الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا﴾ راعى سُنَّةَ اللَّهِ في إخْفاءِ دَعْوَتِهِ لِأنَّ الجَهْرَ والإخْفاءَ عِنْدَ اللَّهِ سِيّانِ؛ فَكانَ الإخْفاءُ أوْلى؛ لِأنَّهُ أبْعَدُ عَنِ الرِّياءِ، وأدْخَلُ في الإخْلاصِ. وثانِيها: أخْفاهُ لِئَلّا يُلامَ عَلى طَلَبِ الوَلَدِ في زَمانِ الشَّيْخُوخَةِ. وثالِثُها: أسَرَّهُ مِن مَوالِيهِ الَّذِينَ خافَهم. ورابِعُها: خَفِيَ صَوْتُهُ لِضَعْفِهِ وهَرَمِهِ كَما جاءَ في صِفَةِ الشَّيْخِ: صَوْتُهُ خُفاتٌ وسَمْعُهُ تاراتٌ، فَإنْ قِيلَ مِن شَرْطِ النِّداءِ الجَهْرُ؛ فَكَيْفَ الجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِهِ نِداءً وخَفِيًّا، والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ أتى بِأقْصى ما قَدَرَ عَلَيْهِ مِن رَفْعِ الصَّوْتِ إلّا أنَّ الصَّوْتَ كانَ ضَعِيفًا لِنِهايَةِ الضَّعْفِ بِسَبَبِ الكِبَرِ؛ فَكانَ نِداءً نَظَرًا إلى قَصْدِهِ، وخَفِيًّا نَظَرًا إلى الواقِعِ. الثّانِي: أنَّهُ دَعا في الصَّلاةِ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أجابَهُ في الصَّلاةِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ وهو قائِمٌ يُصَلِّي في المِحْرابِ أنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى﴾ (آلِ عِمْرانَ: ٣٩) فَكَوْنُ الإجابَةِ في الصَّلاةِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ الدُّعاءِ في الصَّلاةِ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ النِّداءُ فِيها خَفِيًّا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ ﴿وإنِّي خِفْتُ المَوالِيَ مِن ورائِي وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا﴾ ﴿يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ واجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ القِراءَةُ فِيها مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قُرِئَ ﴿وهَنَ﴾ بِالحَرَكاتِ الثَّلاثِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إدْغامُ السِّينِ في الشِّينِ (مِنَ الرَّأْسِ شَيْبًا) عَنْ أبِي عَمْرٍو. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ﴿وإنِّي خِفْتُ المَوالِيَ﴾ بِفَتْحِ الياءِ وعَنِ الزُّهْرِيِّ بِإسْكانِ الياءِ مِنَ المَوالِي وقَرَأ عُثْمانُ (p-١٥٤)وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ ومُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ وابْنُ عَبّاسٍ: خَفَّتِ بِفَتْحِ الخاءِ والفاءِ مُشَدَّدَةً وكَسْرِ التّاءِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ ورائِي بِمَعْنى بَعْدِي، والمَعْنى أنَّهم قَلُّوا وعَجَزُوا عَنْ إقامَةِ الدِّينِ بَعْدَهُ؛ فَسَألَ رَبَّهُ تَقْوِيَتَهم بِوَلِيٍّ يُرْزَقُهُ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ بِمَعْنى قُدّامِي والمَعْنى أنَّهم خَفُّوا قُدّامَهُ ودَرَجُوا ولَمْ يَبْقَ مَن بِهِ تَقَوٍّ واعْتِضادٌ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: القِراءَةُ المَعْرُوفَةُ: ﴿مِن ورائِي﴾ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَها ياءٌ ساكِنَةٌ وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ مِقْسَمٍ كَذَلِكَ لَكِنْ بِفَتْحِ الياءِ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ (ورايَ) كَعَصايَ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في يَرِثُنِي ويَرِثُ وُجُوهٌ: أحَدُها: القِراءَةُ المَعْرُوفَةُ بِالرَّفْعِ فِيهِما صِفَةً. وثانِيها: وهي قِراءَةُ أبِي عَمْرٍو والكِسائِيِّ والزُّهْرِيِّ والأعْمَشِ وطَلْحَةَ بِالجَزْمِ فِيهِما جَوابًا لِلدُّعاءِ. وثالِثُها: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ وابْنِ عَبّاسٍ وجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ: (ولِيًّا يَرِثْنِي) جُزِمَ، وارِثٌ بِوَزْنِ فاعِلٍ. ورابِعُها: عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: (يَرِثُنِي) وارِثٌ مِن آلِ يَعْقُوبَ. وخامِسُها: عَنِ الجَحْدَرِيِّ (ويَرِثُ) تَصْغِيرُ وارِثٍ عَلى وزْنِ أُفَيْعَلٍ (اللُّغَةُ) الوَهْنُ ضَعْفُ القُوَّةِ، قالَ في ”الكَشّافِ“ شَبَّهَ الشَّيْبَ بِشُواظِ النّارِ في بَياضِهِ وإنارَتِهِ وانْتِشارِهِ في الشَّعْرِ وفُشُوِّهِ فِيهِ، وأخْذِهِ كُلَّ مَأْخَذٍ كاشْتِعالِ النّارِ ثُمَّ أخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعارَةِ، ثُمَّ أسْنَدَ الِاشْتِعالَ إلى مَكانِ الشَّعْرِ ومَنبَتِهِ وهو الرَّأْسُ، وأخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيَّزًا ولَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفاءً بِعِلْمِ المُخاطَبِ أنَّهُ رَأْسُ زَكَرِيّا، فَمِن ثَمَّ فَصُحَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ، وأمّا الدُّعاءُ فَطَلَبُ الفِعْلِ ومُقابِلُهُ الإجابَةِ، كَما أنَّ مُقابِلَ الأمْرِ الطّاعَةُ، وأمّا أصْلُ التَّرْكِيبِ في (ولِيٍّ) فَيَدُلُّ عَلى مَعْنى القُرْبِ والدُّنُوِّ؛ يُقالُ: ولَيْتُهُ ألِيهِ ولْيًا أيْ دَنَوْتُ، وأوْلَيْتُهُ أدْنَيْتُهُ مِنهُ وتَباعَدَ ما بَعْدَهُ ووَلِيَ ومِنهُ قَوْلُ ساعِدَةَ [ابْنِ جُؤَيَّةَ]: ؎وعَدَتْ عَوادٍ دُونَ ولْيِكَ تَشْغَبُ وكُلْ مِمّا يَلِيكَ، وجَلَسْتُ مِمّا يَلِيهِ، ومِنهُ الوَلْيُ وهو المَطَرُ الَّذِي يَلِي الوَسْمِيَّ، والوَلِيَّةُ البَرْذَعَةُ؛ لِأنَّها تَلِي ظَهْرَ الدّابَّةِ، ووَلِيَ اليَتِيمَ والقَتِيلَ، ووَلِيَ البَلَدَ لِأنَّ مَن تَوَلّى أمْرًا؛ فَقَدْ قَرُبَ مِنهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ مِن قَوْلِهِمْ ولاهُ بِرُكْنِهِ أيْ جَعَلَهُ مِمّا يَلِيهِ، أمّا ولّى عَنِّي إذا أدْبَرَ؛ فَهو مِن بابِ تَثْقِيلِ الحَشْوِ لِلسَّلْبِ، وقَوْلُهم: فُلانٌ أوْلى مِن فُلانٍ أيْ أحَقُّ، أفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنَ الوالِي أوِ الوَلِيِّ كالأدْنى والأقْرَبِ مِنَ الدّانِي والقَرِيبِ، وفِيهِ مَعْنى القُرْبِ أيْضًا؛ لِأنَّ مَن كانَ أحَقَّ بِالشَّيْءِ؛ كانَ أقْرَبَ إلَيْهِ، والمَوْلى اسْمٌ لِمَوْضِعِ الوَلِيِّ كالمَرْمى والمَبْنى اسْمٌ لِمَوْضِعِ الرَّمْيِ والبِناءِ، وأمّا العاقِرُ فَهي الَّتِي لا تَلِدُ، والعَقْرُ في اللُّغَةِ الجَرْحُ، ومِنهُ أُخِذَ العاقِرُ؛ لِأنَّهُ نَقْصُ أصْلِ الخِلْقَةِ، وعَقَرْتُ الفَرَسَ بِالسَّيْفِ إذا ضَرَبْتَ قَوائِمَهُ، وأمّا الآلُ فَهم خاصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَؤُولُ أمْرُهم إلَيْهِ ثُمَّ قَدْ يَؤُولُ أمْرُهم إلَيْهِ لِلْقَرابَةِ تارَةً ولِلصُّحْبَةِ أُخْرى كَآلِ فِرْعَوْنَ، ولِلْمُوافَقَةِ في الدِّينِ كَآلِ النَّبِيِّ -ﷺ- واعْلَمْ أنْ زَكَرِيّاءَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدَّمَ عَلى السُّؤالِ أُمُورًا ثَلاثَةً: أحَدُها: كَوْنُهُ ضَعِيفًا. والثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى ما رَدَّ دُعاءَهُ البَتَّةَ. والثّالِثُ: كَوْنُ المَطْلُوبِ بِالدُّعاءِ سَبَبًا لِلْمَنفَعَةِ في الدِّينِ ثُمَّ بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ صَرَّحَ بِالسُّؤالِ. (p-١٥٥)أمّا المَقامُ الأوَّلُ: وهو كَوْنُهُ ضَعِيفًا فَأثَرُ الضَّعْفِ، إمّا أنْ يَظْهَرَ في الباطِنِ أوْ في الظّاهِرِ، والضَّعْفُ الَّذِي يَظْهَرُ في الباطِنِ يَكُونُ أقْوى مِمّا يَظْهَرُ في الظّاهِرِ فَلِهَذا السَّبَبِ ابْتَدَأ بِبَيانِ الضَّعْفِ الَّذِي في الباطِنِ وهو قَوْلُهُ: ﴿وهَنَ العَظْمُ مِنِّي﴾ وتَقْرِيرُهُ هو أنَّ العِظامَ أصْلَبُ الأعْضاءِ الَّتِي في البَدَنِ وجُعِلَتْ كَذَلِكَ لِمَنفَعَتَيْنِ: إحْداهُما: لِأنْ تَكُونَ أساسًا وعُمُدًا يَعْتَمِدُ عَلَيْها سائِرُ الأعْضاءِ الأُخَرِ إذْ كانَتِ الأعْضاءُ كُلُّها مَوْضُوعَةً عَلى العِظامِ، والحامِلُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ أقْوى مِنَ المَحْمُولِ. والثّانِيَةُ: أنَّهُ احْتِيجَ إلَيْها في بَعْضِ المَواضِعِ؛ لِأنْ تَكُونَ جُنَّةً يَقْوى بِها ما سِواها مِنَ الأعْضاءِ بِمَنزِلَةِ قِحْفِ الرَّأْسِ وعِظامِ الصَّدْرِ، وما كانَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ صُلْبًا لِيَكُونَ صَبُورًا عَلى مُلاقاةِ الآفاتِ بَعِيدًا مِنَ القَبُولِ لَها إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إذا كانَ العَظْمُ أصْلَبَ الأعْضاءِ فَمَتى وصَلَ الأمْرُ إلى ضَعْفِها كانَ ضَعْفُ ما عَداها مَعَ رَخاوَتِها أوْلى، ولِأنَّ العَظْمَ إذا كانَ حامِلًا لِسائِرِ الأعْضاءِ؛ كانَ تَطْرُّقُ الضَّعْفِ إلى الحامِلِ مُوجِبًا لِتَطَرُّقِهِ إلى المَحْمُولِ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ خَصَّ العَظْمَ بِالوَهْنِ مِن بَيْنِ سائِرِ الأعْضاءِ؛ وأمّا أثَرُ الضَّعْفِ في الظّاهِرِ؛ فَذَلِكَ اسْتِيلاءُ الشَّيْبِ عَلى الرَّأْسِ فَثَبَتَ أنَّ هَذا الكَلامَ يَدُلُّ عَلى اسْتِيلاءِ الضَّعْفِ عَلى الباطِنِ والظّاهِرِ وذَلِكَ مِمّا يَزِيدُ الدُّعاءَ تَوْكِيدًا لِما فِيهِ مِنَ الِارْتِكانِ عَلى حَوْلِ اللَّهِ وقُوَّتِهِ والتَّبَرِّي عَنِ الأسْبابِ الظّاهِرَةِ. المَقامُ الثّانِي: أنَّهُ ما كانَ مَرْدُودَ الدُّعاءِ البَتَّةَ، ووَجْهُ التَّوَسُّلِ بِهِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: ما رُوِيَ أنَّ مُحْتاجًا سَألَ واحِدًا مِنَ الأكابِرِ وقالَ: أنا الَّذِي أحْسَنْتَ إلَيَّ وقْتَ كَذا، فَقالَ: مَرْحَبًا بِمَن تَوَسَّلَ بِنا إلَيْنا ثُمَّ قَضى حاجَتَهُ. وذَلِكَ أنَّهُ إذا قَبِلَهُ أوَّلًا فَلَوْ أنَّهُ رَدَّهُ ثانِيًا لَكانَ الرَّدُّ مُحْبِطًا لِلْإنْعامِ الأوَّلِ، والمُنْعِمُ لا يَسْعى في إحْباطِ إنْعامِهِ. والثّانِي: وهو أنَّ مُخالَفَةَ العادَةِ شاقَّةٌ عَلى النَّفْسِ فَإذا تَعَوَّدَ الإنْسانُ إجابَةَ الدُّعاءِ فَلَوْ صارَ مَرْدُودًا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لَكانَ في غايَةِ المَشَقَّةِ ولِأنَّ الجَفاءَ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ مِنهُ الإنْعامُ؛ يَكُونُ أشَقَّ فَقالَ زَكَرِيّاءُ عَلَيْهِ السَّلامُ: إنَّكَ ما رَدَدْتَنِي في أوَّلِ الأمْرِ مَعَ أنِّي ما تَعَوَّدْتُ لُطْفَكَ، وكُنْتُ قَوِيَّ البَدَنِ قَوِيَّ القَلْبِ فَلَوْ رَدَدْتَنِي الآنَ بَعْدَ ما عَوَّدْتَنِي القَبُولَ مَعَ نِهايَةِ ضَعْفِي؛ لَكانَ ذَلِكَ بالِغًا إلى الغايَةِ القُصْوى في ألَمِ القَلْبِ، واعْلَمْ أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: سَعِدَ فُلانٌ بِحاجَتِهِ إذا ظَفِرَ بِها وشَقِيَ بِها إذا خابَ ولَمْ يَنَلْها، ومَعْنى بِدُعائِكَ أيْ بِدُعائِي إيّاكَ، فَإنَّ الفِعْلَ قَدْ يُضافُ إلى الفاعِلِ تارَةً وإلى المَفْعُولِ أُخْرى. المَقامُ الثّالِثُ: بَيانُ كَوْنِ المَطْلُوبِ مُنْتَفَعًا بِهِ في الدِّينِ وهو قَوْلُهُ: ﴿وإنِّي خِفْتُ المَوالِيَ مِن ورائِي﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ: الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ: إنِّي خِفْتُ المَوالِيَ أيِ: الوَرَثَةَ مِن بَعْدِي وعَنْ مُجاهِدٍ: العَصَبَةُ، وعَنْ أبِي صالِحٍ: الكَلالَةُ، وعَنِ الأصَمِّ بَنُو العَمِّ وهُمُ الَّذِينَ يَلُونَهُ في النَّسَبِ، وعَنْ أبِي مُسْلِمٍ المَوْلى يُرادُ بِهِ النّاصِرُ وابْنُ العَمِّ والمالِكُ والصّاحِبُ وهو هَهُنا مَن يَقُومُ بِمِيراثِهِ مَقامَ الوَلَدِ، والمُخْتارُ أنَّ المُرادَ مِنَ المَوالِي الَّذِينَ يَخْلُفُونَ بَعْدَهُ إمّا في السِّياسَةِ أوْ في المالِ الَّذِي كانَ لَهُ أوْ في القِيامِ بِأمْرِ الدِّينِ فَقَدْ كانَتِ العادَةُ جارِيَةً أنَّ كُلَّ مَن كانَ إلى صاحِبِ الشَّرْعِ أقْرَبَ؛ فَإنَّهُ كانَ مُتَعَيِّنًا في الحَياةِ. الثّانِي: اخْتَلَفُوا في خَوْفِهِ مِنَ المَوالِي فَقالَ بَعْضُهم: خافَهم عَلى إفْسادِ الدِّينِ، وقالَ بَعْضُهم بَلْ خافَ أنْ يَنْتَهِيَ أمْرُهُ إلَيْهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ في مالٍ وغَيْرِهِ، مَعَ أنَّهُ عَرَفَ مِن حالِهِمْ قُصُورَهم في العِلْمِ والقُدْرَةِ عَنِ القِيامِ بِذَلِكَ المَنصِبِ. وفِيهِ قَوْلٌ ثالِثٌ، وهو أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى قَدْ أعْلَمَهُ أنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ نَبِيٌّ لَهُ أبٌ إلّا واحِدٌ؛ فَخافَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن بَنِي عَمِّهِ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ فَسَألَ اللَّهَ تَعالى أنْ يَهَبَ لَهُ ولَدًا يَكُونُ هو ذَلِكَ النَّبِيَّ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ (p-١٥٦)يَكُونَ خائِفًا مِن أمْرٍ يَهْتَمُّ بِمِثْلِهِ الأنْبِياءُ وإنْ لَمْ يَدُلَّ عَلى تَفْصِيلِ ذَلِكَ. ولا يَمْتَنِعُ أنَّ زَكَرِيّاءَ كانَ إلَيْهِ مَعَ النُّبُوَّةِ السِّياسَةُ مِن جِهَةِ المُلْكِ وما يَتَّصِلُ بِالإمامَةِ فَخافَ مِنهم بَعْدَهُ عَلى أحَدِهِما أوْ عَلَيْهِما. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وإنِّي خِفْتُ﴾ فَهو وإنْ خَرَجَ عَلى لَفْظِ الماضِي لَكِنَّهُ يُفِيدُ أنَّهُ في المُسْتَقْبَلِ أيْضًا، كَذَلِكَ يَقُولُ الرَّجُلُ: قَدْ خِفْتُ أنْ يَكُونَ كَذا وخَشِيتُ أنْ يَكُونَ كَذا أيْ أنا خائِفٌ لا يُرِيدُ أنَّهُ قَدْ زالَ الخَوْفُ عَنْهُ، وهَكَذا قَوْلُهُ: ﴿وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا﴾ أيْ أنَّها عاقِرٌ في الحالِ وذَلِكَ لِأنَّ العاقِرَ لا تُحَوَّلُ ولُودًا في العادَةِ فَفي الإخْبارِ عَنْهُ بِلَفْظِ الماضِي إعْلامٌ بِتَقادُمِ العَهْدِ في ذَلِكَ، وغَرَضُ زَكَرِيّاءَ مِن هَذا الكَلامِ بَيانُ اسْتِبْعادِ حُصُولِ الوَلَدِ؛ فَكانَ إيرادُهُ بِلَفْظِ الماضِي أقْوى وإلى هَذا يَرْجِعُ الأمْرُ في قَوْلِهِ: ﴿وإنِّي خِفْتُ المَوالِيَ مِن ورائِي﴾؛ لِأنَّهُ إنَّما قَصَدَ بِهِ الإخْبارَ، وعَنْ تَقادُمِ الخَوْفِ ثُمَّ اسْتَغْنى بِدَلالَةِ الحالِ وما يُوجِبُ مَسْألَةَ الوارِثِ وإظْهارَ الحاجَةِ عَنِ الإخْبارِ بِوُجُودِ الخَوْفِ في الحالِ، وأيْضًا فَقَدْ يُوضَعُ الماضِي مَكانَ المُسْتَقْبَلِ وبِالعَكْسِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ اللَّهُ ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ﴾ (المائِدَةِ: ١١٦) واللَّهُ أعْلَمُ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿مِن ورائِي﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ أيْ: قُدّامِي وبَيْنَ يَدَيَّ وقالَ آخَرُونَ أيْ: بَعْدَ مَوْتِي، وكِلاهُما مُحْتَمَلٌ فَإنْ قِيلَ كَيْفَ خافَهم مِن بَعْدِهِ ؟ وكَيْفَ عَلِمَ أنَّهم يَبْقَوْنَ بَعْدَهُ فَضْلًا مِن أنْ يَخافَ شَرَّهم ؟ قُلْنا: إنْ ذَلِكَ قَدْ يُعْرَفُ بِالأماراتِ والظَّنِّ وذَلِكَ كافٍ في حُصُولِ الخَوْفِ فَرُبَّما عَرَفَ بِبَعْضِ الإماراتِ اسْتِمْرارَهم عَلى عادَتِهِمْ في الفَسادِ والشَّرِّ. * * * واخْتُلِفَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا﴾ فالأكْثَرُونَ عَلى أنَّهُ طَلَبَ الوَلَدَ وقالَ آخَرُونَ: بَلْ طَلَبَ مَن يَقُومُ مَقامَهُ ولَدًا كانَ أوْ غَيْرَهُ والأقْرَبُ هو الأوَّلُ لِثَلاثَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ حِكايَةً عَنْهُ: ﴿قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ (آلِ عِمْرانَ: ٣٨) . والثّانِي: قَوْلُهُ في هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا﴾ ﴿يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ﴾ . والثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ الأنْبِياءِ: ﴿وزَكَرِيّا إذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ (الأنْبِياءِ: ٨٩) وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ سَألَ الوَلَدَ؛ لِأنَّهُ قَدْ أخْبَرَ في سُورَةِ مَرْيَمَ أنَّ لَهُ مَوالِيَ وأنَّهُ غَيْرُ مُنْفَرِدٍ عَنِ الوَرَثَةِ وهَذا وإنْ أمْكَنَ حَمْلُهُ عَلى وارِثٍ يَصْلُحُ أنْ يَقُومَ مَقامَهُ لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلى الوَلَدِ أظْهَرُ واحْتَجَّ أصْحابُ القَوْلِ الثّالِثِ بِأنَّهُ لَمّا بُشِّرَ بِالوَلَدِ؛ اسْتَعْظَمَ عَلى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ فَقالَ: أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ؟ ولَوْ كانَ دُعاؤُهُ لِأجْلِ الوَلَدِ لَما اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ ”الجَوابُ“: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ سَألَ عَمّا يُوهَبُ لَهُ أيُوهَبُ لَهُ وهو وامْرَأتُهُ عَلى هَيْئَتِهِما ؟ أوْ يُوهَبُ بِأنْ يُحَوَّلا شابَّيْنِ يَكُونُ لِمِثْلِهِما ولَدٌ ؟ وهَذا يُحْكى عَنِ الحَسَنِ، وقالَ غَيْرُهُ: إنَّ قَوْلَ زَكَرِيّاءَ عَلَيْهِ السَّلامُ في الدُّعاءِ: ﴿وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا﴾ إنَّما هو عَلى مَعْنى مَسْألَتِهِ ولَدًا مِن غَيْرِها أوْ مِنها بِأنْ يُصْلِحَها اللَّهُ لِلْوَلَدِ، فَكَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: إنِّي أيِسْتُ أنْ يَكُونَ لِي مِنها ولَدٌ، فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا كَيْفَ شِئْتَ؛ إمّا بِأنْ تُصْلِحَها فَيَكُونَ الوَلَدُ مِنها أوْ بِأنْ تَهَبَ لِي مِن غَيْرِها، فَلَمّا بُشِّرَ بِالغُلامِ؛ سَألَ: أيُرْزَقُ مِنها أوْ مِن غَيْرِها ؟ فَأُخْبِرَ بِأنَّهُ يُرْزَقُ مِنها، واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِالمِيراثِ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ المُرادَ بِالمِيراثِ في المَوْضِعَيْنِ هو وِراثَةُ المالِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ والضَّحّاكِ. وثانِيها: أنَّ المُرادَ بِهِ في المَوْضِعَيْنِ وِراثَةُ النُّبُوَّةِ، وهو قَوْلُ أبِي صالِحٍ. وثالِثُها: يَرِثُنِي المالَ ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، وهو قَوْلُ السُّدِّيِّ ومُجاهِدٍ والشَّعْبِيِّ، ورُوِيَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ والضَّحّاكِ. ورابِعُها: يَرِثُنِي العِلْمَ ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، وهو مَرْوِيٌّ عَنْ مُجاهِدٍ، واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الرِّواياتِ تَرْجِعُ إلى أحَدِ أُمُورٍ خَمْسَةٍ وهي: المالُ، ومَنصِبُ الحُبُورَةِ، والعِلْمُ، والنُّبُوَّةُ، والسِّيرَةُ الحَسَنَةُ، ولَفْظُ الإرْثِ مُسْتَعْمَلٌ في كُلِّها، أمّا في المالِ (p-١٥٧)فَلِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأوْرَثَكم أرْضَهم ودِيارَهم وأمْوالَهُمْ﴾ [الأحْزابِ: ١٢٧] وأمّا في العِلْمِ فَلِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الهُدى وأوْرَثْنا بَنِي إسْرائِيلَ الكِتابَ﴾ [غافِرٍ: ٥٣] وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: («العُلَماءُ ورَثَةُ الأنْبِياءِ، وإنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينارًا ولا دِرْهَمًا، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ» ) وقالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وسُلَيْمانَ عِلْمًا وقالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِن عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿ووَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ﴾ [النَّمْلِ: ١٥، ١٦ ] وهَذا يَحْتَمِلُ وِراثَةَ المُلْكِ ووِراثَةَ النُّبُوَّةِ وقَدْ يُقالُ أوْرَثَنِي هَذا غَمًّا وحُزْنًا، وقَدْ ثَبَتَ أنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِتِلْكَ الوُجُوهِ. واحْتَجَّ مَن حَمَلَ اللَّفْظَ عَلى وِراثَةِ المالِ بِالخَبَرِ والمَعْقُولِ، أمّا الخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «رَحِمَ اللَّهُ زَكَرِيّا ما كانَ لَهُ مَن يَرِثُهُ» وظاهِرُهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ إرْثُ المالِ وأمّا المَعْقُولُ فَمِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ العِلْمَ والسِّيرَةَ والنُّبُوَّةَ لا تُورَثُ بَلْ لا تَحْصُلُ إلّا بِالِاكْتِسابِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى المالِ. الثّانِي: أنَّهُ قالَ ﴿واجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ ولَوْ كانَ المُرادُ مِنَ الإرْثِ إرْثَ النُّبُوَّةِ؛ لَكانَ قَدْ سَألَ جَعْلَ النَّبِيِّ -ﷺ- رَضِيًّا وهو غَيْرُ جائِزٍ لِأنَّ النَّبِيَّ لا يَكُونُ إلّا رَضِيًّا مَعْصُومًا، وأمّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إنّا مَعْشَرَ الأنْبِياءِ لا نُورَثُ ما تَرَكْناهُ صَدَقَةٌ» فَهَذا لا يَمْنَعُ أنْ يَكُونَ خاصًّا بِهِ واحْتَجَّ مَن حَمَلَهُ عَلى العِلْمِ أوِ المَنصِبِ والنُّبُوَّةِ بِما عَلِمَ مَن حالَ الأنْبِياءِ أنَّ اهْتِمامَهم لا يَشْتَدُّ بِأمْرِ المالِ كَما يَشْتَدُّ بِأمْرِ الدِّينِ، وقِيلَ لَعَلَّهُ أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيا ما كانَ عَظِيمَ النَّفْعِ في الدِّينِ فَلِهَذا كانَ مُهْتَمًّا بِهِ، أمّا قَوْلُهُ: النُّبُوَّةُ كَيْفَ تُورَثُ قُلْنا: المالُ إنَّما يُقالُ ورِثَهُ الِابْنُ بِمَعْنى قامَ فِيهِ مَقامَ أبِيهِ وحَصَلَ لَهُ مِن فائِدَةِ التَّصَرُّفِ فِيهِ ما حَصَلَ لِأبِيهِ وإلّا فَمِلْكُ المالِ مِن قِبَلِ اللَّهِ لا مِن قِبَلِ المُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ إذا كانَ المَعْلُومُ في الِابْنِ أنْ يَصِيرَ نَبِيًّا بَعْدَهُ فَيَقُومَ بِأمْرِ الدِّينِ بَعْدَهُ جازَ أنْ يُقالَ ورِثَهُ أمّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إنّا مَعْشَرَ الأنْبِياءِ» فَهَذا وإنْ جازَ حَمْلُهُ عَلى الواحِدِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ﴾ [الحِجْرِ: ٩] لَكِنَّهُ مَجازٌ وحَقِيقَتُهُ الجَمْعُ والعُدُولُ عَنِ الحَقِيقَةِ مِن غَيْرِ مُوجِبٍ لا يَجُوزُ لا سِيَّما وقَدْ رُوِيَ قَوْلُهُ: «إنّا مَعاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُوَرَّثُ» والأوْلى أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى كُلِّ ما فِيهِ نَفْعٌ وصَلاحٌ في الدِّينِ، وذَلِكَ يَتَناوَلُ النُّبُوَّةَ والعِلْمَ والسِّيرَةَ الحَسَنَةَ والمَنصِبَ النّافِعَ في الدِّينِ والمالَ الصّالِحَ، فَإنَّ كُلَّ هَذِهِ الأُمُورِ مِمّا يَجُوزُ تَوَفُّرُ الدَّواعِي عَلى بَقائِها لِيَكُونَ ذَلِكَ النَّفْعُ دائِمًا مُسْتَمِرًّا. السّابِعُ: اتَّفَقَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ يَعْقُوبَ هَهُنا هو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ؛ لِأنَّ زَوْجَةَ زَكَرِيّاءَ هي أُخْتُ مَرْيَمَ وكانَتْ مِن ولَدِ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ مِن ولَدِ يَهُوذا بْنِ يَعْقُوبَ، وأمّا زَكَرِيّاءُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَهو مِن ولَدِ هارُونَ أخِي مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وهارُونُ ومُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ مَن ولَدِ لاوِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحاقَ وكانَتِ النُّبُوَّةُ في سِبْطِ يَعْقُوبَ؛ لِأنَّهُ هو إسْرائِيلُ ﷺ وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ لَيْسَ المُرادُ مِن يَعْقُوبَ هَهُنا ولَدَ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَلْ يَعْقُوبُ بْنُ ماثانَ أخُو عِمْرانَ بْنِ ماثانَ وكانَ آلُ يَعْقُوبَ أخْوالَ يَحْيى بْنِ زَكَرِيّاءَ وهَذا قَوْلُ الكَلْبِيِّ ومُقاتِلٍ. وقالَ الكَلْبِيُّ كانَ بَنُو ماثانَ رُءُوسَ بَنِي إسْرائِيلَ ومُلُوكَهم وكانَ زَكَرِيّا رَأْسَ الأحْبارِ يَوْمَئِذٍ فَأرادَ أنْ يَرِثَهُ ولَدُهُ حُبُورَتَهُ، ويَرِثَ مِن بَنِي ماثانَ مُلْكَهم، واعْلَمْ أنَّهم ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ الرِّضِيِّ وُجُوهًا. أحَدُها: أنَّ المُرادَ واجْعَلْهُ رَضِيًّا مِنَ الأنْبِياءِ وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّهم مَرْضِيُّونَ فالرَّضِيُّ مِنهم مُفَضَّلٌ عَلى جُمْلَتِهِمْ فائِقٌ لَهم في كَثِيرٍ مِن أُمُورِهِمْ فاسْتَجابَ اللَّهُ تَعالى لَهُ ذَلِكَ؛ فَوَهَبَ لَهُ سَيِّدًا وحَصُورًا ونَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ لَمْ يَعْصِ ولَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ، وهَذا غايَةُ ما يَكُونُ بِهِ المَرْءُ رَضِيًّا. وثانِيها: المُرادُ بِالرَّضِيِّ أنْ يَكُونَ رَضِيًّا في أُمَّتِهِ لا يُتَلَقّى بِالتَّكْذِيبِ ولا يُواجَهُ بِالرَّدِّ. وثالِثُها: المُرادُ بِالرَّضِيِّ أنْ لا يَكُونَ مُتَّهَمًا في شَيْءٍ ولا (p-١٥٨)يُوجَدُ فِيهِ مَطْعَنٌ ولا يُنْسَبُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ المَعاصِي. ورابِعُها: أنَّ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ عَلَيْهِما السَّلامُ قالا في الدُّعاءِ: ﴿رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ (البَقَرَةِ: ١٨٢) وكانا في ذَلِكَ الوَقْتِ مُسْلِمَيْنِ، وكَأنَّ المُرادَ هُناكَ ثَبِّتْنا عَلى هَذا أوِ المُرادُ اجْعَلْنا فاضِلَيْنِ مِن أنْبِيائِكَ المُسْلِمِينَ فَكَذا هَهُنا، واحْتَجَّ أصْحابُنا في مَسْألَةِ خَلْقِ الأفْعالِ بِهَذِهِ الآيَةِ؛ لِأنَّهُ إنَّما يَكُونُ رَضِيًّا بِفِعْلِهِ، فَلَمّا سَألَ اللَّهَ تَعالى جَعْلَهُ رَضِيًّا دَلَّ عَلى أنَّ فِعْلَ العَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعالى. فَإنْ قِيلَ: المُرادُ مِنهُ أنْ يَلْطُفَ لَهُ بِضُرُوبِ الألْطافِ فَيَخْتارَ ما يَصِيرُ مَرْضِيًّا فَيُنْسَبَ ذَلِكَ إلى اللَّهِ تَعالى. والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ جَعْلَهُ رَضِيًّا لَوْ حَمَلْناهُ عَلى جَعْلِ الألْطافِ وعِنْدَها يَصِيرُ المَرْءُ بِاخْتِيارِهِ رَضِيًّا لَكانَ ذَلِكَ مَجازًا وهو خِلافُ الأصْلِ. والثّانِي: أنَّ جَعْلَ تِلْكَ الألْطافِ واجِبَةً عَلى اللَّهِ تَعالى لا يَجُوزُ الإخْلالُ بِهِ وما كانَ واجِبًا لا يَجُوزُ طَلَبُهُ بِالدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب