الباحث القرآني

(p-١٣٢)قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتٌ بَلْ أحْياءٌ ولَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَظِيرُ قَوْلِهِ في آلِ عِمْرانَ: ﴿بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩] ووَجْهُ تَعَلُّقِ الآيَةِ بِما قَبْلَها كَأنَّهُ قِيلَ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ في إقامَةِ دِينِي، فَإنِ احْتَجْتُمْ في تِلْكَ الإقامَةِ إلى مُجاهَدَةِ عَدُوِّي بِأمْوالِكم وأبْدانِكم فَفَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَتَلِفَتْ نُفُوسُكم فَلا تَحْسَبُوا أنَّكم ضَيَّعْتُمْ أنْفُسَكم، بَلِ اعْلَمُوا أنَّ قَتْلاكم أحْياءٌ عِنْدِي وهاهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نَزَلَتِ الآيَةُ في قَتْلى بَدْرٍ، وقُتِلَ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ أرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سِتَّةٌ مِنَ المُهاجِرِينَ وثَمانِيَةٌ مِنَ الأنْصارِ، فَمِنَ المُهاجِرِينَ: عُبَيْدَةُ بْنُ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وعُمَرُ بْنُ أبِي وقّاصٍ، وذُو الشَّمالَيْنِ، وعَمْرُو بْنُ نُفَيْلَةَ، وعامِرُ بْنُ بَكْرٍ، ومِهْجَعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. ومِنَ الأنْصارِ: سَعِيدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وقَيْسُ بْنُ عَبْدِ المُنْذِرِ، وزَيْدُ بْنُ الحارِثِ، وتَمِيمُ بْنُ الهُمامِ، ورافِعُ بْنُ المُعَلّى، وحارِثَةُ بْنُ سُراقَةَ، ومُعَوِّذُ بْنُ عَفْراءَ، وعَوْفُ بْنُ عَفْراءَ، وكانُوا يَقُولُونَ: ماتَ فُلانٌ وماتَ فُلانٌ فَنَهى اللَّهُ تَعالى أنْ يُقالَ فِيهِمْ إنَّهم ماتُوا. وعَنْ آخَرِينَ أنَّ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ قالُوا: إنَّ النّاسَ يَقْتُلُونَ أنْفُسَهم طَلَبًا لِمَرْضاةِ مُحَمَّدٍ مِن غَيْرِ فائِدَةٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: (أمْواتٌ) رُفِعَ؛ لِأنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لا تَقُولُوا هم أمْواتٌ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في الآيَةِ أقْوالٌ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّهم في الوَقْتِ أحْياءٌ كَأنَّ اللَّهَ تَعالى أحْياهم لِإيصالِ الثَّوابِ إلَيْهِمْ، وهَذا قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ، وهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُطِيعِينَ يَصِلُ ثَوابُهم إلَيْهِمْ وهم في القُبُورِ، فَإنْ قِيلَ: نَحْنُ نُشاهِدُ أجْسادَهم مَيْتَةً في القُبُورِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ ما ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ ؟ قُلْنا: أمّا عِنْدَنا فالبِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا في الحَياةِ، ولا امْتِناعَ في أنْ يُعِيدَ اللَّهُ الحَياةَ إلى كُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الذَّرّاتِ والأجْزاءِ الصَّغِيرَةِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى التَّرْكِيبِ والتَّأْلِيفِ، وأمّا عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ فَلا يَبْعُدُ أنْ يُعِيدَ اللَّهُ الحَياةَ إلى الأجْزاءِ الَّتِي لا بُدَّ مِنها في ماهِيَّةِ الحَيِّ ولا يُعْتَبَرُ بِالأطْرافِ، ويُحْتَمَلُ أيْضًا أنْ يُحْيِيَهم إذا لَمْ يُشاهَدُوا. القَوْلُ الثّانِي: قالَ الأصَمُّ: يَعْنِي لا تُسَمُّوهم بِالمَوْتى، وقُولُوا لَهُمُ الشُّهَداءَ الأحْياءَ، ويُحْتَمَلُ أنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا: هم أمْواتٌ في الدِّينِ كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢] فَقالَ: ولا تَقُولُوا لِلشُّهَداءِ ما قالَهُ المُشْرِكُونَ، ولَكِنْ قُولُوا: هم أحْياءٌ في الدِّينِ ولَكِنْ لا يَشْعُرُونَ، يَعْنِي المُشْرِكُونَ لا يَعْلَمُونَ أنَّ مَن قُتِلَ عَلى دِينِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - حَيٌّ في الدِّينِ، وعَلى هُدًى مِن رَبِّهِ ونُورٍ، كَما رُوِيَ في بَعْضِ الحِكاياتِ أنَّ رَجُلًا قالَ لِرَجُلٍ: ما ماتَ رَجُلٌ خَلَفَ مِثْلَكَ، وحُكِيَ عَنْ بُقْراطَ أنَّهُ كانَ يَقُولُ لِتَلامِذَتِهِ: مُوتُوا بِالإرادَةِ تَحْيَوْا بِالطَّبِيعَةِ أيْ بِالرُّوحِ. القَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَقُولُونَ: إنَّ أصْحابَ مُحَمَّدٍ ﷺ يَقْتُلُونَ أنْفُسَهم ويَخْسَرُونَ حَياتَهم فَيَخْرُجُونَ مِنَ الدُّنْيا بِلا فائِدَةٍ، ويُضَيِّعُونَ أعْمارَهم إلى غَيْرِ شَيْءٍ، وهَؤُلاءِ الَّذِينَ قالُوا ذَلِكَ يُحْتَمَلُ أنَّهم كانُوا (p-١٣٣)دَهْرِيَّةً يُنْكِرُونَ المَعادَ، ويُحْتَمَلُ أنَّهم كانُوا مُؤْمِنِينَ بِالمَعادِ، إلّا أنَّهم كانُوا مُنْكِرِينَ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، فَلِذَلِكَ قالُوا هَذا الكَلامَ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ولا تَقُولُوا كَما قالَ المُشْرِكُونَ إنَّهم أمْواتٌ لا يُنْشَرُونَ ولا يَنْتَفِعُونَ بِما تَحَمَّلُوا مِنَ الشَّدائِدِ في الدُّنْيا، ولَكِنِ اعْلَمُوا أنَّهم أحْياءٌ، أيْ سَيَحْيَوْنَ فَيُثابُونَ ويُنَعَّمُونَ في الجَنَّةِ، وتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿أحْياءٌ﴾ بِأنَّهم سَيَحْيَوْنَ غَيْرُ بَعِيدٍ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ﴾ ﴿وإنَّ الفُجّارَ لَفي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٣ -١٤]، وقالَ: ﴿أحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها﴾ [الكهف: ٢٩]، وقالَ: ﴿إنَّ المُنافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ﴾ [النساء: ١٤٥] وقالَ: ﴿فالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ في جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الحج: ٥٦] عَلى مَعْنى أنَّهم سَيَصِيرُونَ كَذَلِكَ، وهَذا القَوْلُ اخْتِيارُ الكَعْبِيِّ، وأبِي مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيِّ، واعْلَمْ أنَّ أكْثَرَ العُلَماءِ عَلى تَرْجِيحِ القَوْلِ الأوَّلِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: الآياتُ الدّالَّةُ عَلى عَذابِ القَبْرِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالُوا رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١] والمَوْتَتانِ لا تَحْصُلُ إلّا عِنْدَ حُصُولِ الحَياةِ في القَبْرِ، وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا﴾ [نوح: ٢٥] والفاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وقالَ: ﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ [غافر: ٤٦] وإذا ثَبَتَ عَذابُ القَبْرِ وجَبَ القَوْلُ بِثَوابِ القَبْرِ أيْضًا؛ لِأنَّ العَذابَ حَقُّ اللَّهِ تَعالى عَلى العَبْدِ، والثَّوابَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَإسْقاطُ العِقابِ أحْسَنُ مِن إسْقاطِ الثَّوابِ فَحَيْثُما أسْقَطَ العِقابَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ بَلْ حَقَّقَهُ في القَبْرِ، كانَ ذَلِكَ في الثَّوابِ أوْلى. وثانِيها: أنَّ المَعْنى لَوْ كانَ عَلى ما قِيلَ في القَوْلِ الثّانِي والثّالِثِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ مَعْنًى؛ لِأنَّ الخِطابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وقَدْ كانُوا لا يَعْلَمُونَ أنَّهم سَيَحْيَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ، وأنَّهم ماتُوا عَلى هُدًى ونُورٍ، فَعُلِمَ أنَّ الأمْرَ عَلى ما قُلْنا مِن أنَّ اللَّهَ تَعالى أحْياهم في قُبُورِهِمْ. وثالِثُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٧٠] دَلِيلٌ عَلى حُصُولِ الحَياةِ في البَرْزَخِ قَبْلَ البَعْثِ. ورابِعُها: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: «”القَبْرُ رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الجَنَّةِ أوْ حُفْرَةٌ مِن حُفَرِ النِّيرانِ“» والأخْبارُ في ثَوابِ القَبْرِ وعَذابِهِ كالمُتَواتِرَةِ، «وكانَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - يَقُولُ في آخِرِ صَلاتِهِ: ”وأعُوذُ بِكَ مِن عَذابِ القَبْرِ“» . وخامِسُها: أنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: أنَّهم أحْياءٌ أنَّهم سَيَحْيَوْنَ، فَحِينَئِذٍ لا يَبْقى لِتَخْصِيصِهِمْ بِهَذا فائِدَةٌ، أجابَ عَنْهُ أبُو مُسْلِمٍ بِأنَّهُ تَعالى إنَّما خَصَّهم بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّ دَرَجَتَهم في الجَنَّةِ أرْفَعُ ومَنزِلَتَهم أعْلى وأشْرَفُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ﴾ [النساء: ٦٩] فَأرادَهم بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا. واعْلَمْ أنَّ هَذا الجَوابَ ضَعِيفٌ، وذَلِكَ لِأنَّ مَنزِلَةَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ أعْظَمُ مَعَ أنَّ اللَّهَ تَعالى ما خَصَّهم بِالذِّكْرِ. وسادِسُها: أنَّ النّاسَ يَزُورُونَ قُبُورَ الشُّهَداءِ ويُعَظِّمُونَها، وذَلِكَ يَدُلُّ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ عَلى ما ذَكَرْناهُ، واحْتَجَّ أبُو مُسْلِمٍ عَلى تَرْجِيحِ قَوْلِهِ بِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ في آلِ عِمْرانَ، فَقالَ: ﴿بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وهَذِهِ العِنْدِيَّةُ لَيْسَتْ بِالمَكانِ، بَلْ بِالكَوْنِ في الجَنَّةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ أهْلَ الثَّوابِ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إلّا بَعْدَ القِيامَةِ. (p-١٣٤)والجَوابُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ هَذِهِ العِنْدِيَّةَ لَيْسَتْ إلّا بِالكَوْنِ في الجَنَّةِ بَلْ بِإعْلاءِ الدَّرَجاتِ وإيصالِ البِشاراتِ إلَيْهِ وهو في القَبْرِ أوْ في مَوْضِعٍ آخَرَ، واعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ قَوْلًا آخَرَ وهو: أنَّ ثَوابَ القَبْرِ وعَذابَهُ لِلرُّوحِ لا لِلْقالَبِ، وهَذا القَوْلُ بِناءً عَلى مَعْرِفَةِ الرُّوحِ، ولْنُشِرْ إلى خُلاصَةِ حاصِلِ قَوْلِ هَؤُلاءِ فَنَقُولُ: إنَّهم قالُوا إنَّ الإنْسانَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عِبارَةً عَنْ هَذا الهَيْكَلِ المَحْسُوسِ، أمّا إنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عِبارَةً عَنْ هَذا الهَيْكَلِ فَلِوَجْهَيْنِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ أجْزاءَ هَذا الهَيْكَلِ أبَدًا في النُّمُوِّ والذُّبُولِ والزِّيادَةِ والنُّقْصانِ والِاسْتِكْمالِ والذَّوَبانِ، ولا شَكَّ أنَّ الإنْسانَ مِن حَيْثُ هو هو أمْرٌ باقٍ مِن أوَّلِ عُمُرِهِ، والباقِي غَيْرُ ما هو غَيْرُ باقٍ، والمُشارُ إلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ بِقَوْلِهِ: (أنا) وجَبَ أنْ يَكُونَ مُغايِرًا لِهَذا الهَيْكَلِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنِّي أكُونُ عالِمًا بِأنِّي أنا حالَ ما أكُونُ غافِلًا عَنْ جَمِيعِ أجَزائِي وأبْعاضِي، والمَعْلُومُ غَيْرُ ما هو غَيْرُ مَعْلُومٍ، فالَّذِي أُشِيرُ إلَيْهِ بِقَوْلِي (أنا) مُغايِرٌ لِهَذِهِ الأعْضاءِ والأبْعاضِ، وأمّا أنَّ الإنْسانَ غَيْرُ مَحْسُوسٍ فَلِأنَّ المَحْسُوسَ إنَّما هو السَّطْحُ واللَّوْنُ، ولا شَكَّ أنَّ الإنْسانَ لَيْسَ هو مُجَرَّدُ اللَّوْنِ والسَّطْحِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ في أنَّ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ كُلُّ أحَدٍ بِقَوْلِهِ (أنا) أيُّ شَيْءٍ هو ؟ والأقْوالُ فِيهِ كَثِيرَةٌ إلّا أنَّ أشَدَّها تَلْخِيصًا وتَحْصِيلًا وجْهانِ. أحَدُهُما: أنَّ أجْزاءَ جِسْمانِيَّةً سارِيَةٌ في هَذا الهَيْكَلِ سَرَيانَ النّارِ في الفَحْمِ، والدُّهْنِ في السِّمْسِمِ، وماءِ الوَرْدِ في الوَرْدِ، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ فَرِيقانِ. أحَدُهُما: الَّذِينَ اعْتَقَدُوا تَماثُلَ الأجْسامِ فَقالُوا: إنَّ تِلْكَ الأجْسامَ مُماثِلَةٌ لِسائِرِ الأجْزاءِ الَّتِي مِنها يَتَألَّفُ هَذا الهَيْكَلُ إلّا أنَّ القادِرَ المُخْتارَ سُبْحانَهُ يُبْقِي بَعْضَ الأجْزاءِ مِن أوَّلِ العُمُرِ إلى آخِرِهِ فَتِلْكَ الأجْزاءُ هي الَّتِي يُشِيرُ إلَيْها كُلُّ أحَدٍ بِقَوْلِهِ (أنا) ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الأجْزاءَ حَيَّةٌ بِحَياةٍ يَخْلُقُها اللَّهُ تَعالى فِيها، فَإذا زالَتِ الحَياةُ ماتَتْ، وهَذا قَوْلُ أكْثَرِ المُتَكَلِّمِينَ. وثانِيهِما: الَّذِينَ اعْتَقَدُوا اخْتِلافَ الأجْسامِ وزَعَمُوا أنَّ الأجْسامَ الَّتِي هي باقِيَةٌ مِن أوَّلِ العُمُرِ إلى آخِرِ العُمُرِ أجْسامٌ مُخالِفَةٌ بِالماهِيَّةِ والحَقِيقَةِ لِلْأجْسامِ الَّتِي يَتَألَّفُ مِنها هَذا الهَيْكَلُ وتِلْكَ الأجْسامُ حَيَّةٌ لِذاتِها مُدْرِكَةٌ لِذاتِها، فَإذا خالَطَتْ هَذا البَدَنَ وصارَتْ سارِيَةً في هَذا الهَيْكَلِ، سَرَيانَ النّارِ في الفَحْمِ صارَ هَذا الهَيْكَلُ مُسْتَطِيرًا بِنُورِ ذَلِكَ الرُّوحِ مُتَحَرِّكًا بِتَحَرُّكِهِ، ثُمَّ إنَّ هَذا الهَيْكَلَ أبَدًا في الذَّوَبانِ والتَّحَلُّلِ والتَّبَدُّلِ، إلّا أنَّ تِلْكَ الأجْزاءَ باقِيَةٌ بِحالِها، وإنَّما لا يَعْرِضُ لَها التَّحَلُّلُ؛ لِأنَّها مُخالِفَةٌ بِالماهِيَّةِ لِهَذِهِ الأجْسامِ البالِيَةِ، فَإذا فَسَدَ هَذا القالَبُ انْفَصَلَتْ تِلْكَ الأجْسامُ اللَّطِيفَةُ النُّورانِيَّةُ إلى عالَمِ السَّماواتِ والقُدُسِ والطَّهارَةِ إنْ كانَتْ مِن جُمْلَةِ السُّعَداءِ، وإلى الجَحِيمِ وعالَمِ الآفاتِ إنْ كانَتْ مِن جُمْلَةِ الأشْقِياءِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ كُلُّ أحَدٍ بِقَوْلِهِ: (أنا مَوْجُودٌ) لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ ولا قائِمٌ بِالمُتَحَيِّزِ، وأنَّهُ لَيْسَ داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَ العالَمِ، ولا يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ كَذَلِكَ أنْ يَكُونَ مِثْلَ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ الِاشْتِراكَ في السُّلُوكِ لا يَقْتَضِي الِاشْتِراكَ في الماهِيَّةِ، واحْتَجُّوا عَلى ذَلِكَ بِأنَّ في المَعْلُوماتِ ما هو فَرْدٌ حَقًّا، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ العِلْمُ بِهِ فَرْدًا حَقًّا، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المَوْصُوفُ بِذَلِكَ العِلْمِ فَرْدًا حَقًّا، وكُلُّ جِسْمٍ وكُلُّ حالٍ في الجِسْمِ فَلَيْسَ بِفَرْدٍ حَقًّا، فَذَلِكَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ مِنّا أنَّهُ يَعْلَمُ هَذِهِ المُفْرَداتِ، وجَبَ أنْ لا يَكُونَ جِسْمًا ولا جِسْمانِيًّا. أمّا أنَّ في المَعْلُوماتِ ما هو فَرْدٌ حَقًّا فَلِأنَّهُ لا شَكَّ في وُجُودِ شَيْءٍ، فَهَذا المَوْجُودُ إنْ كانَ فَرْدًا حَقًّا فَهو المَطْلُوبُ، وإنْ كانَ مُرَكَّبًا فالمُرَكَّبُ مُرَكَّبٌ عَلى الفَرْدِ، فَلا بُدَّ مِنَ الفَرْدِ عَلى كُلِّ الأحْوالِ، وأمّا أنَّهُ إذا كانَ في المَعْلُوماتِ ما هو فَرْدٌ كانَ في المَعْلُومِ ما هو فَرْدٌ؛ لِأنَّ العِلْمَ المُتَعَلِّقَ بِذَلِكَ الفَرْدِ إنْ كانَ مُنْقَسِمًا فَكُلُّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ أوْ بَعْضِ (p-١٣٥)أجْزائِهِ إمّا أنْ يَكُونَ عِلْمًا بِذَلِكَ المَعْلُومِ وهو مُحالٌ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الجُزْءُ مُساوِيًا لِلْكُلِّ وهو مُحالٌ، وإمّا أنْ لا يَكُونَ شَيْءٌ مِن أجْزائِهِ عِلْمًا بِذَلِكَ المَعْلُومِ، فَعِنْدَ اجْتِماعِ تِلْكَ الأجْزاءِ، إمّا أنْ يَحْدُثَ زائِدٌ هو العِلْمُ بِذَلِكَ المَعْلُومِ الفَرْدِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ العِلْمُ بِذَلِكَ المَعْلُومِ هو هَذِهِ الكَيْفِيَّةُ الحادِثَةُ لا تِلْكَ الأشْياءُ الَّتِي فَرَضْناها قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ هَذِهِ الكَيْفِيَّةُ إنْ كانَتْ مُنْقَسِمَةً عادَ الحَدِيثُ فِيهِ وإنْ لَمْ تَكُنْ مُنْقَسِمَةً فَهو المَطْلُوبُ، وأمّا أنَّهُ إذا كانَ في المَعْلُومِ عِلْمٌ لا يَقْبَلُ القِسْمَةَ كانَ المَوْصُوفُ بِهِ أيْضًا كَذَلِكَ، فَلِأنَّ المَوْصُوفَ بِهِ لَوْ كانَ قَبِلَ القِسْمَةَ لَكانَ كُلُّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأجْزاءِ أوْ شَيْءٌ مِنها إنْ كانَ مَوْصُوفًا بِهِ بِتَمامِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ العَرَضُ الواحِدُ حالًّا في أشْياءَ كَثِيرَةٍ وهو مُحالٌ، أوْ يَتَوَزَّعُ أجْزاءُ الحالِّ عَلى أجْزاءِ المَحَلِّ، فَيُقَسَّمُ الحالُّ وقَدْ فَرَضْنا أنَّهُ غَيْرُ مُنْقَسِمٍ أوْ لا يَتَّصِفُ شَيْءٌ مِن أجْزاءِ المَحَلِّ إلّا بِتَمامِ الحالِّ ولا شَيْءَ مِن أجْزاءِ ذَلِكَ الحالِّ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ المَحَلُّ خالِيًا عَنْ ذَلِكَ الحالِّ وقَدْ فَرَضْناهُ مَوْصُوفًا بِهِ هَذا خُلْفٌ، وأمّا أنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ يَنْقَسِمُ فَبِالدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ في نَفْيِ الجَوْهَرِ الفَرْدِ، قالُوا: فَثَبَتَ أنَّ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ كُلُّ أحَدٍ بِقَوْلِهِ: (أنا مَوْجُودٌ) لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ ولا قائِمٌ بِالمُتَحَيِّزِ. ثُمَّ نَقُولُ: هَذا المَوْجُودُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مُدْرِكًا لِلْجُزْئِيّاتِ؛ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُنِي أنْ أحْكُمَ عَلى هَذا الشَّخْصِ المُشارِ إلَيْهِ بِأنَّهُ إنْسانٌ ولَيْسَ بِفَرَسٍ، والحاكِمُ بِشَيْءٍ عَلى شَيْءٍ لا بُدَّ وأنْ يُحْضِرَ المَقْضِيَّ عَلَيْهِما فَهَذا الشَّيْءُ مُدْرِكٌ لِهَذا الجُزْئِيِّ ولِلْإنْسانِ الكُلِّيِّ حَتّى يُمْكِنَهُ أنْ يَحْكُمَ بِهَذا الكُلِّيِّ عَلى هَذا الجُزْئِيِّ والمُدْرِكِ لِلْكُلِّيّاتِ هو النَّفْسُ، والمُدْرِكُ لِلْجُزْئِيّاتِ أيْضًا هو النَّفْسُ، فَكُلُّ مَن كانَ مُدْرِكًا لِلْجُزْئِيّاتِ فَإنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَلْتَذَّ ويَتَألَّمَ، قالُوا: إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: هَذِهِ الأرْواحُ بَعْدَ المُفارَقَةِ تَتَألَّمُ وتَلْتَذُّ إلى أنْ يَرُدَّها اللَّهُ تَعالى إلى الأبْدانِ يَوْمَ القِيامَةِ، فَهُناكَ يَحْصُلُ الِالتِذاذُ والتَّألُّمُ لِلْأبْدانِ، فَهَذا قَوْلٌ قالَ بِهِ عالَمٌ مِنَ النّاسِ، قالُوا: وهَبْ أنَّهُ لَمْ يَقُمْ بُرْهانٌ قاهِرٌ عَلى القَوْلِ بِهِ ولَكِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلى فَسادِهِ، فَإنَّهُ مِمّا يُؤَيِّدُ الشَّرْعُ ويَنْصُرُ ظاهِرَ القُرْآنِ ويُزِيلُ الشُّكُوكَ والشُّبُهاتِ عَمّا ورَدَ في كِتابِ اللَّهِ مِن ثَوابِ القَبْرِ وعَذابِهِ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ، فَهَذا هو الإشارَةُ المُخْتَصَرَةُ في تَوْجِيهِ هَذا القَوْلِ، واللَّهُ هو العالِمُ بِحَقائِقِ الأُمُورِ. قالُوا: ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا القَوْلَ هو أنَّ ثَوابَ القَبْرِ وعَذابَهُ إمّا أنْ يَصِلَ إلى هَذِهِ البِنْيَةِ أوْ إلى جُزْءٍ مِن أجْزائِها، والأوَّلُ مُكابَرَةٌ لِأنّا نَجِدُ هَذِهِ البِنْيَةَ مُتَفَرِّقَةً مُتَمَزِّقَةً، فَكَيْفَ يُمْكِنُ القَوْلُ بِوُصُولِ الثَّوابِ والعِقابِ إلَيْها ؟ فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى يُحْيِي بَعْضَ تِلْكَ الأجْزاءِ الصَّغِيرَةِ ويُوصِلُ الثَّوابَ والعِقابَ إلَيْها، وإذا جازَ ذَلِكَ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: الإنْسانُ هو الرُّوحُ فَإنَّهُ لا يَعْرِضُ لَهُ التَّفَرُّقُ والتَّمَزُّقُ، فَلا جَرَمَ يَصِلُ إلَيْهِ الألَمُ واللَّذَّةُ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى يَرُدُّ الرُّوحَ إلى البَدَنِ يَوْمَ القِيامَةِ الكُبْرى، حَتّى تَنْضَمَّ الأحْوالُ الجِسْمانِيَّةُ إلى الأحْوالِ الرُّوحانِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب