الباحث القرآني

﴿قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ﴾ الآيَةَ، خَرَجَ البُخارِيُّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: كانَ أهْلُ الكِتابِ يَقْرَءُونَ التَّوْراةَ بِالعِبْرانِيَّةِ، ويُفَسِّرُونَها بِالعَرَبِيَّةِ لِأهْلِ الإسْلامِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتابِ ولا تُكَذِّبُوهم، ولَكِنْ قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ إلَيْنا - الآيَةَ - فَإنْ كانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ وإنْ كانَ كَذِبًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ» . والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (قُولُوا) عائِدٌ عَلى الَّذِينَ قالُوا: ﴿كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١٣٥] . أمَرُوا بِأنْ يَكُونُوا عَلى الحَقِّ، ويُصَرِّحُوا بِهِ. ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى المُؤْمِنِينَ، وهو أظْهَرُ. وارْتَبَطَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِما قَبْلَها؛ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ [البقرة: ١٣٥]، جَوابًا إلْزامِيًّا، وهو أنَّهم: وما أُمِرُوا بِاتِّباعِ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ، وإنَّما كانَ ذَلِكَ مِنهم عَلى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ. هَذا، وكُلُّ طائِفَةٍ مِنهُما تُكَفِّرُ الأُخْرى، أُجِيبُوا بِأنَّ الأوْلى في التَّقْلِيدِ اتِّباعَ إبْراهِيمَ، لِأنَّهم - أعْنِي الطّائِفَتَيْنِ المُخْتَلِفَتَيْنِ - قَدِ اتَّفَقُوا عَلى صِحَّةِ دِينِ إبْراهِيمَ. والأخْذُ بِالمُتَّفَقِ أوْلى مِنَ الأخْذِ بِالمُخْتَلَفِ فِيهِ، إنْ كانَ الدِّينُ بِالتَّقْلِيدِ. فَلَمّا ذَكَرَ هُنا جَوابًا إلْزامِيًّا، ذَكَرَ بَعْدَهُ بُرْهانًا في هَذِهِ الآيَةِ، وهو ظُهُورُ المُعْجِزَةِ عَلَيْهِمْ بِإنْزالِ الآياتِ. وقَدْ ظَهَرَتْ عَلى يَدِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَوَجَبَ الإيمانُ بِنُبُوَّتِهِ. فَإنَّ تَخْصِيصَ بَعْضٍ بِالقَبُولِ وبَعْضٍ بِالرَّدِّ، يُوجِبُ التَّناقُضُ في الدَّلِيلِ، وهو مُمْتَنِعٌ عَقْلًا. ﴿وما أُنْزِلَ إلَيْنا﴾: إنْ كانَ الضَّمِيرُ في قُولُوا لِلْمُؤْمِنِينَ، فالمُنَزَّلُ إلَيْهِمْ هو القُرْآنُ، وصَحَّ نِسْبَةُ إنْزالِهِ إلَيْهِمْ، لِأنَّهم فِيهِ هُمُ المُخاطَبُونَ بِتَكالِيفِهِ مِنَ الأمْرِ والنَّهْيِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وتَعْدِيَةُ أُنْزِلَ بِإلى، دَلِيلٌ عَلى انْتِهاءِ المُنَزَّلِ إلَيْهِمْ. وإنْ كانَ الضَّمِيرُ في قُولُوا عائِدًا عَلى اليَهُودِ والنَّصارى، فالمُنَزَّلُ إلى اليَهُودِ: التَّوْراةُ، والمُنَزَّلُ إلى النَّصارى: الإنْجِيلُ، ويَلْزَمُ مِنَ الإيمانِ بِهِما، الإيمانُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ . ويَصِحُّ أنْ يُرادَ بِالمُنَزَّلِ إلَيْهِمُ: القُرْآنُ؛ لِأنَّهم أُمِرُوا بِاتِّباعِهِ، وبِالإيمانِ بِهِ، وبِمَن جاءَ عَلى يَدَيْهِ. ﴿وما أُنْزِلَ إلى إبْراهِيمَ﴾: الَّذِي أُنْزِلَ عَلى إبْراهِيمَ عَشْرُ صَحائِفَ. قالَ: ﴿إنَّ هَذا لَفي الصُّحُفِ الأُولى﴾ [الأعلى: ١٨] ﴿صُحُفِ إبْراهِيمَ ومُوسى﴾ [الأعلى: ١٩]، وكَرَّرَ المَوْصُولُ؛ لِأنَّ المُنَزَّلَ إلَيْنا - وهو القُرْآنُ - غَيْرُ تِلْكَ الصَّحائِفَ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلى إبْراهِيمَ. فَلَوْ حُذِفَ المَوْصُولُ، لَأوْهَمَ أنَّ المُنَزَّلَ إلَيْنا هو المُنَزَّلُ إلى إبْراهِيمَ، قالُوا: ولَمْ يُنَزَّلْ إلى إسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطِ، وعُطِفُوا عَلى إبْراهِيمَ، لِأنَّهم كُلِّفُوا العَمَلَ بِهِ والدُّعاءَ إلَيْهِ، فَأُضِيفَ الإنْزالُ إلَيْهِمْ، كَما أُضِيفَ في قَوْلِهِ: ﴿وما أُنْزِلَ إلَيْنا﴾ . والأسْباطُ هم أوْلادُ يَعْقُوبَ، وهُمُ اثْنا عَشَرَ سِبْطًا. قالَ الشَّرِيفُ أبُو البَرَكاتِ الجَوانِيُّ النَّسّابَةُ: ووَلَدُ يَعْقُوبَ النَّبِيِّ ﷺ: يُوسُفُ النَّبِيُّ ﷺ صاحِبُ مِصْرَ وعَزِيزُها، وهو السِّبْطُ الأوَّلُ مِن أسْباطِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - الِاثْنَيْ عَشَرَ، والأسْباطُ سِوى يُوسُفَ: كاذُ، وبِنْيامِينُ، ويَهُوذا، ويَفْتالِي، وزُبُولُونُ، وشَمْعُونُ، ورُوبِينُ، ويَساخا، ولاوِي، وذانُ، وياشِيرْخا مِن يَهُوذا بْنِ يَعْقُوبَ، وسُلَيْمانُ النَّبِيُّ ﷺ . وجاءَ مِن سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - النَّبِيِّ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرانَ، أُمُّ المَسِيحِ - عَلَيْهِما السَّلامُ - . وجاءَ مِن لاوِي بْنِ يَعْقُوبَ: مُوسى كَلِيمُ اللَّهِ وهارُونُ أخُوهُ - عَلَيْهِما السَّلامُ - . انْتَهى كَلامُهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والأسْباطُ هم ولَدُ يَعْقُوبَ. وهم: رُوبِيلُ، وشَمْعُونُ، ولاوِي، ويَهُوذا، ورَفالُونُ، وبِشْجَرُ، وذَيْنَةُ بِنْتُهُ، وأُمُّهم لَياثِمُ، خَلَفٌ عَلى أُخْتِها راحِيلَ، فَوَلَدَتْ لَهُ: يُوسُفَ، وبِنْيامِينَ. ووُلِدَ لَهُ مِن سُرِّيَّتَيْنِ: دانِي، ونَفْتالِي، وجادُ، وآشِرُ. انْتَهى كَلامُهُ، وهو مُخالِفٌ لِكَلامِ الجَوانِيِّ في بَعْضِ الأسْماءِ. وقِيلَ: رُوبِيلُ أكْبَرُ ولَدِهِ. وقالَ الحُسَيْنُ بْنُ أحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ البَيْسانِيُّ: رُوبِيلُ أصَحُّ وأثْبَتُ، يَعْنِي بِاللّامِ، قالَ: وقَبْرُهُ في قَرافَةِ مِصْرَ، في لَحْفِ الجَبَلِ، في تُرْبَةِ اليَسَعَ - عَلَيْهِما السَّلامُ - . (p-٤٠٨)﴿وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى﴾: أيْ: وآمَنّا بِالَّذِي أُوتِيَ مُوسى مِنَ التَّوْراةِ والآياتِ، وعِيسى مِنَ الإنْجِيلِ والآياتِ. ومُوسى هُنا: هو مُوسى بْنُ عِمْرانَ كَلِيمُ اللَّهِ. وقالَ الحُسَيْنُ بْنُ أحْمَدَ البَيْسانِيُّ: وفي ولَدِ مِيشا بْنِ يُوسُفَ، يَعْنِي الصِّدِّيقَ مُوسى بْنَ مَيْشًا بْنِ يُوسُفَ. وزَعَمَ أهْلُ التَّوْراةِ أنَّ اللَّهَ نَبَّأهُ، وأنَّهُ صاحِبُ الخَضِرِ. وذَكَرَ المُؤَرِّخُونَ أنَّهُ لَمّا ماتَ يَعْقُوبُ، فَشا في الأسْباطِ الكِهانَةُ، فَبَعَثَ اللَّهُ مُوسى بْنَ مِيشا يَدْعُوهم إلى عِبادَةِ اللَّهِ، وهو قَبْلَ مُوسى بْنِ عِمْرانَ بِمِائَةِ سَنَةٍ، واللَّهُ أعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. انْتَهى كَلامُهُ، ونَصَّ عَلى مُوسى وعِيسى، لِأنَّهُما مَتْبُوعا اليَهُودِ والنَّصارى بِزَعْمِهِمْ، والكَلامُ مَعَهم، ولَمْ يُكَرَّرِ المَوْصُولُ في عِيسى؛ لِأنَّ عِيسى إنَّما جاءَ مُصَدِّقًا لِما في التَّوْراةِ، لَمْ يَنْسَخْ مِنها إلّا نَزْرًا يَسِيرًا. فالَّذِي أُوتِيَهُ عِيسى هو ما أُوتِيَهُ مُوسى، وإنْ كانَ قَدْ خالَفَ في نَزْرٍ يَسِيرٍ. وجاءَ: ﴿وما أُنْزِلَ إلَيْنا﴾، وجاءَ: ﴿وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى﴾، تَنْوِيعًا في الكَلامِ وتَصَرُّفًا في ألْفاظِهِ، وإنْ كانَ المَعْنى واحِدًا، هَذا لَوْ كانَ كُلُّهُ بِلَفْظِ الإيتاءِ، أوْ بِلَفْظِ الإنْزالِ، لَما كانَ فِيهِ حَلاوَةُ التَّنَوُّعِ في الألْفاظِ. ألا تَراهم لَمْ يَسْتَحْسِنُوا قَوْلَ أبِي الطَّيِّبِ: ؎ونَهْبُ نُفُوسِ أهْلِ النَّهْبِ أوْلى بِأهْلِ النَّهْبِ مِن نَهْبِ القُماشِ ولَمّا ذَكَرَ في الإنْزالِ أوَّلًا خاصًّا، عَطَفَ عَلَيْهِ جَمْعًا. كَذَلِكَ لَمّا ذَكَرَ في الإيتاءِ خاصًّا، عَطَفَ عَلَيْهِ جَمْعًا. ولَمّا أظْهَرَ المَوْصُولَ في الإنْزالِ في العَطْفِ، أظْهَرَهُ في الإيتاءِ فَقالَ: ﴿وما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ﴾، وهو تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿وما أُوتِيَ﴾ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ في الكُتُبِ والشَّرائِعِ. وفي حَدِيثٍ لِأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ أنْزَلَ اللَّهُ ؟ قالَ: ”مِائَةَ كِتابٍ وأرْبَعَةَ كُتُبٍ، أنْزَلَ عَلى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وأنْزَلَ عَلى أخْنُوخَ ثَلاثِينَ صَحِيفَةً، وأنْزَلَ عَلى إبْراهِيمَ عَشْرَ صَحائِفَ، وأنْزَلَ عَلى مُوسى قَبْلَ التَّوْراةِ عَشْرَ صَحائِفَ، ثُمَّ أنْزَلَ التَّوْراةَ، والإنْجِيلَ، والزَّبُورَ، والفُرْقانَ“» . وأمّا عَدَدُ الأنْبِياءِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ووَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أنَّهم مِائَةُ ألْفِ نَبِيٍّ، ومِائَةٌ وعِشْرُونَ ألْفَ نَبِيٍّ، كُلُّهم مِن بَنِي إسْرائِيلَ، إلّا عِشْرِينَ ألْفَ نَبِيٍّ. وعَدَدُ الرُّسُلِ: ثَلاثُمِائَةٍ وثَلاثَةَ عَشْرَةَ، كُلُّهم مِن ولَدِ يَعْقُوبَ، إلّا عِشْرِينَ رَسُولًا، ذَكَرَ مِنهم في القُرْآنِ خَمْسَةً وعِشْرِينَ، نَصَّ عَلى أسْمائِهِمْ وهم: آدَمُ، وإدْرِيسُ، ونُوحٌ، وهُودٌ، وصالِحٌ، وإبْراهِيمُ، ولُوطٌ، وشُعَيْبٌ، وإسْماعِيلُ، وإسْحاقُ، ويَعْقُوبُ، ويُوسُفُ، ومُوسى، وهارُونُ، واليَسَعُ، وإلْياسُ، ويُونُسُ، وأيُّوبُ، وداوُدُ، وسُلَيْمانُ، وزَكَرِيّا، وعُزَيْرٌ، ويَحْيى، وعِيسى، ومُحَمَّدٌ، ﷺ . وفي رِوايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ الأنْبِياءَ كُلُّهم مِن بَنِي إسْرائِيلَ، إلّا عَشَرَةً: نُوحًا، وهُودًا، وشُعَيْبًا، وصالِحًا، ولُوطًا، وإبْراهِيمَ، وإسْحاقَ، ويَعْقُوبَ، وإسْماعِيلَ، ومُحَمَّدًا، ﷺ أجْمَعِينَ. وابْتُدِئَ أوَّلًا بِالإيمانِ بِاللَّهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أصْلُ الشَّرائِعِ، وقَدَّمَ ﴿وما أُنْزِلَ إلَيْنا﴾، وإنْ كانَ مُتَأخِّرًا في الإنْزالِ عَنْ ما بَعْدَهُ؛ لِأنَّهُ أوْلى بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّ النّاسَ بَعْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، مَدْعُوُّونَ إلى الإيمانِ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ جُمْلَةً وتَفْصِيلًا. وقَدَّمَ ﴿وما أُنْزِلَ إلى إبْراهِيمَ﴾ عَلى ﴿وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى﴾، لِلتَّقَدُّمِ في الزَّمانِ، أوْ لِأنَّ المُنَزَّلَ عَلى مُوسى، ومَن ذُكِرَ مَعَهُ، هو المُنَزَّلُ إلى إبْراهِيمَ، إذْ هم داخِلُونَ تَحْتَ شَرِيعَتِهِ. ﴿وما أُوتِيَ مُوسى﴾: ظاهِرُهُ العَطْفُ عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ المَجْرُوراتِ المُتَعَلِّقَةِ بِالإيمانِ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ: ﴿وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى﴾ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، ”وما أُوتِيَ“ الثّانِيَةُ عَطْفٌ عَلى ”ما أُوتِيَ“، فَيَكُونُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ. والخَبَرُ في قَوْلِهِ ﴿مِن رَبِّهِمْ﴾، أوْ لا نُفَرِّقُ، أوْ يَكُونُ: ﴿وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى﴾ مَعْطُوفًا عَلى المَجْرُورِ قَبْلَهُ، ﴿وما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ﴾ رُفِعَ عَلى الِابْتِداءِ، و(ومِن رَبِّهِمْ) الخَبَرُ، أوْ لا نُفَرِّقُ هو الخَبَرُ. والظّاهِرُ أنَّ ”مِن رَبِّهِمْ“ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، ومِن لِابْتِداءِ الغايَةِ، فَتَتَعَلَّقُ بِـ”ما أُوتِيَ“ الثّانِيَةِ، أوْ بِـ”ما أُوتِيَ“ الأُولى، وتَكُونُ الثّانِيَةُ تَوْكِيدًا. ألا تَرى إلى سُقُوطِها في آلِ عِمْرانَ في قَوْلِهِ: ﴿وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى والنَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران: ٨٤] ؟ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ حالٍ مِنَ الضَّمِيرِ العائِدِ عَلى المَوْصُولِ، (p-٤٠٩)فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أيْ وما أُوتِيَهُ النَّبِيُّونَ كائِنًا مِن رَبِّهِمْ. ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ﴾: ظاهِرُهُ الِاسْتِئْنافُ. والمَعْنى: أنّا نُؤْمِنُ بِالجَمِيعِ، فَلا نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ، كَما فَعَلَتِ اليَهُودُ والنَّصارى. فَإنَّ اليَهُودَ آمَنُوا بِالأنْبِياءِ كُلِّهِمْ، وكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وعِيسى - صَلَواتُ اللَّهِ عَلى الجَمِيعِ - . والنَّصارى آمَنُوا بِالأنْبِياءِ، وكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ . وقِيلَ: مَعْناهُ لا نَقُولُ إنَّهم يَتَفَرَّقُونَ في أُصُولِ الدِّياناتِ. وقِيلَ: مَعْناهُ لا نَشُقُّ عَصاهم، كَما يُقالُ شَقَّ عَصا المُسْلِمِينَ إذا فارَقَ جَماعَتَهم. وأحَدٌ هُنا، قِيلَ: هو المُسْتَعْمَلُ في النَّفْيِ، فَأُصُولُهُ: الهَمْزَةُ والحاءُ والدّالُ، وهو لِلْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْتَقِرْ ”بَيْنَ“ إلى مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ؛ إذْ هو اسْمٌ عامٌّ تَحْتَهُ أفْرادٌ، فَيَصِحُّ دُخُولُ ”بَيْنَ“ عَلَيْهِ، كَما تَدْخُلُ عَلى المَجْمُوعِ فَتَقُولُ: المالُ بَيْنَ الزَّيْدَيْنِ، ولَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ هَذا الوَجْهِ. وقِيلَ: أحَدٌ هُنا بِمَعْنى: واحِدٍ، والهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنَ الواوِ، إذْ أصْلُهُ: وحَدٌ، وحُذِفَ المَعْطُوفُ لِفَهْمِ السّامِعِ، والتَّقْدِيرُ: بَيْنَ أحَدٍ مِنهم وبَيْنَ نَظِيرِهِ، فاخْتَصَرَ، أوْ بَيْنَ أحَدٍ مِنهم والآخَرِ، ويَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎فَما كانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جاءَ ∗∗∗ سالِمًا أبُو حَجَرٍ إلّا لَيالٍ قَلائِلَ يُرِيدُ: بَيْنَ الخَيْرِ وبَيْنِي، فَحَذَفَ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ، إذْ قَدْ عَلِمَ أنَّ ”بَيْنَ“ لا بُدَّ أنْ تَدْخُلَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، كَما حُذِفَ المَعْطُوفُ في قَوْلِهِ: ﴿سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] . ومَعْلُومٌ أنَّ ما وقى الحَرَّ وقى البَرْدَ، فَحَذْفُ ”والبَرْدَ“ لِفَهْمِ المَعْنى. ولَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذا الوَجْهِ. وذَكَرَ الوَجْهَيْنِ غَيْرُ الزَّمَخْشَرِيِّ وابْنِ عَطِيَّةَ، والوَجْهُ الأوَّلُ أرْجَحُ؛ لِأنَّهُ لا حَذْفَ فِيهِ. ﴿ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾: هَذا كُلُّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: (قُولُوا) . ولَمّا ذَكَرَ أوَّلًا الإيمانَ، وهو التَّصْدِيقُ، وهو مُتَعَلِّقٌ بِالقَلْبِ، خَتَمَ بِذِكْرِ الإسْلامِ، وهو الِانْقِيادُ النّاشِئُ عَنِ الإيمانِ الظّاهِرِ عَنِ الجَوارِحِ. فَجَمَعَ بَيْنَ الإيمانِ والإسْلامِ، لِيَجْتَمِعَ الأصْلُ والنّاشِئُ عَنِ الأصْلِ. وقَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الإيمانَ والإسْلامَ حِينَ سُئِلَ عَنْهُما، وذَلِكَ في حَدِيثِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - . وقَدْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: (مُسْلِمُونَ) بِأقْوالٍ مُتَقارِبَةٍ في المَعْنى، فَقِيلَ: خاضِعُونَ، وقِيلَ: مُطِيعُونَ، وقِيلَ: مُذْعِنُونَ لِلْعُبُودِيَّةِ، وقِيلَ: مُذْعِنُونَ لِأمْرِهِ ونَهْيِهِ عَقْلًا وفِعْلًا، وقِيلَ: داخِلُونَ في حُكْمِ الإسْلامِ، وقِيلَ: مُنْقادُونَ، وقِيلَ: مُخْلِصُونَ. ولَهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ”مُسْلِمُونَ“، وتَأخَّرَ عَنْهُ العامِلُ لِأجْلِ الفَواصِلِ، أوْ تَقَدَّمَ لَهُ لِلِاعْتِناءِ بِالعائِدِ عَلى اللَّهِ تَعالى لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ﴾ الآيَةَ، قَرَأها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى اليَهُودِ والنَّصارى وقالَ: ”اللَّهُ أمَرَنِي بِهَذا“ . فَلَمّا سَمِعُوا بِذِكْرِ عِيسى أنْكَرُوا وكَفَرُوا. وقالَتِ النَّصارى: إنَّ عِيسى لَيْسَ بِمَنزِلَةِ سائِرِ الأنْبِياءِ، ولَكِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ تَعالى، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿فَإنْ آمَنُوا﴾ الآيَةَ. والضَّمِيرُ في آمَنُوا عائِدٌ عَلى مَن عادَ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١٣٥] . ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخُطّابُ خاصًّا، والمُرادُ بِهِ العُمُومُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى كُلِّ كافِرٍ، فَيُفَسِّرُهُ المَعْنى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ﴾ . وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ: بِما آمَنتُمْ بِهِ. وقَرَأ أُبَيٌّ: بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَيْسَ لِلَّهِ مِثْلٌ. وهَذا يَدُلُّ عَلى إقْرارِ الباءِ عَلى حالِها في آمَنتُ بِاللَّهِ، . وإطْلاقُ ما عَلى اللَّهِ تَعالى. كَما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهم في قَوْلِهِ: ﴿والسَّماءِ وما بَناها﴾ [الشمس: ٥]، يُرِيدُ ومَن بَناها عَلى قَوْلِهِ. وقِراءَةُ أُبَيٍّ ظاهِرَةٌ، ويَشْمَلُ جَمِيعَ ما آمَنَ بِهِ المُؤْمِنُونَ. وأمّا قِراءَةُ الجُمْهُورِ، فَخَرَجَتِ الباءُ عَلى الزِّيادَةِ، والتَّقْدِيرُ: إيمانًا مِثْلَ إيمانِكم، كَما زِيدَتْ في قَوْلِهِ: ﴿وهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ [مريم: ٢٥] . ؎وسُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ ﴿ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥]، وتَكُونُ ما مَصْدَرِيَّةً. وقِيلَ: لَيْسَتْ بِزائِدَةٍ، وهي بِمَعْنى عَلى، أيْ فَإنْ آمَنُوا عَلى مِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ، وكَوْنُ الباءِ بِمَعْنى عَلى، قَدْ قِيلَ بِهِ، ومِمَّنْ قالَ بِهِ ابْنُ مالِكٍ، قالَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطارٍ﴾ [آل عمران: ٧٥]، أيْ عَلى قِنْطارٍ. وقِيلَ: هي لِلِاسْتِعانَةِ كَقَوْلِكَ: عَمِلْتُ بِالقَدُومِ، وكَتَبْتُ بِالقَلَمِ، أيْ فَإنْ دَخَلُوا في (p-٤١٠)الإيمانِ بِشَهادَةٍ مِثْلِ شَهادَتِكم، وذَلِكَ فِرارٌ مِن زِيادَةِ الباءِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِن أماكِنِ زِيادَةِ الباءِ قِياسًا. والمُؤْمِنُ بِهِ عَلى هَذِهِ الأوْجُهِ الثَّلاثَةِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَإنْ آمَنُوا بِاللَّهِ، ويَكُونُ الضَّمِيرُ في بِهِ عائِدًا عَلى ما عادَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ونَحْنُ لَهُ﴾، وهو اللَّهُ تَعالى. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى ما، وتَكُونُ إذْ ذاكَ مَوْصُولَةً. وأمّا مِثْلُ، فَقِيلَ: زائِدَةٌ، والتَّقْدِيرُ: فَإنْ آمَنُوا بِما آمَنتُمْ بِهِ، قالُوا: كَهي في قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، أيْ لَيْسَ كَهَوَ شَيْءٌ، وكَقَوْلِهِ: ؎فَصِيرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولِ وكَقَوْلِهِ: ؎يا عاذِلِي دَعْنِي مِن عَذْلِكا ∗∗∗ مِثْلِي لا يَقْبَلُ مِن مِثْلِكا وقِيلَ: لَيْسَتْ بِزائِدَةٍ. والمِثْلِيَّةُ هُنا مُتَعَلِّقَةٌ بِالِاعْتِقادِ، أيْ فَإنِ اعْتَقَدُوا مِثْلَ اعْتِقادِكم، أوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالكِتابِ، أيْ فَإنْ آمَنُوا بِكِتابٍ مِثْلِ الكِتابِ الَّذِي آمَنتُمْ بِهِ. والمَعْنى: فَإنْ آمَنُوا بِكِتابِكُمُ المُماثِلِ لِكِتابِهِمْ، أيْ فَإنْ آمَنُوا بِالقُرْآنِ الَّذِي هو مُصَدِّقٌ لِما في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ لا تَكُونُ الباءُ زائِدَةً، بَلْ هي مِثْلُها في قَوْلِهِ: آمَنتُ بِالكِتابِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذا مِن مَجازِ الكَلامِ، يَقُولُ: هَذا أمْرٌ لا يَفْعَلُهُ مِثْلُكَ، أيْ لا تَفْعَلُهُ أنْتَ. والمَعْنى: فَإنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ، وهَذا يَئُولُ إلى إلْغاءِ ”مِثْلَ“، وزِيادَتِها مِن حَيْثُ المَعْنى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ مِن بابِ التَّبْكِيتِ؛ لِأنَّ دِينَ الحَقِّ واحِدٌ لا مِثْلَ لَهُ، وهو دِينُ الإسْلامِ. ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ﴾ [آل عمران: ٨٥]، فَلا يُوجَدُ إذًا دِينٌ آخَرُ يُماثِلُ دِينَ الإسْلامِ في كَوْنِهِ حَقًّا، حَتّى إنْ آمَنُوا بِذَلِكَ الدِّينِ المُماثِلِ لَهُ، كانُوا مُهْتَدِينَ، فَقِيلَ: فَإنْ آمَنُوا بِكَلِمَةِ الشَّكِّ، عَلى سَبِيلِ العَرْضِ، والتَّقْدِيرِ: أيْ فَإنْ حَصَّلُوا دَيْنًا آخَرَ مِثْلَ دِينِكم، مُساوِيًا لَهُ في الصِّحَّةِ والسَّدادِ. ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾: وفِيهِ أنَّ دِينَهُمُ الَّذِي هم عَلَيْهِ، وكُلَّ دِينٍ سِواهُ مُغايِرٌ لَهُ غَيْرُ مُماثِلٍ؛ لِأنَّهُ حَقٌّ وهُدًى، وما سِواهُ باطِلٌ وضَلالٌ، ونَحْوُ هَذا قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تُشِيرُ عَلَيْهِ: هَذا هو الرَّأْيُ الصَّوابُ، فَإنْ كانَ عِنْدَكَ رَأْيٌ أصْوَبُ مِنهُ، فاعْمَلْ بِهِ، وقَدْ عَلِمْتَ أنْ لا أصْوَبَ مِن رَأْيِكَ، ولَكِنَّكَ تُرِيدُ تَبْكِيتَ صاحِبِكَ وتَوْقِيفَهُ عَلى أنَّ ما رَأيْتَ لا رَأْيَ وراءَهُ. انْتَهى كَلامُهُ، وهو حَسَنٌ. وجَوابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾، ولَيْسَ الجَوابُ مَحْذُوفًا، كَهو في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾ [فاطر: ٤] لِمَعْنى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ قَطْعًا، واسْتِقْبالِ الهِدايَةِ هُنا، لِأنَّها مُعَلَّقَةٌ عَلى مُسْتَقْبَلٍ، ولَمْ تَكُنْ واقِعَةً قَبْلُ. ﴿وإنْ تَوَلَّوْا﴾: أيْ إنْ أعْرَضُوا عَنِ الدُّخُولِ في الإيمانِ. ﴿فَإنَّما هم في شِقاقٍ﴾: أكَّدَ الجُمْلَةَ الواقِعَةَ شَرْطًا بِإنْ، وتَأكَّدَ مَعْنى الخَبَرِ بِحَيْثُ صارَ ظَرْفًا لَهم، وهم مَظْرُوفُونَ لَهُ. فالشِّقاقُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِمْ مِن جَمِيعِ جَوانِبِهِمْ، ومُحِيطٌ بِهِمْ إحاطَةَ البَيْتِ بِمَن فِيهِ. وهَذِهِ مُبالَغَةٌ في الشِّقاقِ الحاصِلِ لَهم بِالتَّوَلِّي، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿إنّا لَنَراكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأعراف: ٦٠]، ﴿إنّا لَنَراكَ في سَفاهَةٍ﴾ [الأعراف: ٦٦]، هو أبْلَغُ مِن قَوْلِكَ: زِيدٌ مُشاقٌّ لِعَمْرٍو، وزَيْدٌ ضالٌّ، وبَكْرٌ سَفِيهٌ. والشِّقاقُ هُنا: الخِلافُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوِ العَداوَةُ، أوِ الفِراقُ، أوِ المُنازَعَةُ، قالَهُ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، أوِ المُجادَلَةُ، أوِ الضَّلالُ والِاخْتِلافُ، أوْ خَلْعُ الطّاعَةِ، قالَهُ الكِسائِيُّ؛ أوِ البِعادُ والفِراقُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وهَذِهِ تَفاسِيرُ لِلشِّقاقِ مُتَقارِبَةُ المَعْنى. وقَدْ ذَكَرْنا مَدارَ ذَلِكَ في المُفْرَداتِ عَلى مَعْنَيَيْنِ: إمّا مِنَ المَشَقَّةِ، وإمّا أنْ يَصِيرَ في شِقٍّ وصاحِبُهُ في شِقٍّ، أيْ يَقَعُ بَيْنَهم خِلافٌ. قالَ القاضِي: ولا يَكادُ يُقالُ في العَداوَةِ عَلى وجْهِ الحَقِّ شِقاقٌ؛ لِأنَّ الشِّقاقَ في مُخالَفَةٍ عَظِيمَةٍ تُوقِعُ صاحِبَها في عَداوَةِ اللَّهِ وغَضَبِهِ، وهَذا وعِيدٌ لَهم. انْتَهى. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾: لَمّا ذَكَرَ أنَّ تَوَلِّيَهم يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الشِّقاقُ، وهو العَداوَةُ العَظِيمَةُ، أخْبَرَ تَعالى أنَّ تِلْكَ العَداوَةَ لا يَصِلُونَ إلَيْكَ بِشَيْءٍ مِنها؛ لِأنَّهُ تَعالى قَدْ كَفاهُ شَرَّهم. وهَذا الإخْبارُ ضَمانٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، كِفايَتَهُ ومَنعَهُ مِنهم، ويَضْمَنُ ذَلِكَ إظْهارَهُ عَلى أعْدائِهِ، وغَلَبَتَهُ إيّاهم؛ لِأنَّ مَن كانَ مُشاقًّا لَكَ غايَةَ الشِّقاقِ هو مُجْتَهِدٌ في أذاكَ، إذا لَمْ يَتَوَصَّلْ إلى ذَلِكَ، فَإنَّما ذَلِكَ لِظُهُورِكَ عَلَيْهِ وقُوَّةِ مَنَعَتِكَ مِنهُ، وهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] . (p-٤١١)وكَفاهُ اللَّهُ أمْرَهم بِالسَّبْيِ والقَتْلِ في قُرَيْظَةَ وبَنِي قَيْنُقاعَ، والنَّفْيِ في بَنِي النَّضِيرِ، والجِزْيَةِ في نَصارى نَجْرانَ. وعَطْفُ الجُمْلَةِ بِالفاءِ مُشْعِرٌ بِتَعَقُّبِ الكِفايَةِ عَقِيبَ شِقاقِهِمْ، والمَجِيءُ بِالسِّينِ يَدُلُّ عَلى قُرْبِ الِاسْتِقْبالِ، إذِ السِّينُ في وضْعِها أقْرَبُ في التَّنْفِيسِ مِن سَوْفَ، والذَّواتُ لَيْسَتِ المَكْفِيَّةَ، فَهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ فَسَيَكْفِيكَ شِقاقَهم، والمَكْفِيُّ بِهِ مَحْذُوفٌ، أيْ بِمَن يَهْدِيهِ اللَّهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، أوْ بِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ المُشاقِّينَ، أوْ بِإهْلاكِ أعْيانِهِمْ وإذْلالِ باقِيهِمْ بِالسَّبْيِ والنَّفْيِ والجِزْيَةِ، كَما بَيَّنّاهُ. ﴿وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾، مُناسَبَةُ هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: أنَّ كُلًّا مِنَ الإيمانِ وضِدِّهِ مُشْتَمِلٌ عَلى أقْوالٍ وأفْعالٍ، وعَلى عَقائِدَ يَنْشَأُ عَنْها تِلْكَ الأقْوالُ والأفْعالُ، فَناسَبَ أنْ يَخْتَتِمَ ذَلِكَ بِهِما، أيْ وهو السَّمِيعُ لِأقْوالِكم، العَلِيمُ بِنِيّاتِكم واعْتِقادِكم. ولَمّا كانَتِ الأقْوالُ هي الظّاهِرَةُ لَنا الدّالَّةُ عَلى ما في الباطِنِ، قُدِّمَتْ صِفَةُ السَّمِيعِ عَلى العَلِيمِ، ولِأنَّ العَلِيمَ فاصِلَةٌ أيْضًا. وتَضَمَّنَتْ هاتانِ الصِّفَتانِ الوَعِيدَ؛ لِأنَّ المَعْنى، وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ، فَيُجازِيكم بِما يَصْدُرُ مِنكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب