الباحث القرآني

وقَوْلُهُ ﴿يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ﴾ صِفَةٌ لَوَلِيًّا كَما هو المُتَبادَرُ مِنَ الجُمْلَةِ الواقِعَةِ بَعْدَ النَّكِراتِ، ويُقالُ: ورِثَهُ ووَرِثَ مِنهُ لُغَتانِ كَما قِيلَ، وقِيلَ مِن لِلتَّبْعِيضِ لا لِلتَّعْدِيَةِ، وآلُ الرَّجُلِ خاصَّتُهُ الَّذِينَ يَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُهم لِلْقَرابَةِ أوِ الصُّحْبَةِ أوِ المُوافَقَةِ في الدِّينِ، ويَعْقُوبُ عَلى ما رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ هو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ فَإنَّ زَكَرِيّا مِن ولَدِ هارُونَ وهو مِن ولَدِ لاوِي ابْنِ يَعْقُوبَ وكانَ مُتَزَوِّجًا بِأُخْتِ مَرْيَمَ بِنْتِ عُمْرانَ وهي مِن ولَدِ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ عَلَيْهِما السَّلامُ وهو مِن ولَدِ يَهُوذَ بْنِ يَعْقُوبَ أيْضًا. وقالَ الكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ: هو يَعْقُوبُ بْنُ ماثانَ وأخُوهُ عِمْرانَ بْنِ ماثانَ أبُو مَرْيَمَ. وقِيلَ: هو أخُو زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ والمُرادُ مِنَ الوِراثَةِ في المَوْضِعَيْنِ العِلْمُ عَلى ما قِيلَ. وقالَ الكَلْبِيُّ: كانَ بَنُو ماثانَ رُؤُوسَ بَنِي إسْرائِيلَ ومُلُوكَهُمْ، وكانَ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ رَئِيسَ الأحْبارِ يَوْمَئِذٍ فَأرادَ أنْ يَرِثَهُ ولَدُهُ الحُبُورَةَ ويَرِثَ مِن بَنِي ماثانَ مُلْكَهم فَتَكُونُ الوِراثَةُ مُخْتَلِفَةً في المَوْضِعَيْنِ وأُيِّدَ ذَلِكَ بِعَدَمِ اخْتِيارِ العَطْفِ عَلى الضَّمِيرِ المَنصُوبِ والِاكْتِفاءِ بِيَرِثُ الأوَّلِ، وقِيلَ الوِراثَةُ الأُولى وِراثَةُ النُّبُوَّةِ والثّانِيَةُ وِراثَةُ المُلْكِ فَتَكُونُ (p-63)مُخْتَلِفَةً أيْضًا إلّا أنَّ قَوْلَهُ ﴿واجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ أيْ مَرْضِيًّا عِنْدَكَ قَوْلًا وفِعْلًا، وقِيلَ راضِيًا والأوَّلُ أنْسَبُ يَكُونُ عَلى هَذا تَأْكِيدًا لِأنَّ النَّبِيَّ شَأْنُهُ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وعَلى ما قُلْنا يَكُونُ دُعاءً بِتَوْفِيقِهِ لِلْعَمَلِ كَما أنَّ الأوَّلَ مُتَضَمِّنٌ لِلدُّعاءِ بِتَوْفِيقِهِ لِلْعِلْمِ، فَكَأنَّهُ طَلَبَ أنْ يَكُونَ ولَدُهُ عالِمًا عامِلًا، وقِيلَ: المُرادُ اجْعَلْهُ مَرْضِيًّا بَيْنَ عِبادِكَ أيْ مُتَّبِعًا فَلا يَكُونُ هُناكَ تَأْكِيدٌ مُطْلَقًا، وتَوْسِيطُ (رَبِّ) بَيْنَ مَفْعُولَيِ الجَعْلِ عَلى سائِرِ الأوْجُهِ لِلْمُبالَغَةِ في الِاعْتِناءِ بِشَأْنِ ما يَسْتَدْعِيهِ. واخْتارَ السَّكّاكِيُّ أنَّ الجُمْلَتَيْنِ مُسْتَأْنِفَتانِ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِأنَّهُ يَرِدُ أنَّهُ يَلْزَمُ عَلى الوَصْفِيَّةِ أنْ لا يَكُونَ قَدْ وهَبَ لِزَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ مِن وصْفٍ لِهَلاكِ يَحْيى عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلَ هَلاكِهِ لِقَتْلِ يَحْيى عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلَ قَتْلِهِ. وتُعُقِّبَ ذَلِكَ في الكَشْفِ بِأنَّهُ مَدْفُوعٌ بِأنَّ الرِّواياتِ مُتَعارِضَةٌ والأكْثَرُ عَلى هَلاكِ زَكَرِيّا قَبْلَهُ عَلَيْهِما السَّلامُ، ثُمَّ قالَ: وأمّا الجَوابُ بِأنَّهُ لا غَضاضَةَ في أنْ يُسْتَجابَ لِلنَّبِيِّ بَعْضُ ما سَألَ دُونَ بَعْضٍ ألا تَرى إلى دَعْوَةِ نَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في حَقِّ أُمَّتِهِ حَيْثُ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ( «وسَألْتُهُ أنْ لا يُذِيقَ بَعْضَهم بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعْنِيها» ). وإلى دَعْوَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في حَقِّ أبِيهِ فَإنَّما يَتِمُّ لَوْ كانَ المَحْذُورُ ذَلِكَ وإنَّما المَحْذُورُ لُزُومُ الخُلْفِ في خَبَرِهِ تَعالى فَقَدْ قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى في الأنْبِياءِ ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ﴾ وهو يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أُعْطِيَ ما سَألَ مِن غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ بَعْضٍ وبَعْضٍ، وكَذَلِكَ سِياقُ الآياتِ الأُخَرِ. ولَكَ أنْ تَسْتَدِلَّ بِظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى ضَعْفِ رِوايَةِ مَن زَعَمَ أنَّ يَحْيى هَلَكَ قَبْلَ أبِيهِ عَلَيْهِما السَّلامُ، وأمّا الإيرادُ بِأنَّ ما اخْتِيرَ مِنَ الحَمْلِ عَلى الِاسْتِئْنافِ لا يَدْفَعُ المَحْذُورَ لِأنَّهُ وصْلٌ مَعْنَوِيٌّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّ الوَصْلَ ثابِتٌ ولَكِنَّهُ غَيْرُ داخِلٍ في المَسْؤُولِ لِأنَّهُ بَيانُ العِلَّةِ الباعِثَةِ عَلى السُّؤالِ ولا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ عِلَّةَ السُّؤالِ مَسْؤُولَةً انْتَهى. وأجابَ بَعْضُهم بِأنَّهُ حَيْثُ كانَ المُرادُ مِنَ الوِراثَةِ هُنا وِراثَةَ العِلْمِ لا يَضُرُّ هَلاكُهُ قَبْلَ أبِيهِ عَلَيْهِما السَّلامُ لِحُصُولِ الغَرَضِ وهو أخْذُ ذَلِكَ وإفاضَتُهُ عَلى الغَيْرِ بِحَيْثُ تَبْقى آثارُهُ بَعْدَ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ زَمانًا طَوِيلًا ولا يَخْفى أنَّ المَعْرُوفَ بَقاءُ ذاتِ الوارِثِ بَعْدَ المَوْرُوثِ عَنْهُ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ والزُّهْرِيُّ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ واليَزِيدِيُّ وابْنُ عِيسى الأصْفَهانِيُّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وقَتادَةُ بِجَزْمِ الفِعْلَيْنِ عَلى أنَّهُما جَوابُ الدُّعاءِ والمَعْنى أنْ تَهَبَ لِي ذَلِكَ يَرِثُنِي إلَخْ، والمُرادُ أنَّهُ كَذَلِكَ في ظَنِّي ورَجائِي، وقَرَأ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ. وابْنُ عَبّاسٍ وجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم والحَسَنُ وابْنُ يَعْمُرَ والجَحْدَرِيُّ وأبُو حَرْبِ بْنُ أبِي الأسْوَدِ وأبُو نَهِيكٍ ( يَرِثُنِي ) بِالرَّفْعِ ( وأرِثُ ) فِعْلًا مُضارِعًا مِن ورِثَ وخَرَجَ ذَلِكَ عَلى أنَّ المَعْنى يَرِثُنِي العِلْمَ وأرِثُ أنا بِهِ المُلْكَ مِن آلِ يَعْقُوبَ وذَلِكَ بِجَعْلِ وِراثَةِ الوَلِيِّ المُلْكَ وِراثَةً لِزَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّ رَفْعَةَ الوَلَدِ لِلْوالِدِ، والواوُ لِمُطْلَقِ الجَمْعِ، وقالَ بَعْضُهم: والواوُ لِلْحالِ والجُمْلَةُ حالٌ مِن أحَدِ الضَّمِيرَيْنِ، وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: فِيهِ تَقْدِيمٌ ومَعْناهُ فَهَبْ لِي ولِيًّا مِن آلِ يَعْقُوبَ يَرِثُنِي النُّبُوَّةَ إنْ مُتُّ قَبْلَهُ وأرِثُهُ مالَهُ إنْ ماتَ قَبْلِي وفِيهِ ما سَتَعْلَمُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى قَرِيبًا، ونُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، وجَماعَةٍ أنَّهم قَرَءُوا ( يَرِثُنِي وأرِثُ ) بِرَفْعِ وأرِثُ بِزِنَةِ فاعِلٍ عَلى أنَّهُ فاعِلُ يَرِثُنِي عَلى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ كَما قالَ أبُو الفَتْحِ وغَيْرُهُ أيْ يَرِثُنِي ولِيٌّ مِن ذَلِكَ الوَلِيِّ أوْ بِهِ، فَقَدْ جَرَّدَ مِنَ الوَلِيِّ ولِيًّا كَما تَقُولُ رَأيْتُ مِنهُ أوْ بِهِ أسَدًا، وعَنِ الجَحْدَرِيِّ أنَّهُ قَرَأ ( وأرِثُ ) بِإمالَةِ الواوِ، وقَرَأ مُجاهِدٌ ( أُوَيْرِثُ ) تَصْغِيرُ وارِثٍ وأصْلُهُ وُوَيْرِثُ (p-64)بِواوَيْنِ الأُولى فاءُ الكَلِمَةِ الأصْلِيَّةِ والثّانِيَةُ بَدَلُ ألْفِ فاعِلٍ لِأنَّها تُقْلَبُ واوًا في التَّصْغِيرِ كَضُوَيْرِبٍ، ولَمّا وقَعَتِ الواوُ مَضْمُومَةً قَبْلَ أُخْرى في أوَّلِهِ قُلِبَتْ هَمْزَةً كَما تَقَرَّرَ في التَّصْرِيفِ، ونُقِلَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: التَّصْغِيرُ لِصِغَرِهِ فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا طَلَبَهُ في كِبَرِهِ عَلِمَ ولَوْ حَدْسًا أنَّهُ يَرِثُهُ في صِغَرِ سِنِّهِ، وقِيلَ: لِلْمَدْحِ ولَيْسَ بِذاكَ. هَذا واسْتَدَلَّ الشِّيعَةُ بِالآيَةِ عَلى أنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ تُورَثُ عَنْهم أمْوالُهم لِأنَّ الوِراثَةَ حَقِيقِيَّةٌ في وِراثَةِ المالِ ولا داعِيَ إلى الصَّرْفِ عَنِ الحَقِيقَةِ، وقَدْ ذَكَرَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ في الدُّرِّ المَنثُورِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وعِكْرِمَةَ وأبِي صالِحٍ أنَّهم قالُوا في الآيَةِ: يَرِثُنِي مالِي. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ ﷺ قالَ في الآيَةِ: «يَرْحَمُ اللَّهُ تَعالى أخِي زَكَرِيّا ما كانَ عَلَيْهِ مِن ورَثَةٍ» . وفي رِوايَةٍ: «ما كانَ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَرِثُ مالَهُ» .، وقالَ بَعْضُهم: إنَّ الوِراثَةَ ظاهِرَةٌ في ذَلِكَ ولا يَجُوزُ ها هُنا حَمْلُها عَلى وِراثَةِ النُّبُوَّةِ لِئَلّا يَلْغُوَ قَوْلُهُ: ﴿واجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ ولا عَلى وِراثَةِ العِلْمِ لِأنَّهُ كَسْبِي والمَوْرُوثُ حاصِلٌ بِلا كَسْبٍ. ومَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لا يَرْثُونَ مالًا ولا يُورِثُونَ لِما صَحَّ عِنْدَهم مِنَ الأخْبارِ. وقَدْ جاءَ ذَلِكَ أيْضًا مِن طَرِيقِ الشِّيعَةِ. فَقَدْ رَوى الكُلِينِيُّ في الكافِي عَنْ أبِي البَخْتَرِيِّ عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرٍ الصّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: إنَّ «العُلَماءَ ورَثَةُ الأنْبِياءِ» وذَلِكَ أنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا ولا دِينارًا وإنَّما ورَّثُوا أحادِيثَ مِن أحادِيثِهِمْ، فَمَن أخَذَ بِشَيْءٍ مِنها فَقَدْ أخَذَ بِحَظٍّ وافِرٍ. وكَلِمَةُ إنَّما مُفِيدَةٌ لِلْحَصْرِ قَطْعًا بِاعْتِرافِ الشِّيعَةِ، والوِراثَةُ في الآيَةِ مَحْمُولَةٌ عَلى ما سَمِعْتَ ولا نُسَلِّمُ كَوْنَها حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً في وِراثَةِ المالِ بَلْ هي حَقِيقَةٌ فِيما يَعُمُّ وِراثَةَ العِلْمِ والمَنصِبِ والمالِ، وإنَّما صارَتْ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمالِ في عُرْفِ الفُقَهاءِ مُخْتَصَّةً بِالمالِ كالمَنقُولاتِ العُرْفِيَّةِ، ولَوْ سَلَّمْنا أنَّها مَجازٌ في ذَلِكَ فَهو مَجازٌ مُتَعارَفٌ مَشْهُورٌ خُصُوصًا في اسْتِعْمالِ القُرْآنِ المَجِيدِ، بِحَيْثُ يُساوِي الحَقِيقَةَ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتابَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ مِن بَعْدِهِمْ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَن يَشاءُ مَن عِبادِهِ﴾، ﴿ولِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ قَوْلُهم لا داعِيَ إلى الصَّرْفِ عَنِ الحَقِيقَةِ قُلْنا: الدّاعِي مُتَحَقِّقٌ وهي صِيانَةُ قَوْلِ المَعْصُومِ عَنِ الكَذِبِ ودُونَ تَأْوِيلِهِ خَرْطُ القَتادِ، والآثارُ الدّالَّةُ عَلى أنَّهم يُوَرِّثُونَ المالَ لا يُعَوَّلُ عَلَيْها عِنْدَ النُّقّادِ، وزَعَمَ البَعْضُ أنَّهُ لا يَجُوزُ حَمْلُ الوِراثَةِ هُنا عَلى وِراثَةِ النُّبُوَّةِ لِئَلّا يَلْغُوَ قَوْلُهُ: ﴿واجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ قَدْ قَدَّمْنا ما يُعْلَمُ مِنهُ ما فِيهِ. وزُعِمَ أنَّ كَسَبِيَّةِ الشَّيْءِ تَمْنَعُ مِن كَوْنِهِ مَوْرُوثًا لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَقَدْ تَعَلَّقَتِ الوِراثَةُ بِما لَيْسَ بِكَسْبِيٍّ في كَلامِ الصّادِقِ، ومِن ذَلِكَ أيْضًا ما رَواهُ الكُلِينِيُّ في الكافِي عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: إنَّ سَلِيمانَ ورِثَ داوُدَ وإنَّ مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ورِثَ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ. فَإنَّ وِراثَةَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يُتَصَوَّرُ أنْ تَكُونَ وِراثَةً غَيْرَ العِلْمِ والنُّبُوَّةِ ونَحْوِهِما، ومِمّا يُؤَيِّدُ حَمْلَ الوِراثَةِ هُنا عَلى وِراثَةِ العِلْمِ ونَحْوِهِ دُونَ المالِ أنَّهُ لَيْسَ في الأنْظارِ العالِيَةِ والهِمَمِ العَلْياءِ لِلنُّفُوسِ القُدْسِيَّةِ الَّتِي انْقَطَعَتْ مِن تَعَلُّقاتِ هَذا العالَمِ المُتَغَيِّرِ الفانِي واتَّصَلَتْ بِالعالَمِ الباقِي مَيْلٌ لِلْمَتاعِ الدُّنْيَوِيِّ قَدْرَ جَناحِ بَعُوضَةٍ لا سِيَّما جَنابُ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّهُ كانَ مَشْهُورًا بِكَمالِ الِانْقِطاعِ والتَّجَرُّدِ فَيَسْتَحِيلُ عادَةً أنْ يَخافَ مِن وِراثَةِ المالِ والمَتاعِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ في نَظَرِهِ العالِي أدْنى قَدْرٍ أوْ يَظْهَرُ مِن أجْلِهِ الكَلَفُ والحُزْنُ والخَوْفُ ويَسْتَدْعِي مِن حَضْرَةِ الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَلِكَ النَّحْوِ مِنَ الِاسْتِدْعاءِ وهو يَدُلُّ عَلى كَمالِ المَحَبَّةِ وتَعَلُّقِ القَلْبِ بِالدُّنْيا، وقالَتِ الشِّيعَةُ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ خافَ أنْ يَصْرِفَ بَنُو عَمِّهِ مالَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِيما لا يَنْبَغِي، (p-65)فَطَلَبَ لَهُ الوارِثَ المَرْضِيَّ لِذَلِكَ، وفِيهِ أنَّ ذَلِكَ مِمّا لا يُخافُ مِنهُ إذِ الرَّجُلُ إذا ماتَ وانْتَقَلَ مالُهُ بِالوِراثَةِ إلى آخَرَ صارَ المالُ مالَ ذَلِكَ الآخَرِ فَصَرْفُهُ عَلى ذِمَّتِهِ صَوابًا أوْ خَطَأً ولا مُؤاخَذَةَ عَلى المَيِّتِ مِن ذَلِكَ الصَّرْفِ، بَلْ لا عِتابَ أيْضًا مَعَ أنَّ دَفْعَ هَذا الخَوْفِ كانَ مُيَسِّرًا لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنْ يَصْرِفَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ ويَتَصَدَّقَ بِهِ كُلِّهِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى ويَتْرُكَ بَنِي عَمِّهِ الأشْرارَ خائِبِينَ لِسُوءِ أحْوالِهِمْ وقُبْحِ أفْعالِهِمْ. ولِلْأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عِنْدَ الشِّيعَةِ خَبَرٌ بِزَمَنِ مَوْتِهِمْ وتَخْيِيرٌ فِيهِ فَما كانَ لَهُ خَوْفُ مَوْتِ الفَجْأةِ أيْضًا فَلَيْسَ قَصْدُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن مَسْألَةِ الوَلَدِ سِوى إجْراءِ أحْكامِ اللَّهِ تَعالى وتَرْوِيجِ الشَّرِيعَةِ وبَقاءِ النُّبُوَّةِ في أوْلادِهِ فَإنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِتَضاعُفِ الأجْرِ إلى حَيْثُ شاءَ اللَّهُ تَعالى مِنَ الدَّهْرِ، ومَن أنْصَفَ لَمْ يَتَوَقَّفْ في قَبُولِ ذَلِكَ واللَّهُ تَعالى الهادِي لِأقْوَمِ المَسالِكِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب