الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّما هم في شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ الطَّرِيقَ الواضِحَ في الدِّينِ، وهو أنْ يَعْتَرِفَ الإنْسانُ بِنُبُوَّةِ مَن قامَتِ الدَّلالَةُ عَلى نُبُوَّتِهِ، وأنْ يَحْتَرِزَ في ذَلِكَ عَنِ المُناقَضَةِ: رَغَّبَهم في مِثْلِ هَذا الإيمانِ فَقالَ: ﴿فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ . مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ المَقْصُودَ مِنهُ التَّثْبِيتُ والمَعْنى: إنْ حَصَّلُوا دِينًا آخَرَ مِثْلَ دِينِكم ومُساوِيًا لَهُ في الصِّحَّةِ والسَّدادِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، لَمّا اسْتَحالَ أنْ يُوجَدَ دِينٌ آخَرُ يُساوِي هَذا الدِّينَ في السَّدادِ اسْتَحالَ الِاهْتِداءُ بِغَيْرِهِ ونَظِيرُهُ قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تُشِيرُ عَلَيْهِ: هَذا هو الرَّأْيُ والصَّوابُ فَإنْ كانَ عِنْدَكَ رَأْيٌ أصْوَبَ مِنهُ فاعْمَلْ بِهِ وقَدْ عَلِمْتَ أنْ لا أصْوَبَ مِن رَأْيِكَ ولَكِنَّكَ تُرِيدُ تَثْبِيتَ صاحِبِكَ وتَوْقِيفَهُ عَلى أنَّ ما رَأيْتَ لا رَأْيَ وراءَهُ، وإنَّما قُلْنا: إنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يُوجَدَ دِينٌ آخَرُ يُساوِي هَذا الدِّينَ في السَّدادِ لِأنَّ هَذا الدِّينَ مَبْناهُ عَلى أنَّ كُلَّ مَن ظَهَرَ عَلَيْهِ المُعْجِزُ وجَبَ الِاعْتِرافُ بِنُبُوَّتِهِ، وكُلُّ ما غايَرَ هَذا الدِّينَ لا بُدَّ وأنْ يَشْتَمِلَ عَلى المُناقَضَةِ، والمُتَناقِضُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ مُساوِيًا لِغَيْرِ المُتَناقِضِ في السَّدادِ والصِّحَّةِ. وثانِيها: أنَّ المِثْلَ صِلَةٌ في الكَلامِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشُّورى: ١١] أيْ لَيْسَ كَهو شَيْءٌ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎وِصالِيّاتٌ كَكَما يُؤْثَفِينَ وكانَتْ أُمُّ الأحْنَفِ تُرَقِّصُهُ وتَقُولُ: ؎واللَّهِ لَوْلا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ ؎ودِقَّةٌ في ساقِهِ مِن هَزْلِهِ ∗∗∗ ما كانَ مِنكم أحَدٌ كَمِثْلِهِ (p-٧٧)وثالِثُها: أنَّكم آمَنتُمْ بِالفُرْقانِ مِن غَيْرِ تَصْحِيفٍ وتَحْرِيفٍ، فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ وهو التَّوْراةُ مِن غَيْرِ تَصْحِيفٍ وتَحْرِيفٍ فَقَدِ اهْتَدَوْا لِأنَّهم يَتَّصِلُونَ بِهِ إلى مَعْرِفَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ . ورابِعُها: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ﴾ أيْ فَإنْ صارُوا مُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ ما بِهِ صِرْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَقَدِ اهْتَدَوْا، فالتَّمْثِيلُ في الآيَةِ بَيْنَ الإيمانَيْنِ والتَّصْدِيقَيْنِ، ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قالَ: لا تَقُولُوا فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ مِثْلٌ ولَكِنْ قُولُوا فَإنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ، قالَ القاضِي: لا وجْهَ لِتَرْكِ القِراءَةِ المُتَواتِرَةِ مِن حَيْثُ يُشْكِلُ المَعْنى ويُلَبِّسُ لِأنَّ ذَلِكَ إنْ جَعَلَهُ المَرْءُ مَذْهَبًا لَزِمَهُ أنْ يُغَيِّرَ تِلاوَةَ كُلِّ الآياتِ المُتَشابِهاتِ وذَلِكَ مَحْظُورٌ والوَجْهُ الأوَّلُ في الجَوابِ هو المُعْتَمَدُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ فالمُرادُ فَقَدْ عَمِلُوا بِما هُدُوا إلَيْهِ وقَبِلُوهُ، ومَن هَذا حالُهُ يَكُونُ ولِيًّا لِلَّهِ داخِلًا في أهْلِ رِضْوانِهِ، فالآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الهِدايَةَ كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ هَذا الِاهْتِداءِ، وتِلْكَ الهِدايَةُ لا يُمْكِنُ حَمْلُها إلّا عَلى الدَّلائِلِ الَّتِي نَصَبَها اللَّهُ تَعالى وكَشَفَ عَنْها وبَيَّنَ وُجُوهَ دَلالَتِها. * * * ثُمَّ بَيَّنَ عَلى وجْهِ الزَّجْرِ ما يَلْحَقُهم إنْ تَوَلَّوْا فَقالَ: ﴿وإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّما هم في شِقاقٍ﴾ وفي الشِّقاقِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: قالَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ: الشِّقاقُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّقِّ، كَأنَّهُ صارَ في شِقٍّ غَيْرِ شِقِّ صاحِبِهِ بِسَبَبِ العَداوَةِ وقَدْ شَقَّ عَصا المُسْلِمِينَ إذا فَرَّقَ جَماعَتَهم وفارَقَها، ونَظِيرُهُ: المُحادَّةُ وهي أنْ يَكُونَ هَذا في حَدٍّ وذاكَ في حَدٍّ آخَرَ، والتَّعادِي مِثْلُهُ لِأنَّ هَذا يَكُونُ في عُدْوَةٍ وذاكَ في عُدْوَةٍ، والمُجانَبَةُ أنْ يَكُونَ هَذا في جانِبٍ وذاكَ في جانِبٍ آخَرَ. وقالَ آخَرُونَ: إنَّهُ مِنَ المَشَقَّةِ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَحْرِصُ عَلى ما يَشُقُّ عَلى صاحِبِهِ ويُؤْذِيهِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما﴾ [النِّساءِ: ٣٥] أيْ فِراقَ بَيْنِهِما في الِاخْتِلافِ حَتّى يَشُقَّ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ. البَحْثُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿وإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّما هم في شِقاقٍ﴾ أيْ إنْ تَرَكُوا مِثْلَ هَذا الإيمانِ فَقَدِ التَزَمُوا المُناقَضَةَ والعاقِلُ لا يَلْتَزِمُ المُناقَضَةَ البَتَّةَ فَحَيْثُ التَزَمُوها عَلِمْنا أنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهم طَلَبَ الدِّينِ والِانْقِيادَ وإنَّما غَرَضُهُمُ المُنازَعَةُ وإظْهارُ العَداوَةِ. ثُمَّ لِلْمُفَسِّرِينَ عِباراتٌ: أوَّلُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: ﴿فَإنَّما هم في شِقاقٍ﴾ في خِلافٍ مُذْ فارَقُوا الحَقَّ وتَمَسَّكُوا بِالباطِلِ فَصارُوا مُخالِفِينَ لِلَّهِ. وثانِيها: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ ومُقاتِلٌ في شِقاقٍ: أيْ في ضَلالٍ. وثالِثُها: قالَ ابْنُ زَيْدٍ في مُنازَعَةٍ ومُحارَبَةٍ. ورابِعُها: قالَ الحَسَنُ في عَداوَةٍ قالَ القاضِي: ولا يَكادُ يُقالُ في المُعاداةِ عَلى وجْهِ الحَقِّ أوِ المُخالَفَةِ الَّتِي لا تَكُونُ مَعْصِيَةً إنَّهُ شِقاقٌ وإنَّما يُقالُ ذَلِكَ في مُخالَفَةٍ عَظِيمَةٍ تُوقِعُ صاحِبَها في عَداوَةِ اللَّهِ وغَضَبِهِ ولَعْنِهِ وفي اسْتِحْقاقِ النّارِ فَصارَ هَذا القَوْلُ وعِيدًا مِنهُ تَعالى لَهم وصارَ وصْفُهم بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلى أنَّ القَوْمَ مُعادُونَ لِلرَّسُولِ مُضْمِرُونَ لَهُ السُّوءَ مُتَرَصِّدُونَ لِإيقاعِهِ في المِحَنِ، فَعِنْدَ هَذا آمَنَهُ اللَّهُ تَعالى مِن كَيْدِهِمْ وآمَنَ المُؤْمِنِينَ مِن شَرِّهِمْ ومَكْرِهِمْ فَقالَ: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ تَقْوِيَةٌ لِقَلْبِهِ وقَلْبِ المُؤْمِنِينَ لِأنَّهُ تَعالى إذا تَكَفَّلَ بِالكِفايَةِ في أمْرٍ حَصَلَتِ الثِّقَةُ بِهِ قالَ المُتَكَلِّمُونَ: هَذا إخْبارٌ عَنِ الغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا دالًّا عَلى صِدْقِهِ وإنَّما قُلْنا إنَّهُ إخْبارٌ عَنِ الغَيْبِ وذَلِكَ لِأنّا وجَدْنا مُخْبِرَ هَذا القَوْلِ عَلى ما أخْبَرَ بِهِ لِأنَّهُ تَعالى كَفاهُ شَرَّ اليَهُودِ والنَّصارى ونَصَرَهُ عَلَيْهِمْ حَتّى غَلَبَهُمُ المُسْلِمُونَ وأخَذُوا دِيارَهم وأمْوالَهم فَصارُوا أذِلّاءَ في أيْدِيهِمْ يُؤَدُّونَ إلَيْهِمُ الخَراجَ والجِزْيَةَ أوْ لا يَقْدِرُونَ البَتَّةَ (p-٧٨)عَلى التَّخَلُّصِ مِن أيْدِيهِمْ وإنَّما قُلْنا: إنَّهُ مُعْجِزٌ لِأنَّهُ المُتَخَرِّصُ لا يُصِيبُ في مِثْلِ ذَلِكَ عَلى التَّفْصِيلِ، قالَ المُلْحِدُونَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ هَذا مُعْجِزٌ وذَلِكَ لِأنَّ المُعْجِزَ هو الَّذِي يَكُونُ ناقِضًا لِلْعادَةِ، وقَدْ جَرَتِ العادَةُ بِأنَّ كُلَّ مَن كانَ مُبْتَلًى بِإيذاءِ غَيْرِهِ فَإنَّهُ يُقالُ لَهُ: اصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ يَكْفِيكَ شَرَّهُ، ثُمَّ قَدْ يَقَعُ ذَلِكَ تارَةً ولا يَقَعُ أُخْرى، وإذا كانَ هَذا مُعْتادًا فَكَيْفَ يُقالُ: إنَّهُ مُعْجِزٌ وأيْضًا لَعَلَّهُ تَوَصَّلَ إلى ذَلِكَ بِرُؤْيا رَآها، وذَلِكَ مِمّا لا سَبِيلَ إلى دَفْعِهِ، فَإنَّ المُنَجِّمِينَ يَقُولُونَ: مَن كانَ سَهْمُ الغَيْبِ في طالِعِهِ فَإنَّهُ يَأْتِي بِمِثْلِ هَذِهِ الأخْبارِ وإنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. والجَوابُ: أنَّهُ لَيْسَ غَرَضُنا مِن قَوْلِنا أنَّهُ مُعْجِزٌ أنَّ هَذا الإخْبارَ وحْدَهُ مُعْجِزٌ، بَلْ غَرَضُنا أنَّ القُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلى كَثِيرٍ مِن هَذا النَّوْعِ، والإخْبارُ عَنِ الأشْياءِ الكَثِيرَةِ عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مِمّا لا يَتَأتّى مِنَ المُتَخَرِّصِ الكاذِبِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا وعَدَهُ بِالنُّصْرَةِ والمَعُونَةِ أتْبَعَهُ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ مِن هَذا الأمْرِ لا يَخْفى عَلَيْهِ تَعالى فَقالَ: ﴿وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ وعِيدٌ لَهم والمَعْنى أنَّهُ يُدْرِكُ ما يُضْمِرُونَ ويَقُولُونَ وهو عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلا يَجُوزُ لَهم أنْ يَقَعَ مِنهم أمْرٌ إلّا وهو قادِرٌ عَلى كِفايَتِهِ إيّاهم فِيهِ. الثّانِي: أنَّهُ وعْدٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ يَعْنِي: يَسْمَعُ دُعاءَكَ ويَعْلَمُ نِيَّتَكَ وهو يَسْتَجِيبُ لَكَ ويُوصِلُكَ إلى مُرادِكَ، واحْتَجَّ الأصْحابُ بِقَوْلِهِ: ﴿وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ عَلى أنَّ سَمْعَهُ تَعالى زائِدٌ عَلى عِلْمِهِ بِالمَسْمُوعاتِ لِأنَّ قَوْلَهُ: (عَلِيمٌ) بِناءُ مُبالَغَةٍ فَيَتَناوَلُ كَوْنَهُ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، فَلَوْ كانَ كَوْنُهُ سَمِيعًا عِبارَةً عَنْ عِلْمِهِ بِالمَسْمُوعاتِ لَزِمَ التَّكْرارُ وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ صِفَةُ كَوْنِهِ تَعالى سَمِيعًا أمْرًا زائِدًا عَلى وصْفِهِ بِكَوْنِهِ عَلِيمًا واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ﴾ فَفِيهِ إشْكالٌ وهو أنَّ الَّذِي آمَنَ بِهِ المُؤْمِنُونَ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، وجَوابُهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب