الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: ٤٣].
الصلاةُ جماعة:
أمَرَ اللهُ بالإتيانِ بالصلاةِ والزكاةِ، وأن تكونَ صلاتُهُ مع المسلِمِينَ، لا منفرِدًا بصلاتِهِ، هذا ظاهرُ الآيةِ، وجاء معنى هذه الآيةِ بالأمرِ بالصلاةِ والزكاةِ مقترنتَيْنِ في مواضعَ كثيرةٍ من القرآنِ، منها قولُهُ تعالى: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ [البقرة: ٨٣]، وقولُهُ: ﴿وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وما تُقَدِّمُوا لأِنْفُسِكُمْ مِن خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٠]، وفي سورةِ النساءِ قال تعالى: ﴿كُفُّوا أيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ [النساء: ٧٧]، وفي سورةِ إبراهيمَ قال تعالى: ﴿قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ﴾ [إبراهيم: ٣١]، وفي سورةِ مريمَ قال تعالى: ﴿وكانَ يَأْمُرُ أهْلَهُ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ﴾ [مريم: ٥٥].
وفي سورةِ الأنبياءِ قال تعالى: ﴿وجَعَلْناهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وأَوْحَيْنا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتِ وإقامَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ وكانُوا لَنا عابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: ٧٣]، فجعَلَ استحقاقَ وصفِ التعبُّدِ والعابدِ لمن أدّاهما كما أُمِرَ بهما، وفيه دليلٌ على أنّ مؤدِّيَ الصلاةِ والزكاةِ على وجهِها لا بدَّ أن يُتْبِعَها طوعًا بقيةَ شرائعِ الإسلامِ، ويتَّقيَ نواقضَها.
وقال اللهُ تعالى في سورةِ النورِ: ﴿وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [٥٦]، فأمَرَ بهما مقرونتَيْنِ بطاعةِ رسولِ اللهِ ﷺ.
وفي سورةِ الحجِّ قال تعالى: ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ [٧٨].
وفي سورةِ الأحزابِ قال تعالى: ﴿وأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكاةَ﴾ [٣٣]، إشارةً إلى وجوبِ الزكاةِ على النساءِ في أموالِهنَّ عينًا، وإنْ كنَّ متزوِّجاتٍ فوُهِبْنَ مالًا أو مهرًا أو ذهبًا مكنوزًا.
وفي سورةِ المجادلةِ قال تعالى: ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [١٣]، فقرَنَهما بطاعةِ اللهِ ورسولِهِ.
وفي سورةِ المزمِّلِ قال تعالى: ﴿وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ [٢٠].
فضلُ الصلاة على الزكاةِ:
وقد جاء الأمرُ بالصلاةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ أكثرَ مِن الزكاةِ، فجاء في مواضعَ كثيرةٍ الأمرُ بالصلاةِ وحدَها، لأهميتِها، كما في سورةِ الأنعامِ قال تعالى: ﴿وأَنْ أقِيمُوا الصَّلاةَ واتَّقُوهُ﴾ [٧٢]، وفي سورةِ الأعرافِ قال تعالى: ﴿وأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [٢٩]، وفي سورةِ يونسَ قال تعالى: ﴿وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وبَشِّرْ المُؤْمِنِينَ ﴾ [٨٧]، وفي سورةِ الرومِ قال تعالى: ﴿وأَقِيمُوا الصَّلاةَ ولا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [٣١]، مبيِّنًا أنّ مِن خصالِ المشركينَ تَرْكَها.
والحديثُ عن معاني هذه الآياتِ نُورِدُهُ هنا فيما يتعلَّقُ بوجوبِ الركنَيْنِ، وأمّا فضلُ مؤدِّيهما، فمواضعُهُ كثيرةٌ في كتابِ اللهِ، وليس من شرطِ كتابِنا.
روى ابنُ جريرٍ، عن ابنِ أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن قتادةَ، في قولِهِ: ﴿وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾، قال: فريضتانِ واجبتانِ، فأدُّوهما إلى اللهِ[[«تفسير الطبري» (١ /٦١١).]].
وفي آيةِ البابِ دليلٌ على جملةٍ من المسائلِ:
منها: فرضيةُ الصلاةِ والزكاةِ، وهما الرُّكْنانِ الثاني والثالثُ بالاتِّفاقِ، كما في «الصحيحَيْنِ»، من حديثِ ابنِ عمرَ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (بُنِيَ الإسْلامُ عَلى خَمْسٍ: شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ...)، الحديثَ[[أخرجه البخاري (٨) (١ /١١)، ومسلم (١٦) (١ /٤٥).]].
ولحديثِ أبي هريرةَ في «الصحيحينِ»، في قصةِ سؤالِ جبريلَ للنبيِّ ﷺ، لمّا سأَلَهُ عن الإسلامِ، قال: (الإسْلامُ: أنْ تَعْبُدَ اللهَ ولا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وتُقِيمَ الصَّلاةَ، وتُؤَدِّيَ الزَّكاةَ المَفْرُوضَةَ...)، الحديثَ[[أخرجه البخاري (٥٠) (١/١٩)، ومسلم (٩) (١/٣٩).]].
وجوب القيام في الصلاة على القادر:
ومنها: وجوبُ القيامِ في الصلاةِ، وهو ركنٌ من أركانِها، وجُعِلَ أداءُ الصلاةِ قيامًا، لأنّ القيامَ أطولُ من غيرِهِ في الصلاةِ وقتًا، وهو أظهرُ بالبيانِ، ففي «الصحيحينِ»، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، عن البَراءِ، قال: «كان ركوعُ النبيِّ ﷺ وسجودُهُ، وبينَ السجدتَيْنِ، وإذا رفَعَ من الركوعِ ـ ما خلا القيامَ والقعودَ ـ قريبًا مِن السَّواءِ»[[أخرجه البخاري (٧٩٢) (١ /١٥٨)، ومسلم (٤٧١) (١ /٣٤٣).]].
يعني: أنّ القيامَ لا يُقارَنُ طولًا بغيرِهِ، وإنّما غيرُهُ يتشابَهُ فيما بينَهُ سجودًا وركوعًا، وجلوسًا بينَ السجدتَيْنِ ورفعًا من الركوعِ.
والإقامةُ مصدرُ أقامَ، وأصلُ القيامِ في اللغةِ هو الانتصابُ المضادُّ للقعودِ والاضطجاعِ والركوعِ، وإنّما كان قيامًا، لأنّ الأمرَ لا يتأتّى إلا به لأهميتِهِ، فالقائمُ يفعلُ ويَقْوى على ما لا يقْوى عليه القاعدُ.
وقد جاء الأمرُ بالصلاةِ بعدَ الأمرِ بالإيمانِ، لأهميةِ التدرُّجِ والتسلسُلِ بالتشريعِ، كما جاء في حديثِ معاذٍ وبَعْثِهِ إلى اليمنِ، قال ﷺ: (إنَّكَ تَقْدَمُ عَلى قَوْمٍ أهْلِ كِتابٍ، فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ عِبادَةُ اللهِ، فَإذا عَرَفُوا اللهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَواتٍ....»، الحديثَ[[أخرجه البخاري (١٤٥٨) (٢ /١١٩)، ومسلم (١٩) (١ /٥١).]].
وأمّا الاستدلالُ بقولِهِ تعالى: ﴿وأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ على أنّ المرادَ به تسويةُ الصفوفِ، ففي ذلك نظرٌ، وذلك أنّ اللهَ أمَرَ موسى وأخاهُ بإقامةِ الصلاةِ، قال تعالى: ﴿وأَوْحَيْنا إلى مُوسى وأَخِيهِ أنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتًا واجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وبَشِّرْ المُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: ٨٧]، وتسويةُ الصفوفِ من خصائصِ هذه الأمَّةِ، كما روى مسلمٌ، عن رِبْعِيٍّ، عن حُذَيْفةَ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (فُضِّلْنا عَلى النّاسِ بِثَلاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنا كَصُفُوفِ المَلائِكَةِ...)، الحديثَ[[أخرجه مسلم (٥٢٢) (١ /٣٧١).]].
والزكاةُ: مِن زَكا الشيءُ: إذا نَما[[ينظر: «غريب الحديث» لابن قُتيبة (١ /١٨٤).]].
وسُمِّيتْ بذلك، دفعًا لتوهُّمِ النقصِ الطارئِ على دافعِها.
قال الشاعرُ:
كانُوا خَسًا أوْ زَكًا مِن دُونِ أرْبَعَةٍ
لَمْ يَخْلَقُوا، وجُدُودُ النّاسِ تَعْتَلِجُ[[ينظر: «تهذيب اللغة» (١٤ /٢٢٨)، و«لسان العرب» (١٤ /٢٢٨).]]
أرادَ بـ«خَسًا»: الفردَ، وبـ«زَكًا»: الزوجَ، في العَدَدِ.
فضلُ الركوعِ:
قولُهُ: ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ ﴾ فيه إشارةٌ إلى فضلِ الركوعِ، وأنّ الخطابَ المتوجِّهَ إلى بني إسرائيلَ فيه نسخُ صلاتِهم، فصلاةُ اليهودِ لا ركوعَ فيها، ولذا قطَعَ اللهُ ما يُمكِنُهمْ تدليسُهُ أنّ محمدًا أمَرَهم بلزومِ عبادتِهم، فقال: ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ ﴾.
دفعُ اللَّبْسِ عند الخطاب:
وفي هذا: أنّ دفْعَ اللَّبْسِ واجبٌ عندَ احتمالِهِ في فهمِ الخطابِ، وأنّ السكوتَ عنه مع احتمالِ وجودِهِ تدليسٌ، فلا يجوزُ لعالمٍ في خطابِهِ أنْ يعمِّمَ في موضعٍ يَحتاجُ إلى تخصيصٍ، أو يغلِبُ على ظنِّهِ فهمُ معنًى خاصٍّ في الأذهانِ يُخالفُ الحقَّ.
وأحبارُ بني إسرائيلَ إنّما ضَلُّوا بقلبِ المعاني وتحريفِ الألفاظِ، فما أمكَنَهُمْ قلبُ معناهُ، قلَبُوهُ مع بقاءِ لفظِهِ، وما لم يُمكِنْهُمْ، قلَبُوا لَفْظَهُ لينقلِبَ معناه، وقلبُ المعاني في اليهودِ أكثرُ، وتحريفُ الألفاظِ لِيَتْبَعَها تحريفُ المعاني في النصارى أكثرُ، فالتوراةُ بعدَ تحريفِها أكثرُ تحريفًا للمعنى وأكثرُ بقاءً للفظِ، والإنجيلُ بعد تبديلِهِ أكثرُ تحريفًا للفظِ، ولهذا كانتِ اليهودُ أشدَّ كفرًا، لأنّ اللفظَ لدَيْهم فيه الحُجَّةُ ومع ذلك يَلْوُونَ عُنُقَهُ عنادًا واستكبارًا، وأمّا النصارى، فحرَّفَ أسلافُهُم النصَّ وتَبِعَهُ المعنى، وانساقُوا على ما يرَوْنَهُ من لفظٍ ومعنى.
فضلُ السجود على الركوعِ:
والركوعُ عبادةٌ تختصُّ بالصلاةِ لا تصحُّ منفردةً عنها بخلافِ السجودِ، فقد جاء في الشريعةِ سجودُ التلاوةِ والشكرِ ونحوِهما بلا صلاةٍ، وأمّا الركوعُ فلم يَرِدْ، ومثلُهُ القيامُ، لذا كان السجودُ أعظمَ عندَ اللهِ، لِتمحُّضِهِ بالتعبُّدِ، فمَن سجَدَ لغيرِ اللهِ، كَفَرَ، لأنه لا يُعْرَفُ السجودُ في الأمَّةِ منفردًا ومتضَّمنًا إلا عبادةً، بخلافِ مَن قام وانحنى، فإن قصَدَ التعبُّدَ كفرَ، لأنّ القيامَ بذاتِهِ بلا صلاةٍ لا يدُلُّ دَلالةً تامَّةً على التعبدِ إلا بقرينةٍ، وإنْ قصَدَ التحيةَ، ابتدَعَ بالركوعِ، وكُرِهَ بالقيامِ، على الأصحِّ، إلا لسيِّدٍ مطاعٍ، وعالِمٍ، ووالِدٍ، يُقامُ له بلا طلبٍ منه.
والعربُ كان يحيِّي بعضُها بعضًا بالركوعِ، قال الأَعْشى:
إذا ما أتانا أبُو مالِكٍ
رَكَعْنا لَهُ وخَلَعْنا العِمامَهْ[[«ديوان الأعشى». وينظر: «التحرير والتنوير» (١ /٤٧٣).]]
فضلُ الجماعةِ:
وفي قولِهِ: ﴿مَعَ الرّاكِعِينَ ﴾ فضلُ العملِ مع الناسِ عبادةً وعادة، وألاَّ يكونَ الإنسانُ منفرِدًا بعملِهِ، فعملُهُ جماعةً أزكى وأفضلُ، ففي «المسندِ»، و«سننِ أبي داود»، عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (إنَّ صَلاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أزْكى مِن صَلاتِهِ وحْدَهُ، وصَلاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أزْكى مِن صَلاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وما كَثُرَ فَهُوَ أحَبُّ إلى اللهِ تَعالى) [[أخرجه أحمد (٢١٢٦٥) (٥ /١٤٠)، وأبو داود (٥٥٤) (١ /١٥٢).]].
وفي «الصحيحَيْنِ»، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ ﷺ، قال: (صَلاةُ الجَمِيعِ تَزِيدُ عَلى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ وصَلاتِهِ فِي سُوقِهِ، خَمْسًا وعِشْرِينَ دَرَجَةً) [[أخرجه البخاري (٤٧٧) (١/١٠٣)، ومسلم (٦٤٩) (١/٤٥٠).]].
والحثُّ على التكاثُرِ بأداءِ صلاةِ الجماعةِ أظهرُ في الشرعِ مِن أدائِها في المساجِدِ مع تأكُّدِهِما كِلَيْهِما، لأنّ المساجِدَ وُضِعَتْ للاجتماعِ، وما جُعِلَ الاجتماعُ للمساجدِ، والصلاةُ في المسجدِ الذي فيه جماعةٌ أكثرُ: أفضلُ مِنَ الصلاةِ في المسجدِ الأقدَمِ والأكبَرِ حجمًا إذا كانتْ فيه الجماعةُ أقلَّ، لظاهرِ النصوصِ، ولأنّ الشريعةَ حَثَّتْ على الاجتماعِ أكثَرَ من تحديدِ مكانِهِ، إلا المساجدَ الثلاثةَ.
وقولُهُ: ﴿مَعَ الرّاكِعِينَ ﴾ إنّما تَتِمُّ المعيَّةُ وتتحقَّقُ، باكتمالِ الموافَقةِ بدنًا واعتقادًا:
فما يُمكِنُ فيه الاجتماعُ وشُرِعَ ذلك جماعةً، فالمعيةُ أكملُ بتحقُّقِهما، كالصلاةِ جماعةً ونحوِ ذلك، ولذا لمّا أمَرَ اللهُ إبليسَ بالسجودِ مع الملائكةِ لآدمَ، ولم يسجُدْ، وتخلَّفَ عن موافقتِهم جماعةً، جعَلَ ذلك مخالَفةً لأمرِهِ، فقال: ﴿قالَ ياإبْلِيسُ ما لَكَ ألاَّ تَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: ٣٢]، وذكَرَ حالَهُ: ﴿إلاَّ إبْلِيسَ أبى أنْ يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: ٣١].
وما شُرِعَ فيه العملُ منفردًا ولم يُؤمَرْ به جماعةً، وجاء الأمرُ به بقولِهِ: ﴿مَعَ﴾، كقولِهِ تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ﴾ [التوبة: ١١٩]، فيفعلُهُ الرجلُ في خاصَّتِهِ مع جماعةِ الناسِ الذين يُشارِكونَهُ هذا الوصفَ، فيكونُ مع الصادِقينَ بتَقْواهُ هو، وبالإسرارِ في مواضعِ الإسرارِ، والعلانيَةِ في موضعِ العلانيَةِ.
وجوبُ صلاة الجماعةِ:
واستُدِلَّ بهذه الآيةِ على وجوبِ صلاةِ الجماعةِ، ويؤيِّدُ ذلك ما جاء في «الصحيحينِ»، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (إنَّ أثْقَلَ صَلاةٍ عَلى المُنافِقِينَ صَلاةُ العِشاءِ، وصَلاةُ الفَجْرِ، ولَوْ يَعْلَمُونَ ما فِيهِما، لَأَتَوْهُما ولَوْ حَبْوًا، ولَقَدْ هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ، فَتُقامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنّاسِ، ثُمَّ أنْطَلِقَ مَعِي بِرِجالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِن حَطَبٍ إلى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنّارِ) [[أخرجه البخاري (٢٤٢٠) (٣ /١٢٢)، ومسلم (٦٥١) (١ /٤٥١).]].
ونقَلَ غيرُ واحدٍ إجماعَ الصحابةِ على ذلك، حكاهُ ابنُ تيميَّةَ، وهو كذلك[[ينظر: «الفتاوى الكبرى» (٢ /٢٧٠).]].
وحكى الكاسانيُّ ـ مِن الحنفيَّةِ ـ العملَ عليها جيلًا بعدَ جيلٍ، وأنّ ذلك أمارَةٌ على وجوبِها[[ينظر: «بدائع الصنائع» (١ /١٥٥).]].
ويُنقَلُ في كلامِ فقهاءِ الحنفيَّةِ: أنّ الجماعةَ سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ، ومُرادُهم بذلك الوجوبُ، ويفهمُهُ بعضُ الفقهاءِ على أنّ المرادَ بذلك: ما يُخالِفُ التأكيدَ بالوجوبِ، وفي هذا نظرٌ، قال علاءُ الدِّينِ السَّمَرْقَنْدِيُّ في «تُحْفةِ الفقهاءِ»: «إنّ الجماعةَ واجبةٌ، وقد سمّاها بعضُ أصحابِنا: سُنَّةً مؤكَّدةً، وكلاهُما واحدٌ»[[«تحفة الفقهاء» (١ /٢٢٧).]].
وبنحوِه قال الكاسانيُّ وغيرُه[[ينظر: «بدائع الصنائع» (١ /١٥٥).]].
والشافعيُّ ينصُّ على الوجوبِ في كتابِه «الأمِّ»، قال: «فلا أرخِّصُ لِمَن قَدَرَ على صلاةِ الجماعةِ في تركِ إتيانِها، إلا مِن عذرٍ»[[«الأم» للشافعي (١ /١٨٠).]].
وقال النوويُّ: «وهذا قولُ اثنَيْنِ مِن كبارِ أصحابِنا المتمكِّنِينَ في الفقهِ والحديثِ، وهما: أبو بكرِ بنُ خُزَيْمةَ، وابنُ المُنْذِرِ...».[[«المجموع» (٤ /١٨٤).]].
وجماهيرُ أصحابِ أحمدَ على الوجوبِ، وهو المشهورُ عنه، وعنه روايةٌ أُخرى بالسُّنِّيَّةِ[[ينظر: «المغني» (٢ /١٣٠)، و«الكافي» (١ /٢٨٧)، و«الإنصاف» (٢ /٢١٠).]]، وفيها نظرٌ.
ويظهَرُ لي: أنّه يرى سُنِّيَّةَ الجماعةِ في المسجدِ إذا لم تعطَّلْ، فتعطيلُها فيها حرامٌ، وأصلُ الجماعةِ واجبٌ عندَهُ، إذا لم تتحقَّقْ في البيتِ، ففي المسجدِ.
وفي «الصحيحِ»: قال ابنُ مسعودٍ: «ولَوْ أنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَما يُصَلِّي هَذا المُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، ولَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، لَضَلَلْتُمْ»[[أخرجه مسلم (٦٥٤) (١ /٤٥٣).]].
وكثيرٌ مِن فقهاءِ المتأخِّرينَ مِن الحنفيَّةِ والشافعيَّةِ والمالكيَّةِ، يرَوْنَ استحبابَ صلاةِ الجماعةِ في المسجدِ[[ينظر: «اللُّباب، في الجمع بين السُّنَّة والكتاب» (١ /٢٥٢)، و«العناية، شرح الهداية» (٢ /٣٢٤)، و«جامع الأمهات» (١ /١٠٧)، و«مختصر خليل» (١ /٤٠)، و«روضة الطالبين» (١ /٣٣٩)، و«نهاية المحتاج» (٢ /١٣٣).]].
ومذهبُهُمْ ـ وإنْ كان لهم سلفٌ فيه ـ إلا أنّه يخالِفُ مذهبَ أئمَّتِهم وظواهرَ الأدلَّةِ، ولبعضِهم كلامٌ في عدمِ إيجابِ الصلاةِ في المسجدِ لمَن يَجِدُ الجماعةَ في غيرِه، ويظُنُّ بعضُ النقَلَةِ له: أنّه لا يرى وجوبَ الصلاةِ في الجماعةِ مطلَقًا، حيثُ لا يفرِّقونَ بينَ المسألتينِ: بينَ وجوبِ إجابةِ النداءِ في المسجدِ للجماعةِ فيه، وبينَ وجوبِ الجماعةِ بعينِها.
{"ayah":"وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُوا۟ مَعَ ٱلرَّ ٰكِعِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق