الباحث القرآني

(p-٤٤٨)﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾، قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا: سَيَرْجِعُ مُحَمَّدٌ إلى دِينِنا، كَما رَجَعَ إلى قِبْلَتِنا. هَزَّهم بِهَذا النِّداءِ المُتَضَمِّنِ هَذا الوَصْفَ الشَّرِيفَ، وهو الإيمانُ مَجْعُولًا فِعْلًا ماضِيًا في صِلَةِ الَّذِينَ، دالًّا عَلى الثُّبُوتِ والِالتِباسِ بِهِ في تَقَدُّمِ زَمانِهِمْ، لِيَكُونُوا أدْعى لِقَبُولِ ما يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الأمْرِ والتَّكْلِيفِ الشّاقِّ؛ لِأنَّ الصَّبْرَ والصَّلاةَ هُما رُكْنا الإسْلامِ. فالصَّبْرُ قَصْرُ النَّفْسِ عَلى المَكارِهِ والتَّكالِيفِ الشّاقَّةِ، وهو أمْرٌ قَلْبِيٌّ؛ والصَّلاةُ ثَمَرَتُهُ، وهي مِن أشَقِّ التَّكالِيفِ لِتَكَرُّرِها. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها ظاهِرَةٌ؛ لِأنَّهم سَمِعُوا مِن طَعْنِ الكُفّارِ عَلى التَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ والصَّلاةِ إلَيْها أذًى كَثِيرًا، فَأُمِرُوا عِنْدَ ذَلِكَ بِالِاسْتِعانَةِ بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ. وقَدْ قَيَّدَ بَعْضُهُمُ الصَّبْرَ هُنا: بِأنَّهُ الصَّبْرُ عَلى أذى الكُفّارِ بِالطَّعْنِ عَلى التَّحَوُّلِ والصَّلاةِ إلى الكَعْبَةِ، وبَعْضُهم بِالصَّبْرِ عَلى أداءِ الفَرائِضِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وبَعْضِهِمْ قالَ: هو كِنايَةٌ عَنِ الصَّوْمِ، ومِنهُ قِيلَ لِرَمَضانَ: شَهْرُ الصَّبْرِ، وبَعْضُهم قالَ: هو كِنايَةٌ عَنِ الجِهادِ لِقَوْلِهِ: بَعْدُ: ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ﴾، وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ. والأوْلى ما قَدَّمْناهُ مِن عُمُومِ اللَّفْظِ، فَتَنْدَرِجُ هَذِهِ الأفْرادُ تَحْتَهُ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ - أنَّهُ قالَ: الصَّبْرُ مِنِ الإيمانِ بِمَنزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ، ولا خَيْرَ في جَسَدٍ لا رَأْسَ لَهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامَ عَلى شَرْحِ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ . ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾: أيْ بِالمَعُونَةِ والتَّأْيِيدِ، كَما قالَ: ”اهْجُهم ورُوحُ القُدُسِ مَعَكَ“ . وقالَ تَعالى: ﴿لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ [التوبة: ٤٠]، ومَن كانَ اللَّهُ مَعَهُ فَهو الغالِبُ، ولَمّا كانَتِ الصَّلاةُ ناشِئَةً عَنِ الصَّبْرِ، وصارَ الصَّبْرُ أصْلًا لِجَمِيعِ التَّكالِيفِ الشّاقَّةِ قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾، فانْدَرَجَ المُصَلُّونَ تَحْتَ الصّابِرِينَ انْدِراجَ الفَرْعِ تَحْتَ الأصْلِ. وأمّا قَوْلُهُ هُناكَ: ﴿وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلّا عَلى الخاشِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٥]، فَأعادَ الضَّمِيرَ عَلَيْها عَلى ظاهِرِ الكَلامِ؛ لِأنَّها أشْرَفُ وأشَقُّ نَتائِجِ الصَّبْرِ. ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتٌ بَلْ أحْياءٌ ولَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾، قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ قِيلَ لِمَن قُتِلَ في سَبِيلِ اللَّهِ: ماتَ فُلانٌ وذَهَبَ عَنْهُ نَعِيمُ الدُّنْيا ولَذَّتُها، فَأُنْزِلَتْ. نُهُوا عَنْ قَوْلِهِمْ عَنِ الشُّهَداءِ أمْواتٌ، وأخْبَرَ تَعالى أنَّهم أحْياءٌ، وارْتِفاعُ أمْواتٍ وأحْياءٍ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ هم أمْواتٌ، بَلْ هم أحْياءٌ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بَلْ أحْياءٌ، مُنْدَرِجًا تَحْتَ قَوْلٍ مُضْمَرٍ، أيْ بَلْ قُولُوا هم أحْياءٌ. لَكِنْ يُرَجَّحُ الوَجْهُ الأوَّلُ، وهو أنَّهُ إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى قَوْلُهُ: ﴿ولَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾؛ لِأنَّ مَعْناهُ: أنَّ حَياتَهم لا شُعُورَ لَكم بِها، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ حَقِيقَةُ المَوْتِ والحَياةِ. وقِيلَ: ذَلِكَ مَجازٌ. واخْتَلَفُوا فَقِيلَ: أمْواتٌ بِانْقِطاعِ الذِّكْرِ، بَلْ أحْياءٌ بِبَقائِهِ وثُبُوتِ الأجْرِ. وكانَتِ العَرَبُ تُسَمِّي مَن لا يَبْقى لَهُ ذِكْرٌ بَعْدَ مَوْتِهِ كالوَلَدِ وغَيْرِهِ مَيِّتًا. وقِيلَ: أمْواتٌ بِالضَّلالِ، بَلْ أحْياءٌ بِالطّاعَةِ والهُدى، كَما قالَ: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢] . وإذا حُمِلَ المَوْتُ والحَياةُ عَلى الحَقِيقَةِ فاخْتَلَفُوا، فَقالَ قَوْمٌ: مَعْناهُ النَّهْيِ عَنْ قَوْلِ الجاهِلِيَّةِ: إنَّهم لا يُبْعَثُونَ، فالمَعْنى: أنَّهم سَيَحْيَوْنَ بِالبَعْثِ، فَيُثابُونَ ثَوابَ الشُّهَداءِ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ. وأكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّهم أحْياءٌ في الوَقْتِ. ومَعْنى هَذِهِ الحَياةِ: بَقاءُ أرْواحِهِمْ دُونَ أجْسادِهِمْ؛ إذْ أجْسادُهم نُشاهِدُ فَسادَها وفَنائَها. واسْتَدَلُّوا عَلى بَقاءِ الأرْواحِ بِعَذابِ القَبْرِ، وبِقَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ مَعْناهُ: لا تَشْعُرُونَ بِكَيْفِيَّةِ حَياتِهِمْ. ولَوْ كانَ المَعْنى بِإحْياءٍ أنَّهم سَيَحْيَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ، أوْ أنَّهم عَلى هُدًى ونُورٍ، لَمْ يَظْهَرْ لِنَفْيِ الشُّعُورِ مَعْنًى، إذْ هو خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهم قَدْ عَلِمُوا بِالبَعْثِ، وبِأنَّهم كانُوا عَلى هُدًى. فَلا يُقالُ فِيهِ: ولَكِنْ لا تَشْعُرُونَ؛ لِأنَّهم قَدْ شَعَرُوا بِهِ وبِقَوْلِهِ: ﴿ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٧٠] . وقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النّاسِ إلى أنَّ الشَّهِيدَ حَيُّ الجَسَدِ والرُّوحِ، ولا يَقْدَحُ في ذَلِكَ عَدَمُ الشُّعُورِ بِهِ مِنَ الحَيِّ غَيْرِهِ. فَنَحْنُ نَراهم عَلى صِفَةِ الأمْواتِ وهم أحْياءٌ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وتَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ (p-٤٤٩)﴾ [النمل: ٨٨]، وكَما تَرى النّائِمَ عَلى هَيْئَتِهِ، وهو يَرى في مَنامِهِ ما يَنْعَمُ بِهِ أوْ يَتَألَّمُ بِهِ. ونَقَلَ السُّهَيْلِيُّ في كِتابِ (دَلائِلِ النُّبُوَّةِ) مِن تَأْلِيفِهِ، حِكايَةً عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ، أنَّهُ حَفَرَ في مَكانٍ، فانْفَتَحَتْ طاقَةٌ، فَإذا شَخْصٌ جالِسٌ عَلى سَرِيرٍ وبَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفٌ يَقْرَأُ فِيهِ وأمامَهُ رَوْضَةٌ خَضْراءُ، وذَلِكَ بِأُحُدٍ، وعَلِمَ أنَّهُ مِنَ الشُّهَداءِ؛ لِأنَّهُ رَأى في صَفْحَةِ وجْهِهِ جُرْحًا. وإذا ثَبَتَ أنَّ الشُّهَداءَ أحْياءٌ، إمّا أرْواحُهم، وإمّا أجْسادُهم وأرْواحُهم، فاخْتُلِفَ في مُسْتَقَرِّها. فَقِيلَ: قُبُورُهم يُرْزَقُونَ فِيها. وقِيلَ: في قِبابٍ بِيضٍ في الجَنَّةِ يُرْزَقُونَ فِيها، قالَهُ أبُو بَشّارٍ السُّلَمِيُّ. وقِيلَ: في طَيْرٍ بِيضٍ تَأْكُلُ مِن ثِمارِ الجَنَّةِ ومَساكِنُهم سِدْرَةُ المُنْتَهى، قالَهُ قَتادَةُ. وقِيلَ: يَأْكُلُونَ مِن ثَمَرِ الجَنَّةِ ويَجِدُونَ رِيحَها، ولَيْسُوا فِيها، قالَهُ مُجاهِدٌ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «الشُّهَداءُ عَلى نَهْرٍ بِبابِ الجَنَّةِ في قُبَّةٍ خَضْراءَ» . ورُوِيَ: في رَوْضَةٍ خَضْراءَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ رِزْقُهم مِنَ الجَنَّةِ بُكْرَةً وعَشِيًّا. ورُوِيَ عَنْهُ ﷺ: «أنَّ أرْواحَ الشُّهَداءِ في طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِن ثَمَرِ الجَنَّةِ، وأنَّهم في قَنادِيلَ مِن ذَهَبٍ، وأنَّهم في قُبَّةٍ خَضْراءَ» . وإذا صَحَّ ذَلِكَ فَهي أحْوالٌ لِطَوائِفَ مِنَ الشُّهَداءِ، أوْ في أوْقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. والجُمْهُورُ: عَلى أنَّهم في الجَنَّةِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ ﷺ لِأُمِّ حارِثَةَ: ”إنَّهم في الفِرْدَوْسِ“ . ومَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ: أنَّ الأرْواحَ لا تَفْنى، وأنَّها باقِيَةٌ بَعْدَ خُرُوجِها مِنَ البَدَنِ. فَأرْواحُ أهْلِ السَّعادَةِ مُنَعَّمَةٌ إلى يَوْمِ الدِّينِ، وأرْواحُ أهْلِ الشَّقاوَةِ مُعَذَّبَةٌ إلى يَوْمِ الدِّينِ. والفَرْقُ بَيْنَ الشَّهِيدِ وغَيْرِهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ إنَّما هو الرِّزْقُ، فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وقالَ تَعالى في حَقِّ الكُفّارِ: ﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا﴾ [غافر: ٤٦] . وقالَ الحَسَنُ: الشُّهَداءُ أحْياءٌ عِنْدَ اللَّهِ، تُعْرَضُ أرْزاقُهم عَلى أرْواحِهِمْ، فَيَصِلُ إلَيْهِمُ الرَّوْحُ والفَرَحُ، كَما تُعْرَضُ النّارُ عَلى آلِ فِرْعَوْنَ غُدْوَةً وعَشِيًّا، فَيَصِلُ إلَيْهِمُ الوَجَعُ. وقالُوا: يَجُوزُ أنْ يَجْمَعَ اللَّهُ مِن أجْزاءِ الشَّهِيدِ جُمْلَةً فَيُحْيِيها ويُوصِلَ إلَيْها النَّعِيمَ، وإنْ كانَتْ في حَجْمِ الذَّرَّةِ. ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ لِرِزْقِ أرْواحِ الشُّهَداءِ ولا لِمُسْتَقَرِّها، وإنَّما جَرى ذِكْرُ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِطْرادِ، اتِّباعًا لِلْمُفَسِّرِينَ، حَيْثُ تَكَلَّمُوا في ذَلِكَ في هَذِهِ الآيَةِ، وإلّا فَمَظِنَّةُ الكَلامِ عَلى ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩]، حَيْثُ ذَكَرَ العِنْدِيَّةَ والرِّزْقَ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿لِمَن يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾، العُمُومُ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في شُهَداءِ بَدْرٍ، كانُوا أرْبَعَةَ عَشَرَ، ولا يُخَصَّصُ هَذا العُمُومُ بِهَذا السَّبَبِ، بَلِ العِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وفي هَذِهِ الآيَةِ تَسْلِيَةٌ لِأقْرِباءِ الشُّهَداءِ وإخْوانِهِمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ أنَّهم أحْياءٌ، فَهم مَغْبُوطُونَ لا مَحْزُونٌ عَلَيْهِمْ. ﴿ولَنَبْلُوَنَّكم بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ ونَقْصٍ مِنَ الأمْوالِ والأنْفُسِ والثَّمَراتِ﴾: تَقَدَّمَ أنَّ الِابْتِلاءَ: هو الِاخْتِبارُ، لِيُعْلَمُ ما يَكُونُ مِن حالِ المُخْتَبَرِ، وهَذا مُسْتَحِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى، وإنَّما مَعْناهُ هُنا: الإجابَةُ، والضَّمِيرُ الَّذِي لِلْخِطابِ. قِيلَ: هو لِلصَّحابَةِ فَقَطْ، قالَهُ عَطاءٌ. خاطَبَهم بِذَلِكَ بَعْدَ الهِجْرَةِ، وأخْبَرَهم بِذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ؛ لِأنَّهُ إذا تَقَدَّمَ العِلْمُ بِالواقِعِ، كانَ قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُ، بِخِلافِ الأشْياءِ الَّتِي تُفاجِئُ، فَإنَّها أصْعَبُ عَلى النَّفْسِ، وزِيادَةَ ثَوابٍ وأجْرٍ عَلى ما يَحْصُلُ لَهم مِنِ انْتِظارِ المُصِيبَةِ، وإخْبارًا بِمُغَيَّبٍ يَقَعُ وفْقَ ما أخْبَرَ، وتَمْيِيزًا لِمَن أسْلَمَ مُرِيدًا وجْهَ اللَّهِ مِمَّنْ نافَقَ، وازْدِيادَ إخْلاصٍ في حالِ البَلاءِ عَلى إخْلاصِهِ في حالِ العافِيَةِ، وحَمْلًا لِمَن لَمْ يُسْلِمْ عَلى النَّظَرِ في دَلائِلَ الإسْلامِ، إذْ رَأى هَؤُلاءِ المُبْتَلِينَ صابِرِينَ عَلى دِينِهِمْ ثابِتِي الجَأْشِ فِيهِ، مَعْ ما ابْتُلُوا بِهِ. وقِيلَ: هَؤُلاءِ أهْلُ مَكَّةَ، خاطَبَهم بِذَلِكَ إعْلامًا أنَّهُ أجابَ دَعْوَةَ نَبِيَّهُ ﷺ فِيهِمْ، ولِيَبْقُوا يَتَوَقَّعُونَ المُصِيبَةَ، فَتُضاعَفُ عَلَيْهِمُ المُصِيباتُ. وقِيلَ: هو خِطابٌ لِلْأُمَّةِ، ويَكُونُ آخِرَ الزَّمانِ، قالَ كَعْبٌ: يَأْتِي عَلى النّاسِ زَمانٌ لا تَحْمِلُ النَّخْلَةُ إلّا ثَمَرَةً، يَكُونُ هَذا الإخْبارُ تَحْذِيرًا ومَوْعِظَةً عَلى الرُّكُونِ إلى الدُّنْيا وزَهْرَتِها، ويَكُونُ إخْبارًا بِالمُغَيَّباتِ. وقِيلَ: الخِطابُ لا يُرادُ بِهِ مُعَيَّنٌ، بَلْ هو عامٌّ، لا يَتَقَيَّدُ بِزَمانٍ ولا (p-٤٥٠)بِمُخاطَبٍ خاصٍّ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ولَنُصِيبَنَّ بِكَذا، فَيَكُونُ في ذَلِكَ تَحْذِيرٌ، وأنَّهُ لِلصَّحابَةِ وغَيْرِهِمْ. وهَذِهِ الآيَةُ لَها تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ [البقرة: ٤٥] الآيَةَ، وقَبْلَها: ﴿واشْكُرُوا لِي﴾ [البقرة: ١٥٢]، والشُّكْرُ يُوجِبُ زِيادَةَ النِّعَمِ، والِابْتِلاءُ بِما ذُكِرَ يُنافِيهِ ظاهِرًا، وتَوْجِيهُهُ أنَّ إتْمامَ الشَّرائِعِ إتْمامٌ لِلنِّعْمَةِ ولِذَلِكَ يُوجِبُ الشُّكْرَ، والقِيامُ بِتِلْكَ الشَّرائِعِ لا يُمْكِنُ إلّا بِتَحَمُّلِ المَشاقِّ، فَأمَرَ فِيها بِالصَّبْرِ، وأنَّهُ أنْعَمَ عَلَيْهِ أوَّلًا فَشَكَرَ، وابْتُلِيَ ثانِيًا فَصَبَرَ، لِيَنالَ دَرَجَتَيِ الشُّكْرِ والصَّبْرِ، فَيَكْمُلُ إيمانُهُ. كَما رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: «الإيمانُ نِصْفانِ: نِصْفٌ صَبْرٌ، ونِصْفٌ شُكْرٌ» . بِشَيْءٍ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾، والباءُ فِيهِ لِلْإلْصاقِ، وأفْرَدَهُ لِيَدُلَّ عَلى التَّقْلِيلِ، إذْ لَوْ جَمَعَهُ فَقالَ: بِأشْياءَ، لاحْتَمَلَ أنْ تَكُونَ ضُرُوبًا مِن كُلِّ واحِدٍ مِمّا بَعْدَهُ. وقَدْ قَرَأ الضَّحّاكُ: بِأشْياءَ، فَلا يَكُونُ حَذْفٌ فِيما بَعْدَها، فَيَكُونُ ”مِن“ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، بِخِلافِ قِراءَةِ الجُمْهُورِ: بِشَيْءٍ، فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ حَذْفٍ أيْ شَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ، وشَيْءٍ مِنَ الجُوعِ، وشَيْءٍ مِن نَقْصٍ. والمَعْنى في هَذِهِ القِراءَةِ: ولَنَبْلُوَنَّكم بِطَرَفٍ مِن كَذا وكَذا. والخَوْفُ: خَوْفُ العَدُوِّ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَدْ حَصَلَ الخَوْفُ الشَّدِيدُ في وقْعَةِ الأحْزابِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: هو خَوْفُ اللَّهِ تَعالى. والجُوعُ: القَحْطُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، عَبَّرَ بِالمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ. وقِيلَ: الجُوعُ: الفَقْرُ، عَبَّرَ بِالمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ أيْضًا. وقالَ الشّافِعِيُّ: هو صِيامُ شَهْرِ رَمَضانَ. ونَقْصٍ مِنَ الأمْوالِ: بِالخُسْرانِ والهَلاكِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: بِالصَّدَقاتِ. والأنْفُسِ: بِالقَتْلِ والمَوْتِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: بِالأمْراضِ، وقِيلَ: بِالشَّيْبِ. والثَّمَراتِ: يَعْنِي الجَوائِحَ في الثَّمَراتِ، وقِلَّةَ النَّباتِ، وانْقِطاعَ البَرَكاتِ. وقالَ القَفّالُ: قَدْ يَكُونُ نَقْصُها بِالجُدُوبِ، وقَدْ يَكُونُ بِتَرْكِ عِمارَةِ الضِّياعِ لِلِاشْتِغالِ بِالجِهادِ، وقَدْ يَكُونُ بِالإنْفاقِ عَلى مَن يَرِدُ مِنَ الوُفُودِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقِيلَ: بِظُهُورِ العَدُوِّ عَلَيْهِمْ. وقالَ الشّافِعِيُّ: والثَّمَراتُ: مَوْتُ الأوْلادِ؛ لِأنَّ ولَدَ الرَّجُلِ ثَمَرَةُ قَلْبِهِ. وفي حَدِيثِ أبِي مُوسى، «أنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ إذا ماتَ ولَدُ العَبْدِ: ”أقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤادِهِ“» ؟ . وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: المُرادُ في هَذِهِ الآيَةِ: مُؤَنُ الجِهادِ وكُلَفُهُ، فالخَوْفُ مِنَ العَدُوِّ، والجُوعُ بِهِ وبِالأسْفارِ إلَيْهِ، ونَقْصُ الأمْوالِ بِالنَّفَقاتِ فِيهِ، والأنْفُسِ بِالقَتْلِ، والثَّمَراتِ بِإصابَةِ العَدُوِّ لَها، أوِ الغَفْلَةِ عَنْها بِسَبَبِ الجِهادِ. انْتَهى كَلامُهُ. وعَطَفَ ”ونَقْصٍ“ عَلى قَوْلِهِ: ”بِشَيْءٍ“، أيْ: ولَنَمْتَحِنَنَّكم بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ وبِنَقْصٍ، ويُحَسِّنُ العَطْفُ تَنْكِيرَها، عَلى أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى الخَوْفِ والجُوعِ فَيَكُونَ تَقْدِيرُهُ: وشَيْءٍ مِن نَقْصٍ. ومِنَ الأمْوالِ: مُتَعَلِّقٌ بِنَقْصٍ؛ لِأنَّهُ مَصْدَرُ نَقَصَ، وهو يَتَعَدّى إلى واحِدٍ، وقَدْ حُذِفَ، أيْ: ونَقْصِ شَيْءٍ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِنَقْصٍ. وتَكُونَ مِن لِابْتِداءِ الغايَةِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِذَلِكَ المَحْذُوفِ، أيْ ونَقْصِ شَيْءٍ مِنَ الأمْوالِ، وتَكُونُ مِن إذْ ذاكَ لِلتَّبْعِيضِ. وقالُوا: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِن عِنْدَ الأخْفَشِ زائِدَةً، أيْ ونَقْصِ الأمْوالِ والأنْفُسِ والثَّمَراتِ. وأتى بِالجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ مُقْسِمًا عَلَيْها، تَأْكِيدًا لِوُقُوعِ الِابْتِلاءِ، وإسْنادُ الفِعْلِ إلَيْهِ صَرِيحٌ في إضافَةِ أسْبابِ البَلايا إلَيْهِ. وأنَّ هَذِهِ المِحَنَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، ووَعْدَهُ بِها المُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلى أنَّها لَيْسَتْ عُقُوباتٍ، بَلْ إذا قارَنَها الصَّبْرُ أفادَتْ دَرَجَةً عالِيَةً في الدِّينِ. وجاءَ هَذا التَّرْتِيبُ في العَطْفِ عَلى سَبِيلِ التَّرَقِّي: فَأخْبَرَ أوَّلًا بِالِابْتِلاءِ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ، وهو تَوَقُّعُ ما يَرِدُ مِنَ المَكْرُوهِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنهُ إلى الِابْتِلاءِ بِشَيْءٍ مِنَ الجُوعِ، وهو أشَدُّ مِنَ الخَوْفِ بِأيِّ تَفْسِيرٍ فُسِّرَ بِهِ مِنَ القَحْطِ، أوِ الفَقْرِ، أوِ الحاجَةِ إلى الأكْلِ، إلّا عَلى تَفْسِيرِ الشّافِعِيِّ، وهو صَوْمُ رَمَضانَ. ولا تَرَقِّيَ بَيْنَ نَقْصٍ وشَيْءٍ، عَلى ما اخْتارَهُ مِن عَطْفِ نَقْصٍ عَلى بِشَيْءٍ، بَلِ التَّرَقِّي في العَطْفِ بَعْدَ ”ونَقْصٍ“ فَبَدَأ أوَّلًا بِالأمْوالِ، ثُمَّ تَرَقّى إلى الأنْفُسِ. وأمّا ”والثَّمَراتِ“، فَجاءَ كالتَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ؛ لِأنَّها تَنْدَرِجُ تَحْتَ الأمْوالِ، فَلا تَرَقِّيَ فِيها. ﴿وبَشِّرِ الصّابِرِينَ﴾: خِطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، أوْ لِكُلِّ مَن تَتَأتّى مِنهُ البِشارَةُ، أيْ عَلى الجِهادِ بِالنَّصْرِ، أوْ عَلى الطّاعَةِ بِالجَزاءِ، (p-٤٥١)أوْ عَلى المَصائِبِ بِالثَّوابِ، أقْوالٌ: والأحْسَنُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ، أيْ كُلُّ مَن صَبَرَ صَبْرًا مَحْمُودًا شَرْعًا، فَهو مُنْدَرِجٌ في الصّابِرِينَ. قالُوا: والصَّبْرُ مِن خَواصِّ الإنْسانِ؛ لِأنَّهُ يَتَعارَضُ فِيهِ العَقْلُ والشَّهْوَةُ، وهو بَدَنِيٌّ. وهو: إمّا فِعْلِيٌّ، كَتَعاطِي الأعْمالِ الشّاقَّةِ، وإمّا احْتِمالٌ، كالصَّبْرِ عَلى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ، ونَفْسِيٌّ، وهو قَمْعُ النَّفْسِ عَنْ مُشْتَهَياتِ الطَّبْعِ. فَإنْ كانَ مِن شَهْوَةِ الفَرْجِ والبَطْنِ، سُمِّيَ عِفَّةً. وإنْ كانَ مِنِ احْتِمالِ مَكْرُوهٍ، اخْتَلَفَتْ أسامِيهِ بِاخْتِلافِ المَكْرُوهِ. فَفي المُصِيبَةِ يُقْتَصَرُ عَلَيْهِ بِاسْمِ الصَّبْرِ، ويُضادُّهُ الجَزَعُ. وإنْ كانَ في الغِنى، سُمِّيَ ضَبْطَ النَّفْسِ، ويُضادُّهُ البَطَرُ. وإنْ كانَ في حَرْبٍ، سُمِّيَ شَجاعَةً، ويُضادُّهُ الجُبْنُ. وإنْ كانَ في نائِبَةٍ مُضْجِرَةٍ، سُمِّي سَعَةَ صَدْرٍ، ويُضادُّهُ الضَّجَرُ. وإنْ كانَ في إخْفاءِ كَلامٍ، سُمِّيَ كِتْمانًا، ويُضادُّهُ الإعْلانُ. وإنْ كانَ في فُضُولِ الدُّنْيا، سُمِّيَ زُهْدًا، ويُضادُّهُ الحِرْصُ. وإنْ كانَ عَلى يَسِيرٍ مِنَ المالِ، سُمِّي قَناعَةً، ويُضادُّهُ الشَّرَهُ. وقَدْ جَمَعَ اللَّهُ أقْسامَ ذَلِكَ وسَمّى جَمِيعَها صَبْرًا، فَقالَ: ﴿والصّابِرِينَ في البَأْساءِ﴾ [البقرة: ١٧٧]، أيِ المُصِيبَةِ، والضَّرّاءِ أيِ الفَقْرِ ﴿وحِينَ البَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧] أيِ المُحارَبَةِ. قالَ القَفّالُ: لَيْسَ الصَّبْرُ أنْ لا يَجِدَ الإنْسانُ ألَمَ المَكْرُوهِ، ولا أنْ لا يَكْرَهَ ذَلِكَ، إنَّما هو حَمْلُ النَّفْسِ عَلى تَرْكِ إظْهارِ الجَزَعِ، وإنْ ظَهَرَ دَمْعُ عَيْنٍ، أوْ تَغَيُّرُ لَوْنٍ، ولَوْ ظَهَرَ مِنهُ أوَّلُ ما لا يُعَدُّ مَعَهُ صابِرًا ثُمَّ صَبَرَ، لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ إلّا سِلْوانًا. ﴿الَّذِينَ إذا أصابَتْهم مُصِيبَةٌ﴾: يَجُوزُ في: ”الَّذِينَ“ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى النَّعْتِ لِلصّابِرِينَ، وهو ظاهِرُ الإعْرابِ، أوْ مَنصُوبًا عَلى المَدْحِ، فَيَكُونُ مَقْطُوعًا، أوْ مَرْفُوعًا عَلى إضْمارِ هم، عَلى وجْهَيْنِ: إمّا عَلى القَطْعِ، وإمّا عَلى الِاسْتِئْنافِ، كَأنَّهُ جَوابٌ لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ، أيْ: مَنِ الصّابِرُونَ ؟ قِيلَ: هُمُ الَّذِينَ إذا. وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُبْتَدَأً، وأُولَئِكَ عَلَيْهِمْ خَبَرُهُ، وهو مُحْتَمَلٌ. مُصِيبَةٌ: اسْمُ فاعِلٍ مِن أصابَتْ، وصارَ لَها اخْتِصاصٌ بِالشَّيْءِ المَكْرُوهِ، وصارَتْ كِنايَةً عَنِ الدّاهِيَةِ، فَجَرَتْ مَجْرى الأسْماءِ ووَلِيَتِ العَوامِلَ. وأصابَتْهم: مُصِيبَةٌ مِنَ التَّجْنِيسِ المُغايِرِ، وهو أنْ يَكُونَ إحْدى الكَلِمَتَيْنِ اسْمًا والأُخْرى فِعْلًا، ومِنهُ: ﴿أزِفَتِ الآزِفَةُ﴾ [النجم: ٥٧]؛ ﴿إذا وقَعَتِ الواقِعَةُ﴾ [الواقعة: ١] . والمُصِيبَةُ: كُلُّ ما أذى المُؤْمِنَ في نَفْسٍ أوْ مالٍ أوْ أهْلٍ، صَغُرَتْ أوْ كَبُرَتْ، حَتّى انْطِفاءِ المِصْباحِ لِمَن يَحْتاجُهُ يُسَمّى مُصِيبَةً. ورُوِيَ ذَلِكَ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أنَّهُ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ انْطِفاءِ مِصْباحِهِ» . والمَعْنى في إذا هُنا: عَلى التَّكْرارِ والعُمُومِ. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا ذِكْرُ الخِلافِ في إذا، أتَدُلُّ عَلى التَّكْرارِ، أمْ وُضِعَتْ لِلْمَرَّةِ الواحِدَةِ ؟ قَوْلانِ لِلنَّحْوِيِّينَ. ﴿قالُوا إنّا لِلَّهِ﴾: ”قالُوا“: جَوابُ إذا، والشَّرْطُ وجَوابُهُ صِلَةٌ لِلَّذِينَ. ”وإنّا“: أصْلُهُ إنَّنا؛ لِأنَّها إنْ دَخَلَتْ عَلى الضَّمِيرِ المَنصُوبِ المُتَّصِلِ، فَحُذِفَتْ نُونٌ مِن إنَّ. ويَنْبَغِي أنْ تَكُونَ المَحْذُوفَةُ هي الثّانِيَةَ؛ لِأنَّها ظَرْفٌ، ولِأنَّها عُهِدَ فِيها الحَذْفُ إذا خُفِّفَتْ، فَقالُوا: إنْ زَيْدٌ لَقائِمٌ، وهو حَذْفٌ هُنا لِاجْتِماعِ الأمْثالِ، فَلِذَلِكَ عَمِلَتْ، إذْ لَوْ كانَ مِنَ الحَذْفِ لا لِهَذِهِ العِلَّةِ؛ لانْفَصَلَ الضَّمِيرُ وارْتَفَعَ ولَمْ تَعْمَلْ؛ لِأنَّها إذا خُفِّفَتْ هَذا التَّخْفِيفَ لَمْ تَعْمَلْ في الضَّمِيرِ. ولِلَّهِ: مَعْناهُ الإقْرارُ بِالمُلْكِ والعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، فَهو المُتَصَرِّفُ فِينا بِما يُرِيدُ مِنَ الأُمُورِ. ﴿وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ﴾: إقْرارٌ بِالبَعْثِ وتَنْبِيهٌ عَلى مُصِيبَةِ المَوْتِ الَّتِي هي أعْظَمُ المَصائِبِ، وتَذْكِيرٌ أنَّ ما أصابَ الإنْسانَ دُونَها فَهو قَرِيبٌ يَنْبَغِي أنْ يَصِيرَ لَهُ. ولِلْمُفَسِّرِينَ في هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ المَقُولَتَيْنِ أقْوالٌ: أحَدُها: أنَّ نُفُوسَنا وأمْوالَنا وأهْلِينا لِلَّهِ لا يَظْلِمُنا فِيما يَصْنَعُهُ بِنا. الثّانِي: أسْلَمْنا الأمْرَ لِلَّهِ ورَضِينا بِقَضائِهِ، ﴿وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ يَعْنِي: لِلْبَعْثِ لِثَوابِ المُحْسِنِ ومُعاقَبَةِ المُسِيءِ. الثّالِثُ: راجِعُونَ إلَيْهِ في جَبْرِ المُصابِ وإجْزالِ الثَّوابِ. الرّابِعُ: أنَّ مَعْناهُ إقْرارٌ بِالمَمْلَكَةِ في قَوْلِهِ: ﴿إنّا لِلَّهِ﴾، وإقْرارٌ بِالهَلَكَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ . وفِي المُنْتَخَبِ ما مُلَخَّصُهُ: أنَّ إسْنادَ الإصابَةِ إلى المُصِيبَةِ، لا إلى اللَّهِ تَعالى، لِيَعُمَّ ما كانَ مِنَ اللَّهِ وما كانَ مِن غَيْرِهِ. فَما كانَ مِنَ اللَّهِ فَهو داخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿إنّا لِلَّهِ﴾؛ لِأنَّ في الإقْرارِ بِالعُبُودِيَّةِ تَفْوِيضًا لِلْأُمُورِ إلَيْهِ، وما كانَ مِن غَيْرِهِ فَتَكْلِيفُهُ أنْ يَرْجِعَ إلى اللَّهِ في الإنْصافِ (p-٤٥٢)مِنهُ، ولا يَتَعَدّى، كَأنَّهُ في الأوَّلِ ﴿إنّا لِلَّهِ﴾، يُدَبِّرُ كَيْفَ يَشاءُ، وفي الثّانِي: ﴿وإنّا إلَيْهِ﴾، يُنْصِفُ لَنا كَيْفَ يَشاءُ. وقِيلَ: ﴿إنّا لِلَّهِ﴾، دَلِيلٌ عَلى الرِّضا بِما نَزَلَ بِهِ في الحالِ، ﴿وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ﴾، دَلِيلٌ عَلى الرِّضا في الحالِ بِكُلِّ ما سَيَنْزِلُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. واشْتَمَلَتِ الآيَةُ عَلى فَرْضٍ ونَفْلٍ. فالفَرْضُ: التَّسْلِيمُ لِأمْرِ اللَّهِ، والرِّضا بِقَدَرِهِ، والصَّبْرُ عَلى أداءِ فَرائِضِهِ. والنَّفْلُ: إظْهارُ القَوْلِ ﴿إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ﴾، وفي إظْهارِهِ فَوائِدُ مِنها: غَيْظُ الكُفّارِ لِعِلْمِهِمْ بِجِدِّهِ في طاعَةِ اللَّهِ. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِن رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ﴾، أُولَئِكَ مُبْتَدَأٌ، وصَلَواتٌ: ارْتِفاعُها عَلى الفاعِلِ بِالجارِّ والمَجْرُورِ، أيْ: أُولَئِكَ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ، فَيَكُونُ قَدْ أخْبَرَ عَنِ المُبْتَدَأِ بِالمُفْرَدِ، وهَذا أوْلى مِن جَعْلِ صَلَواتٍ مُبْتَدَأً، والجارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ خَبَرِهِ. والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ خَبَرِ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ إخْبارًا عَنِ المُبْتَدَأِ بِالجُمْلَةِ. والصَّلاةُ مِنَ اللَّهِ: المَغْفِرَةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ؛ أوِ الثَّناءُ، قالَهُ ابْنُ كَيْسانَ، أوِ الغُفْرانُ والثَّناءُ الحَسَنُ، قالَهُ الزَّجّاجُ. والرَّحْمَةُ: قِيلَ هي الصَّلَواتُ، كُرِّرَتْ تَأْكِيدًا لَمّا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ، كَقَوْلِهِ ﴿رَأْفَةً ورَحْمَةً﴾ [الحديد: ٢٧] . وقِيلَ: ”الرَّحْمَةُ“: كَشْفُ الكُرْبَةِ وقَضاءُ الحاجَةِ. وقالَ عُمَرُ: نِعْمَ العَدْلانِ ونِعْمَ العِلاوَةُ، وتَلا: ﴿الَّذِينَ إذا أصابَتْهُمْ﴾ الآيَةَ، يَعْنِي بِالعَدْلَيْنِ: الصَّلَواتِ والرَّحْمَةَ، وبِالعِلاوَةِ: الِاهْتِداءَ. وفي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ، اسْمُ الإشارَةِ المَوْضُوعُ لِلْبُعْدِ دَلالَةً عَلى بُعْدِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، كَما جاءَ: ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] . والكِنايَةُ عَنْ حُصُولِ الغُفْرانِ والثَّناءِ بِقَوْلِهِ: ﴿عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ﴾ بِحَرْفِ عَلى، إشارَةً إلى أنَّهم مُنْغَمِسُونَ في ذَلِكَ، قَدْ غَشِيَتْهم وتَجَلَّلَتْهم، وهو أبْلَغُ مِن قَوْلِهِ لَهم. وجَمَعَ صَلَواتٍ، لِيَدُلَّ عَلى أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُطْلَقَ صَلاةٍ، بَلْ صَلاةٌ بَعْدَ صَلاةٍ، ونُكِّرَتْ لِأنَّهُ لا يُرادُ العُمُومُ. ووَصَفَها بِكَوْنِها مِن رَبِّهِمْ، لِيَدُلَّ بِمِن عَلى ابْتِدائِها مِنَ اللَّهِ، أيْ تَنْشَأُ تِلْكَ الصَّلَواتُ وتَبْتَدِئُ مِنَ اللَّهِ تَعالى. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مِن تَبْعِيضِيَّةً، فَيَكُونُ ثَمَّ حَذْفَ مُضافٍ، أيْ ”صَلَواتٌ مِن صَلَواتِ رَبِّهِمْ“ . وأتى بِلَفْظِ الرَّبِّ، لِما فِيهِ مِن دَلالَةِ التَّرْبِيَةِ والنَّظَرِ لِلْعَبْدِ فِيما يُصْلِحُهُ ويُرَبِّهِ بِهِ. وإنْ كانَ أُرِيدَ بِالرَّحْمَةِ الصَّلَواتُ، فَلا يَحْتاجُ إلى تَقْيِيدٍ بِصِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ؛ لِأنَّها قَدْ تَقَيَّدَتْ. وإنْ كانَ أُرِيدَ بِها ما يُغايِرُ الصَّلَواتِ، فَيُقَدَّرُ: ورَحْمَةٌ مِنهُ، فَيَكُونُ قَدْ حُذِفَتِ الصِّفَةُ لِما تَقَدَّمَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ: (مِن رَبِّهِمْ)، مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: (عَلَيْهِمْ)، فَلا يَكُونُ صِفَةً، بَلْ يَكُونُ مَعْمُولًا لِلرّافِعِ لِصَلَواتٍ، وتَرَتَّبَ عَلى مَقامِ الصَّبْرِ ومَقالِ هَذِهِ الكَلِماتِ الدّالَّةِ عَلى التَّفْوِيضِ لِلَّهِ تَعالى، هَذا الجَزاءُ الجَزِيلُ والثَّناءُ الجَمِيلُ. وقَدْ جاءَ في السُّنَّةِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيبَةِ، جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وأحْسَنَ عُقْباهُ، وجَعَلَ لَهُ خَلَفًا صالِحًا يَرْضاهُ» . وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَن تَذَكَّرَ مُصِيبَتَهُ، فَأحْدَثَ اسْتِرْجاعًا، وإنْ تَقادَمَ عَهْدُها، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَهُ يَوْمَ أُصِيبَ» . وحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ مَشْهُورٌ، حَيْثُ أخْلَفَها اللَّهُ عَنْ أبِي سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ . وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ما أُعْطِيَ أحَدٌ في المُصِيبَةِ ما أُعْطِيَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ، ولَوْ أُعْطِيها أحَدٌ قَبْلَها لِأُعْطِيَها يَعْقُوبُ. ألا تَرى كَيْفَ قالَ حِينَ فَقَدَ يُوسُفَ ؟ ﴿ياأسَفى عَلى يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٨٤] . ﴿وأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾: إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْهم بِالهِدايَةِ، ومَن أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِالهِدايَةِ فَلَنْ يَضِلَّ أبَدًا. وهَذِهِ جُمْلَةٌ ثابِتَةٌ تَدُلُّ عَلى الِاعْتِناءِ بِأمْرِ المُخْبَرِ عَنْهُ، إذْ كُلُّ وصْفٍ لَهُ يَبْرُزُ في جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. وبُدِئَ بِالجُمْلَةِ الأُولى؛ لِأنَّها أهَمُّ في حُصُولِ الثَّوابِ المُتَرَتِّبِ عَلى الوَصْفِ الَّذِي قَبْلَهُ، وأُخِّرَتْ هَذِهِ؛ لِأنَّها تَنَزَّلَتْ مِمّا قَبْلَها مَنزِلَةَ العِلَّةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ القَوْلَ المُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الجَزاءُ الجَزِيلُ لا يَصْدُرُ إلّا عَمَّنْ سَبَقَتْ هِدايَتُهُ. وأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: ”هم“ .، وبِالألِفِ واللّامِ، كَأنَّ الهِدايَةَ انْحَصَرَتْ فِيهِمْ وبِاسْمِ الفاعِلِ، لِيَدُلَّ عَلى الثُّبُوتِ؛ لِأنَّ الهِدايَةَ لَيْسَتْ مِنَ الأفْعالِ المُتَجَدِّدَةِ وقْتًا بَعْدَ وقْتٍ فَيُخْبَرُ عَنْها بِالفِعْلِ، بَلْ هي وصْفٌ ثابِتٌ. وقِيلَ: ”المُهْتَدُونَ“ في اسْتِحْقاقِ الثَّوابِ وإجْزالِ الأجْرِ. وقِيلَ: إلى تَسْهِيلِ المُصابِ وتَخْفِيفِ الحُزْنِ. وقِيلَ: إلى الِاسْتِرْجاعِ. وقِيلَ: إلى الحَقِّ والصَّوابِ، وهَذِهِ التَّقْيِيداتُ لا دَلالَةَ عَلَيْها في (p-٤٥٣)اللَّفْظِ، فالأوْلى الحَمْلُ عَلى الهِدايَةِ الَّتِي هي الإيمانُ، ونَظِيرُ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ قَوْلُهُ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥] . والكَلامُ في إعْرابِ: ”هُمُ المُهْتَدُونَ“، كالكَلامِ عَلى: ”هُمُ المُفْلِحُونَ“، وقَدْ تَقَدَّمَ. (وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الكَرِيمَةُ) مَزِيدَ التَّوْكِيدِ في الأمْرِ بِتَوْلِيَةِ وجْهِهِ مِن حَيْثُ خَرَجَ ﷺ شَطْرَ المَسْجِدِ، وبِتَوْلِيَتِهِمْ وُجُوهَهم شَطْرَهُ لِلِاعْتِناءِ بِأمْرِ نَسْخِ القِبْلَةِ، حَيْثُ كانَ النَّسْخُ صَعْبًا عَلى النُّفُوسِ، حَيْثُ ألِفُوا أمْرًا، وأُمِرُوا بِتَرْكِهِ والِانْتِقالِ إلى غَيْرِهِ، وخُصُوصًا عِنْدَ مَن لا يَرى النَّسْخَ. فَلِذَلِكَ كُرِّرَ وأنَّهُ تَعالى أمَرَ بِذَلِكَ وفِعْلِهِ؛ لِانْتِفاءِ حُجَجِ النّاسِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ إذا كانَ بِأمْرٍ مِنهُ تَعالى لَمْ تَبْقَ لِأحَدٍ حُجَّةٌ عَلى مُمْتَثِلِ أمْرِ اللَّهِ؛ لِأنَّ أمْرَ اللَّهِ ثانِيًا كَأمْرِهِ أوَّلًا. وهو قَدْ أمَرَ أوَّلًا بِاسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وأمَرَ آخِرًا بِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ. فَلا فَرْقَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ، ولا حُجَّةَ لِمَن خالَفَ. واسْتَثْنى مِنَ النّاسِ مَن ظَلَمَ؛ لِأنَّهُ لا تَنْقَطِعُ حُجَجُهُ وإنْ كانَتْ باطِلَةً، ولا تَشْغِيباتُهُ وتَمْوِيهاتُهُ؛ لِأنَّهُ قامَ بِهِ وصْفٌ يَمْنَعُهُ مِن إدْراكِ الحَقِّ والبَلْجُ بِهِ، ثُمَّ أمَرَهم تَعالى بِخَشْيَتِهِ، ونَهاهم عَنْ خَشْيَةِ النّاسِ؛ لِأنَّهم إذا خَشُوا اللَّهَ تَعالى امْتَثَلُوا أوامِرَهُ واجْتَنِبُوا مَناهِيَهُ. وعَطَفَ عَلى تِلْكَ العِلَّةِ عِلَّةً أُخْرى، وهي إتْمامُ النِّعْمَةِ بِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ إذْ في ذَلِكَ اتِّباعُ أبِيكم إبْراهِيمَ، والرُّجُوعُ إلى المَأْلُوفِ، ولِتَحْصِيلِ الهِدايَةِ. وشَبَّهَ هَذا الإتْمامَ بِإتْمامِ نِعْمَةِ إرْسالِ الرَّسُولِ مِنهم فِيهِمْ، إذْ هَذِهِ النِّعْمَةُ هي الأصْلُ، وهي مَنبَعُ النِّعَمِ والهِدايَةِ، ثُمَّ وصَفَ المُرْسَلُ إلَيْهِمْ بِتِلْكَ الأوْصافِ الجَلِيلَةِ الَّتِي رُزِقُوا مِنها الحَظَّ الأكْمَلَ، وهي تِلاوَةُ الكِتابِ عَلَيْهِمْ: ﴿أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥١] فَكَيْفَ بِمَزِيدِ التَّزْكِيَةِ والتَّعْلِيمِ اللَّذَيْنِ بِهِما تَحْصُلُ الطَّهارَةُ مَنِ الأرْجاسِ، والحَياةُ السَّرْمَدِيَّةُ في النّاسِ ؟ ؎أخُو العِلْمِ حَيٌّ خالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وأوْصالُهُ تَحْتَ التُّرابِ رَمِيمُ وقالَ آخَرٌ: ؎مَحَلُّ العَلَمِ لا يَأْوِي تُرابًا ∗∗∗ ولا يَبْلى عَلى الزَّمَنِ القَدِيمِ ثُمَّ أمَرَهم تَعالى بِالذِّكْرِ لِهَذِهِ النِّعَمِ لِئَلّا يَنْسَوْها، وبِالشُّكْرِ عَلَيْها لِأنْ يَزِيدَهم مِنَ النِّعَمِ، ثُمَّ نَهاهم عَنْ كُفْرانِها؛ لِأنَّ كُفْرانَ النِّعَمِ يَقْتَضِي زَوالَها واسْتِحْقاقَ العَذابِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. ثُمَّ نادى مَنِ اتَّصَفَ بِالإيمانِ، وهو ثانِي نِداءٍ لِلْمُؤْمِنِينَ في هَذِهِ السُّورَةِ، لِيُقْبِلُوا عَلى ما يَأْمُرُهم بِهِ. فَأمَرَهم بِالِاسْتِعانَةِ بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ؛ لِأنَّ الِاسْتِعانَةَ بِهِما تُحَصِّلُ سَعادَةَ الدُّنْيا والآخِرَةِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ مَعَ مَن صَبَرَ ثُمَّ نَهاهم عَنْ أنْ يَقُولُوا لِلشُّهَداءِ إنَّهم أمْواتٌ، وأخْبَرَ أنَّهم أحْياءٌ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُ ما أخْبَرَ بِهِ، وذَكَرَ أنّا لا نَشْعُرُ نَحْنُ بِحَياتِهِمْ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ يَبْتَلِيهِمْ بِما يَظْهَرُ مِنهم فِيهِ الصَّبْرُ، وهو شَيْءٌ مِنَ البَلايا الَّتِي ذَكَرَها تَعالى. ثُمَّ أمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يُبَشِّرَ الصّابِرِينَ عَلى ما ابْتُلُوا بِهِ، المُسَلِّمِينَ لِقَضاءِ اللَّهِ اعْتِقادًا وقَوْلًا صَرِيحًا أنَّهم عَبِيدُ اللَّهِ ومَمالِيكُهُ، وإلَيْهِ مَآبُهم ومَرْجِعُهم، يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَما أرادَ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذا الوَصْفِ، فَعَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ الصَّلاةُ والرَّحْمَةُ، وهو المُهْتَدِي الَّذِي ثَبَتَتْ هِدايَتُهُ ورَسَخَتْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب