الباحث القرآني

ولَمّا أشارَ لَهم إلى ما يَسْتَقْبِلُونَهُ مِن حالِ الطّاعِنِينَ في دِينِهِمْ ورَقّاهم في ذَلِكَ دَرَجَةً [بَعْدَ دَرَجَةٍ ] أتْبَعَهُ ما دَلَّ عَلى أنَّ الأمْرَ يَصِلُ إلى القَتْلِ وما داناهُ لِيَأْخُذُوا لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ ويَعْتَدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ. وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَ الصَّبْرُ لِلَّهِ إنَّما هو حَمْلُ النَّفْسِ عَلى ما تَعْهَدَ فِيهِ كُرْهَها أنْبَأهُمُ الحَقُّ تَعالى أنَّ الصَّبْرَ لَهُ لَيْسَ عَلى المَعْهُودِ وأنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ عِنْدَ تَجَشُّمِهِ حَلاوَةَ لَذَّةِ الحَياةِ وإنْ كانَ ذَلِكَ مِمّا لا يَنالُهُ شُعُورُ الَّذِينَ آمَنُوا لِخَفائِهِ عَنْ إدْراكِ المَعْقُولِ فَأنْبَأهم بِما يَحْمِلُهم عَلى تَجَشُّمِ الصَّبْرِ في الجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ فَقالَ: ﴿ولا تَقُولُوا﴾ عَطْفًا (p-٢٤٩)عَلى مُتَجاوِزِ أُمُورٍ تَقْتَضِيها بَرَكَةُ الجِهادِ. انْتَهى. أيْ: وجاهِدُوهم لِتَقْتُلُوهم ويَقْتُلُوكم وتَسْلُبُوهم ويَسْلُبُوكم ولا تَقُولُوا، أوْ يُقالُ: ولَمّا كانَ الصَّبْرُ واقِعًا عَلى أُمُورٍ أشَقُّها الجِهادُ ثُمَّ الحَجُّ ثُمَّ الصَّوْمُ وكانَ بَعْضُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم قَدْ سَألُوا عَمَّنْ ماتَ مِنهم عَلى قِبْلَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ فَبَيَّنَ لَهم ما صارُوا إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] تِلْوَ آيَةِ الصَّبْرِ بِتَبْيِينِ حالِ الشُّهَداءِ المَقْتُولِينَ في الجِهادِ مِنَ المُؤْمِنِينَ دَفْعًا لِظَنِّ أنَّهم أمْواتٌ والتِفاتًا إلى ما أشارَ بِهِ إلى صَيْرُورَةِ الأمْرِ إلى الحَرْبِ حَيْثُ عابَ المانِعِينَ لِلْمَسْجِدِ وأخْبَرَ بِأنَّهُ سَيَحْصُلُ لَهم خِزْيٌ في الدُّنْيا بِالقَتْلِ والأسْرِ وعَذابٌ عَظِيمٌ في الآخِرَةِ بِالنّارِ والسُّخْطِ، وإيماءٌ إلى أنَّهُ سَيَأْذَنُ لَهم في مُقارَعَةِ مَن أمَرَهم بِالصَّبْرِ عَلى أذاهم مِن أهْلِ الكِتابِ حَتّى يَمْحَقَهُمُ السَّيْفُ ويَسْكُنَهُمُ الذُّلُّ والخَوْفُ، فالمَعْنى: اصْبِرُوا عَلى كُلِّ ما يَقُولُهُ أهْلُ الكِتابِ وغَيْرُهم في أمْرِ القِبْلَةِ وغَيْرِهِ وعَلى كُلِّ ما يُغِيرُ بِهِ الشَّيْطانُ في وجْهِ الإيمانِ وصَلُّوا إلى البَيْتِ الَّذِي وجَّهْتُكم إلَيْهِ وجاهِدُوا كُلَّ مَن خالَفَكم حَتّى يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ صابِرِينَ عَلى كُلِّ ما يَنُوبُ في ذَلِكَ مِنَ القَتْلِ والنَّهْبِ وغَيْرِهِ ولا تَقُولُوا إذا قاتَلْتُمُ الكُفّارَ (p-٢٥٠)المُناصِبِينَ لَكم مِنَ العَرَبِ وغَيْرِهِمْ مِن أهْلِ الكِتابِ وغَيْرِهِمْ ﴿لِمَن يُقْتَلُ﴾ مِنكم ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ بِأنْ يُقاتِلُوا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا لا لِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ مِن دُنْيا أوْ عَصَبِيَّةٍ، فَإنّا سَنَكْتُبُ عَلَيْكُمُ الجِهادَ، ونَسْتَشْهِدُ مِنكم شُهَداءَ: إنَّهم ﴿أمْواتٌ﴾ بَلْ قُولُوا: إنَّهم شُهَداءُ، فَإنَّهم لَيْسُوا بِأمْواتٍ ﴿بَلْ﴾ هم ﴿أحْياءٌ﴾ وسَيَأْتِي في آلِ عِمْرانَ أنَّ ذَلِكَ مَعْنى الشَّهِيدِ. قالَ الحَرالِّيُّ: فَكَأنَّهُ تَعالى يَنْفِي عَنِ المُجاهِدِ مِثالَ المَكْرُوهِ مِن كُلِّ وجْهٍ حَتّى في أنْ يُقالَ عَنْهُ إنَّهُ مَيِّتٌ، فَحَماهُ مِنَ القَوْلِ الَّذِي هو عِنْدَهم مِن أشَدِّ غَرَضِ أنْفُسِهِمْ لِاعْتِلاقِ أنْفُسِهِمْ بِجَمِيلِ الذِّكْرِ، ثُمَّ قالَ وأبْهَمَ أمْرَهم في هَذِهِ السُّورَةِ ونَفى عَنْهُمُ القَوْلَ، لِأنَّ هَذِهِ سُورَةُ الكِتابِ المَدْعُوِّ بِهِ الخَلْقُ وصَرَّحَ بِتَفْضِيلِهِ في آلِ عِمْرانَ لِأنَّها سُورَةُ قِيامِ اللَّهِ الَّذِي بِهِ تَجَلّى الحَقُّ فَأظْهَرَ غَيْبَ أمْرِهِ في سُورَةِ إظْهارِ أمْرِهِ وأخْفاهُ في سُورَةِ ظاهِرِ دَعْوَتِهِمْ. انْتَهى. ولَمّا كانَ الحِسُّ قاصِرًا عَمّا أخْبَرَ بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى قالَ مُنَبِّهًا عَلى ذَلِكَ ﴿ولَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ أنَّهم أحْياءٌ كَما تَرَوْنَ النِّيامَ هُمُودًا (p-٢٥١)لا يَتَحَرَّكُونَ ولا شُعُورَ لَكم بِمَن فِيهِمْ يَنْظُرُ، أحْلامًا مِن غَيْرِهِ، فَلا فَخْرَ أعْظَمَ مِن ذَلِكَ في الدُّنْيا ولا عَيْشَ أرْغَدَ مِنهُ في الآخِرَةِ، وأمّا المَقْتُولُ مِن أعْدائِكم فَلَيْسَ لَهُ في الدُّنْيا إلّا الخِزْيُ والفَضِيحَةُ بِالقَهْرِ والذُّلِّ والهَوانِ والعَذابِ الَّذِي لا آخِرَ لَهُ في الآخِرَةِ. قالَ الحَرالِّيُّ: قالَ ذَلِكَ نَفْيًا بِكَلِمَةِ لا ومِثالِ الدَّوامِ فَفِيهِ إعْلامٌ بِأنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لَيْسَ في رُتْبَتِهِمُ الشُّعُورُ بِهِ أصْلًا إلّا أنْ يُرَقِّيَهُمُ اللَّهُ بِنَماءِ سَنِّ القُلُوبِ وصَفاءِ الأنْفُسِ إلى ما فَوْقَ ذَلِكَ مِن سَنِّ المُؤْمِنِينَ إلى سَنِّ المُحْسِنِينَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ مِنَ الغَيْبِ ما لا يَشْهَدُهُ مَن في رُتْبَةِ الَّذِينَ آمَنُوا. انْتَهى. وفي هَذا إشارَةٌ إلى أنَّ كَوْنَ اللَّهِ مَعَهم لا يَمْنَعُ أنْ يُسْتَشْهَدَ مِنهم شُهَداءُ، بَلْ ذَلِكَ مِن ثَمَراتِ كَوْنِ اللَّهِ مَعَهم حَيْثُ يَظْفَرُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنهم بِسَعادَةِ الأُخْرى ومَن بَقِيَ بِسَعادَةِ الدّارَيْنِ، وتَلْخِيصُ ذَلِكَ أنْ يُقالَ إنَّهُ لَمّا كانَ حاصِلُ ما تَقَدَّمَ (p-٢٥٢)فِي هَذِهِ السُّورَةِ أنَّ أهْلَ الأرْضِ كُلَّهم قَرِيبَهم وبِعِيدَهم وثَنِيَّهم وكِتابِيَّهم مُطْبِقُونَ عَلى عَداوَةِ أهْلِ هَذا الدِّينِ وكانَ كَثِيرًا ما يَأْمُرُهم بِالصَّبْرِ عَلى أذاهُمُ اشْتَدَّ تَشَوُّفُ النُّفُوسِ إلى أنَّهُ هَلْ بَعْدَ هَذا الكَفِّ مِن فِعْلٍ، فَأشارَ إلى أنَّهُ سَيَأْمُرُ بَعْدَ الصَّبْرِ عَلى أذى اللِّسانِ بِالصَّبْرِ عَلى جِلادِ السَّيْفِ والسِّنانِ أمْرًا عامًّا فَقالَ عاطِفًا هَذا النَّهْيَ عَلى الأمْرِ بِالصَّبْرِ، أيِ: اصْبِرُوا الآنَ عَلى هَذا الأذى ثُمَّ اصْبِرُوا إذا أمَرْتُكم بِالجِهادِ عَلى وقْعِ السُّيُوفِ واقْتِحامِ الحُتُوفِ وفَقْدِ مَن يُقْتَلُ مِنكم ولا تَصِفُوهم بِالمَوْتِ، ولَعَلَّهُ فاجَأهم بِما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ تَوْطِينًا لَهم عَلى القَتْلِ في سَبِيلِهِ وكانَ اسْتِشْرافُهم إلى الحَرْبِ قَدْ كَثُرَ وبَشَّرَهم بِأنَّ القَتِيلَ فِيهِ حَيٌّ وإنْ رُئِيَ مَيِّتًا تَسْلِيَةً لَهم عَنْ هَذا الحادِثِ العَظِيمِ والخَطْبِ الجَسِيمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب