنِها اسْمًا شَرْعِيًّا هَذا. فَذَلِكَ حَقٌّ، وإنْ كانَ المُرادَ أنَّ الشَّرْعَ ارْتَجَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ ابْتِداءً لِهَذا المُسَمّى فَهو باطِلٌ وإلّا لَما كانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَرَبِيَّةً، وذَلِكَ يُنافِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [يوسف: ٢٠] أمّا الزَّكاةُ فَهي في اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ النَّماءِ، يُقالُ: زَكا الزَّرْعُ إذا نَما، وعَنِ التَّطْهِيرِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً﴾ [الكهف: ٧٤] أيْ طاهِرَةً. وقالَ: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى﴾ [الأعلى: ١٤] أيْ تَطَهَّرَ، وقالَ: ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ ما زَكا مِنكم مِن أحَدٍ أبَدًا﴾ [النور: ٢١] وقالَ: ﴿ومَن تَزَكّى فَإنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: ١٨] أيْ تَطَهَّرَ بِطاعَةِ اللَّهِ، ولَعَلَّ إخْراجَ نِصْفِ دِينارٍ مِن عِشْرِينَ دِينارًا سُمِّيَ بِالزَّكاةِ تَشْبِيهًا بِهَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، لِأنَّ في إخْراجِ ذَلِكَ القَدْرِ تَنْمِيَةً لِلْبَقِيَّةِ مِن حَيْثُ البَرَكَةُ، فَإنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ البَلاءَ عَنْ ذَلِكَ المالِ بِسَبَبِ تَزْكِيَةِ تِلْكَ العَطِيَّةِ، فَصارَ ذَلِكَ الإعْطاءُ نَماءً في المَعْنى وإنْ كانَ نُقْصانًا في الصُّورَةِ، ولِهَذا قالَ ﷺ: ”«عَلَيْكم بِالصَّدَقَةِ فَإنَّ فِيها سِتَّ خِصالٍ، ثَلاثَةً في الدُّنْيا وثَلاثَةً في الآخِرَةِ، فَأمّا الَّتِي في الدُّنْيا فَتَزِيدُ في الرِّزْقِ وتُكْثِرُ المالَ وتُعَمِّرُ الدِّيارَ، وأمّا الَّتِي في الآخِرَةِ فَتَسْتُرُ العَوْرَةَ وتَصِيرُ ظِلًّا فَوْقَ الرَّأْسِ وتَكُونُ سِتْرًا في النّارِ» “ . ويَجُوزُ أنْ تُسَمّى الزَّكاةُ بِالوَجْهِ الثّانِي مِن حَيْثُ إنَّها تُطَهِّرُ مُخْرِجَ الزَّكاةِ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ، ولِهَذا قالَ تَعالى لِنَبِيِّهِ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ [التوبة: ١٠٣] . * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ خِطابٌ مَعَ اليَهُودِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الكُفّارَ مُخاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرائِعِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ اليَهُودَ لا رُكُوعَ في صَلاتِهِمْ فَخَصَّ اللَّهُ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ تَحْرِيضًا لَهم عَلى الإتْيانِ بِصَلاةِ المُسْلِمِينَ. وثانِيها: أنَّ المُرادَ صَلُّوا مَعَ المُصَلِّينَ، وعَلى هَذا يَزُولُ التَّكْرارُ؛ لِأنَّ في الأوَّلِ أمَرَ تَعالى بِإتْقانِها، وأمَرَ في الثّانِي بِفِعْلِها في الجَماعَةِ. وثالِثُها: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأمْرِ بِالرُّكُوعِ هو الأمْرَ بِالخُضُوعِ؛ لِأنَّ الرُّكُوعَ والخُضُوعَ في اللُّغَةِ سَواءٌ، فَيَكُونُ نَهْيًا عَنِ الِاسْتِكْبارِ المَذْمُومِ وأمْرًا بِالتَّذَلُّلِ كَما قالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] وكَقَوْلِهِ تَأْدِيبًا لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿واخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٥] وكَمَدْحِهِ لَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهم ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِن حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٥٩] وهَكَذا في قَوْلِهِ تَعالى: (p-٤٣)﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم راكِعُونَ﴾ [المائدة: ٥٥] فَكَأنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَهم بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ أمَرَهم بَعْدَ ذَلِكَ بِالِانْقِيادِ والخُضُوعِ وتَرْكِ التَّمَرُّدِ. وحَكى الأصَمُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ إنَّما أمَرَ اللَّهُ تَعالى بَنِي إسْرائِيلَ بِالزَّكاةِ؛ لِأنَّهم كانُوا لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ [المائدة: ٦٢] وبِقَوْلِهِ: ”وأكْلِهِمُ الرِّبا“ ﴿وأكْلِهِمْ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ﴾ [النساء: ١٦٦] فَأظْهَرَ اللَّهُ تَعالى في هَذا المَوْضِعِ ما كانَ مَكْتُومًا لِيَحْذَرُوا أنْ يَفْضَحَهم في سائِرِ أسْرارِهِمْ ومَعاصِيهِمْ، فَيَصِيرُ هَذا كالإخْبارِ عَنِ الغَيْبِ الَّذِي هو أحَدُ دَلائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب