الباحث القرآني

(p-١٨٠)وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: (وتَكْتُمُونَ الحَقَّ)، وخُرِّجَ عَلى أنَّها جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: كاتِمِينَ، وهو تَقْدِيرُ مَعْنًى لا تَقْدِيرُ إعْرابٍ؛ لِأنَّ الجُمْلَةَ المُثْبَتَةَ المُصَدَّرَةَ بِمُضارِعٍ، إذا وقَعَتْ حالًا لا تَدْخُلُ عَلَيْها الواوُ، والتَّقْدِيرُ الإعْرابِيُّ هو أنْ تُضْمِرَ قَبْلَ المُضارِعِ هُنا مُبْتَدَأً تَقْدِيرُهُ: وأنْتُمْ تَكْتُمُونَ الحَقَّ، ولا يَظْهَرُ تَخْرِيجُ هَذِهِ القِراءَةِ عَلى الحالِ؛ لِأنَّ الحالَ قَيْدٌ في الجُمْلَةِ السّابِقَةِ، وهم قَدْ نُهُوا عَنْ لَبْسِ الحَقِّ بِالباطِلِ، عَلى كُلِّ حالٍ فَلا يُناسِبُ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالحالِ، إلّا أنْ تَكُونَ الحالُ لازِمَةً، وذَلِكَ أنْ يُقالَ: لا يَقَعُ لَبْسُ الحَقِّ بِالباطِلِ إلّا ويَكُونُ الحَقُّ مَكْتُومًا، ويُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ القِراءَةِ عَلى وجْهٍ آخَرَ، وهو أنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ نَعى عَلَيْهِمْ كَتْمَهُمُ الحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ أنَّهُ حَقٌّ، فَتَكُونُ الجُمْلَةُ الخَبَرِيَّةُ عُطِفَتْ عَلى جُمْلَةِ النَّهْيِ، عَلى مَن يَرى جَوازَ ذَلِكَ، وهو سِيبَوَيْهِ وجَماعَةٌ، ولا يُشْتَرَطُ التَّناسُبُ في عَطْفِ الجُمَلِ، وكِلا التَّخْرِيجَيْنِ تَخْرِيجُ شُذُوذٍ. والحَقُّ الَّذِي كَتَمُوهُ هو أمْرُ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وأبُو العالِيَةِ، والسُّدِّيُّ، ومُقاتِلٌ، أوِ الإسْلامُ، قالَهُ الحَسَنُ، أوْ يَكُونُ الحَقُّ عامًّا فَيَنْدَرِجُ فِيهِ أمْرُ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، والقُرْآنُ، وما جاءَ بِهِ، ﷺ، وكِتْمانُهُ أنَّهم كانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ ويُظْهِرُونَ خِلافَهُ. ﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢] جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، ومَفْعُولُ (تَعْلَمُونَ) مَحْذُوفٌ اقْتِصارًا، إذِ المَقْصُودُ: وأنْتُمْ مِن ذَوِي العِلْمِ، فَلا يُناسِبُ مَن كانَ عالِمًا أنْ يَكْتُمَ الحَقَّ ويُلْبِسَهُ بِالباطِلِ، وقَدْ قَدَّرُوا حَذْفَهُ حَذْفَ اخْتِصارٍ، وفِيهِ أقاوِيلُ سِتَّةٌ: أحَدُها: وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ مَذْكُورٌ هو وصِفَتُهُ في التَّوْراةِ، ﷺ . الثّانِي: وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ البَعْثَ والجَزاءَ. الثّالِثُ: وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ لِلنّاسِ قاطِبَةً. الرّابِعُ: وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ الحَقَّ مِنَ الباطِلِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ في حالِ عِلْمِكم أنَّكم لابِسُونَ كاتِمُونَ، فَجَعَلَ مَفْعُولَ العِلْمِ اللَّبْسَ والكَتْمَ المَفْهُومَيْنِ مِنَ الفِعْلَيْنِ السّابِقَيْنِ، قالَ: وهو أقْبَحُ؛ لِأنَّ الجَهْلَ بِالقَبِيحِ رُبَّما عُذِرَ راكِبُهُ. انْتَهى. فَكانَ ما قَدَّرَهُ هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ قُبْحَ أوْ تَحْرِيمَ اللَّبْسِ والكَتْمِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢] جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ، ولَمْ يَشْهَدْ تَعالى لَهم بِعِلْمٍ، وإنَّما نَهاهم عَنْ كِتْمانِ ما عَلِمُوا. انْتَهى. ومَفْهُومُ كَلامِهِ أنَّ مَفْعُولَ (تَعْلَمُونَ) هو (الحَقَّ) كَأنَّهُ قالَ: ولا تَكْتُمُوا الحَقَّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَهُ؛ لِأنَّ المَكْتُومَ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وغَيْرَ حَقٍّ فَإذا كانَ حَقًّا وعَلِمَ أنَّهُ حَقٌّ كانَ كِتْمانُهُ لَهُ أشَدَّ (وأعْظَمَ) ذَنْبًا؛ لِأنَّ العاصِيَ عَلى عِلْمٍ أعْصى مِنَ الجاهِلِ العاصِي. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ شَهادَةً عَلَيْهِمْ بِعِلْمِ حَقٍّ مَخْصُوصٍ في أمْرِ مُحَمَّدٍ، ﷺ، ولَمْ يَشْهَدْ لَهم بِعِلْمٍ عَلى الإطْلاقِ. قالَ: ولا تَكُونُ الجُمْلَةُ عَلى هَذا في مَوْضِعِ الحالِ. انْتَهى. يَعْنِي أنَّ الجُمْلَةَ تَكُونُ مَعْطُوفَةً، وإنْ كانَتْ ثُبُوتِيَّةً عَلى ما قَبْلَها مِن جُمْلَةِ النَّهْيِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ مُناسِبَةً في الإخْبارِ، عَلى ما قَرَّرْناهُ مِنَ الكَلامِ في تَخْرِيجِنا لِقِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وتَكْتُمُونَ. والأظْهَرُ مِن هَذِهِ الأقاوِيلِ ما قَدَّمْناهُ أوَّلًا، مِن كَوْنِ العِلْمِ حُذِفَ مَفْعُولُهُ حَذْفَ اقْتِصارٍ؛ إذِ المَقْصُودُ أنَّ مَن كانَ مِن أهْلِ العِلْمِ والِاطِّلاعِ عَلى ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، لا يَصْلُحُ لَهُ لَبْسُ الحَقِّ بِالباطِلِ ولا كِتْمانُهُ، وهَذِهِ الحالُ وإنْ كانَ ظاهِرُها أنَّها قَيْدٌ في النَّهْيِ عَنِ اللَّبْسِ والكَتْمِ، فَلا تَدُلُّ بِمَفْهُومِها عَلى جَوازِ اللَّبْسِ والكَتْمِ حالَةَ الجَهْلِ؛ لِأنَّ الجاهِلَ بِحالِ الشَّيْءِ لا يَدْرِي كَوْنَهُ حَقًّا أوْ باطِلًا، وإنَّما فائِدَتُها: أنَّ الإقْدامَ عَلى الأشْياءِ القَبِيحَةِ مَعَ العِلْمِ بِها أفْحَشُ مِنَ الإقْدامِ عَلَيْها مَعَ الجَهْلِ بِها. وقالَ القُشَيْرِيُّ: لا تَتَوَهَّمُوا أنْ يَلْتَئِمَ لَكم جَمْعُ الضِّدَّيْنِ والكَوْنُ في حالَةٍ واحِدَةٍ في مَحَلَّيْنِ، فَإمّا مَبْسُوطَةٌ بِحَقٍّ، وإمّا مَرْبُوطَةٌ بِحَطٍّ، ولا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالباطِلِ، تَدْلِيسٌ، وتَكْتُمُوا الحَقَّ تَلْبِيسٌ، وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ حَقَّ الحَقِّ تَقْدِيسٌ. انْتَهى. وفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ أنَّ العالِمَ بِالحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ إظْهارُهُ، ويَحْرُمُ عَلَيْهِ كِتْمانُهُ. وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذا في أوَّلِ السُّورَةِ في قَوْلِهِ: ﴿ويُقِيمُونَ (p-١٨١)الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ [التوبة: ٧١]، ويَعْنِي بِذَلِكَ صَلاةَ المُسْلِمِينَ وزَكاتَهم، فَقِيلَ: هي الصَّلاةُ المَفْرُوضَةُ، وقِيلَ: جِنْسُ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، قِيلَ: أرادَ المَفْرُوضَةَ، وقِيلَ: صَدَقَةُ الفِطْرِ، وهو خِطابٌ لِلْيَهُودِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الكُفّارَ مُخاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. قالَ القُشَيْرِيُّ: ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾: احْفَظُوا أدَبَ الحَضْرَةِ، فَحِفْظُ الأدَبِ لِلْخِدْمَةِ مِنَ الخِدْمَةِ، وآتُوا الزَّكاةَ، زَكاةَ الهِمَمِ، كَما تُؤَدّى زَكاةُ النِّعَمِ، قالَ قائِلُهم: ؎كُلُّ شَيْءٍ لَهُ زَكاةٌ تُؤَدّى وزَكاةُ الجَمالِ رَحْمَةُ مِثْلِي ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ خِطابٌ لِلْيَهُودِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالرُّكُوعِ: الِانْقِيادُ والخُضُوعُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ: الرُّكُوعُ المَعْرُوفُ في الصَّلاةِ، وأُمِرُوا بِذَلِكَ وإنْ كانَ الرُّكُوعُ مُنْدَرِجًا في الصَّلاةِ الَّتِي أُمِرُوا بِإقامَتِها؛ لِأنَّهُ رُكُوعٌ في صَلاتِهِمْ، فَنَبَّهَ بِالأمْرِ بِهِ، عَلى أنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ في صَلاةِ المُسْلِمِينَ، وقِيلَ: كَنى بِالرُّكُوعِ عَنِ الصَّلاةِ: أيْ وصَلُّوا مَعَ المُصَلِّينَ، كَما يُكْنى عَنْها بِالسَّجْدَةِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِالجُزْءِ، ويَكُونُ في قَوْلِهِ (مَعَ) دَلالَةٌ عَلى إيقاعِها في جَماعَةٍ؛ لِأنَّ الأمْرَ بِإقامَةِ الصَّلاةِ أوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِيها إيقاعُها في جَماعَةٍ. والرّاكِعُونَ: قِيلَ النَّبِيُّ، ﷺ، وأصْحابُهُ، وقِيلَ: أرادَ الجِنْسَ مِنَ الرّاكِعِينَ. وفِي هَذِهِ الجُمَلِ، وإنْ كانَتْ مَعْطُوفاتٍ بِالواوِ، الَّتِي لا تَقْتَضِي في الوَضْعِ تَرْتِيبًا، تَرْتِيبٌ عَجِيبٌ، مِن حَيْثُ الفَصاحَةِ وبِناءِ الكَلامِ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ؛ وذَلِكَ أنَّهُ تَعالى أمَرَهم أوَّلًا بِذِكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي أنْعَمَها عَلَيْهِمْ، إذْ في ذَلِكَ ما يَدْعُو إلى مَحَبَّةِ المُنْعِمِ ووُجُوبِ إطاعَتِهِ، ثُمَّ أمَرَهم بِإيفاءِ العَهْدِ الَّذِي التَزَمُوهُ لِلْمُنْعِمِ، ثُمَّ رَغَّبَهم بِتَرْتِيبِ إيفائِهِ هو تَعالى بِعَهْدِهِمْ في الإيفاءِ بِالعَهْدِ، ثُمَّ أمَرَهم بِالخَوْفِ مِن نِقْماتِهِ إنْ لَمْ يُوفُوا، فاكْتَنَفَ الأمْرَ بِالإيفاءِ أمْرٌ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ والإحْسانِ، وأمْرٌ بِالخَوْفِ مِنَ العِصْيانِ، ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بِالأمْرِ بِإيمانٍ خاصٍّ، وهو ما أنْزَلَ مِنَ القُرْآنِ، ورَغَّبَ في ذَلِكَ بِأنَّهُ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهم، فَلَيْسَ أمْرًا مُخالِفًا لِما في أيْدِيهِمْ؛ لِأنَّ الِانْتِقالَ إلى المُوافِقِ أقْرَبُ مِنَ الِانْتِقالِ إلى المُخالِفِ، ثُمَّ نَهاهم عَنِ اسْتِبْدالِ الخَسِيسِ بِالنَّفِيسِ، ثُمَّ أمَرَهم تَعالى بِاتِّقائِهِ، ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ لَبْسِ الحَقِّ بِالباطِلِ، وعَنْ كِتْمانِ الحَقِّ، فَكانَ الأمْرُ بِالإيمانِ أمْرًا بِتَرْكِ الضَّلالِ، والنَّهْيُ عَنْ لَبْسِ الحَقِّ بِالباطِلِ وكِتْمانِ الحَقِّ تَرْكًا لِلْإضْلالِ. ولَمّا كانَ الضَّلالُ ناشِئًا عَنْ أمْرَيْنِ: إمّا تَمْوِيهُ الباطِلِ حَقًّا إنْ كانَتِ الدَّلائِلُ قَدْ بَلَغَتِ المُسْتَتْبِعَ، وإمّا عَنْ كِتْمانِ الدَّلائِلِ إنْ كانَتْ لَمْ تَبْلُغْهُ، أشارَ إلى الأمْرَيْنِ بِلا تَلْبِسُوا وتَكْتُمُوا، ثُمَّ قَبَّحَ عَلَيْهِمْ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ مَعَ وُجُودِ العِلْمِ، ثُمَّ أمَرَهم بَعْدَ تَحْصِيلِ الإيمانِ وإظْهارِ الحَقِّ بِإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، إذِ الصَّلاةُ آكَدُ العِباداتِ البَدَنِيَّةِ، والزَّكاةُ آكَدُ العِباداتِ المالِيَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِالأمْرِ بِالِانْقِيادِ والخُضُوعِ لَهُ تَعالى مَعَ جُمْلَةِ الخاضِعِينَ الطّائِعِينَ. فَكانَ افْتِتاحُ هَذِهِ الآياتِ بِذِكْرِ النِّعَمِ واخْتِتامُها بِالِانْقِيادِ لِلْمُنْعِمِ، وما بَيْنَهُما تَكالِيفٌ اعْتِقادِيَّةٌ وأفْعالٌ بَدَنِيَّةٌ ومالِيَّةٌ. وبِنَحْوِ ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآياتُ مِنَ الِافْتِتاحِ والإرْدافِ والِاخْتِتامِ يَظْهَرُ فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلى سائِرِ الكَلامِ، وهَذِهِ الأوامِرُ والنَّواهِي، وإنْ كانَتْ خاصَّةً في الصُّورَةِ بِبَنِي إسْرائِيلَ؛ فَإنَّهم هُمُ المُخاطَبُونَ بِها، هي عامَّةٌ في المَعْنى، فَيَجِبُ عَلى كُلِّ مُكَلَّفٍ ذِكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ، والإيفاءُ بِالعَهْدِ وسائِرِ التَّكالِيفِ المَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب