الباحث القرآني

سُورَةُ مَرْيَمَ ثَمانٍ وتِسْعُونَ آيَةً مَكِّيَّةً ﷽ ﴿كهيعص﴾ ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا﴾ ﴿إذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا﴾ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ ﴿وإنِّي خِفْتُ المَوالِيَ مِن ورائِي وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا﴾ ﴿يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ واجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ ﴿يا زَكَرِيّا إنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾ ﴿قالَ رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا﴾ ﴿قالَ كَذَلِكَ قالَ رَبُّكَ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ ﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألّا تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا﴾ ﴿فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرابِ فَأوْحى إلَيْهِمْ أنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وعَشِيًّا﴾ ﴿يا يَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾ ﴿وحَنانًا مِن لَدُنّا وزَكاةً وكانَ تَقِيًّا﴾ ﴿وبَرًّا بِوالِدَيْهِ ولَمْ يَكُنْ جَبّارًا عَصِيًّا﴾ ﴿وسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ مَرْيَمَ إذِ انْتَبَذَتْ مِن أهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا﴾ [مريم: ١٦] ﴿فاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجابًا فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم: ١٧] ﴿قالَتْ إنِّي أعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ [مريم: ١٨] ﴿قالَ إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لِأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ [مريم: ١٩] ﴿قالَتْ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولَمْ أكُ بَغِيًّا﴾ [مريم: ٢٠] ﴿قالَ كَذَلِكِ قالَ رَبُّكِ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ ولِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ ورَحْمَةً مِنّا وكانَ أمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٢١] ﴿فَحَمَلَتْهُ فانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانًا قَصِيًّا﴾ [مريم: ٢٢] ﴿فَأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذا وكُنْتُ نَسْيًا مَنسِيًّا﴾ [مريم: ٢٣] ﴿فَناداها مِن تَحْتِها ألّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ [مريم: ٢٤] ﴿وهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: ٢٥] ﴿فَكُلِي واشْرَبِي وقَرِّي عَيْنًا فَإمّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أحَدًا فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾ [مريم: ٢٦] ﴿فَأتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ [مريم: ٢٧] ﴿يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أبُوكِ امْرَأ سَوْءٍ وما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم: ٢٨] ﴿فَأشارَتْ إلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كانَ في المَهْدِ صَبِيًّا﴾ [مريم: ٢٩] . (p-١٧٠)(اشْتِعالُ النّارِ) تَفَرُّقُها في التِهابِها فَصارَتْ شُعَلًا. وقِيلَ: شُعاعُ النّارِ الشَّيْبُ مَعْرُوفٌ، (شابَ شَعْرُهُ) ابْيَضَّ بَعْدَما كانَ بِلَوْنٍ غَيْرِهِ. (المَخاضُ) اشْتِدادُ وجَعِ الوِلادَةِ والطَّلْقِ. (الجِذْعُ) ما بَيْنَ الأرْضِ الَّتِي فِيها الشَّجَرَةُ مِنها وبَيْنَ مُتَشَعَّبِ الأغْصانِ، ويُقالُ لِلْغُصْنِ أيْضًا جِذْعٌ وجَمْعُهُ أجْذاعٌ في القِلَّةِ، وجُذُوعٌ في الكَثْرَةِ. (السَّرِيُّ) المُرْتَفِعُ القَدْرِ، يُقالُ سَرُوَ يَسْرُوُ، ويُجْمَعُ عَلى سَراةٍ بِفَتْحِ السِّينِ وسُرَواءَ وهُما شاذّانِ فِيهِ، وقِياسُهُ أفْعِلاءُ. والسَّرِيُّ النَّهْرُ الصَّغِيرُ؛ لِأنَّ الماءَ يَسْرِي فِيهِ ولامُهُ ياءٌ كَما أنَّ لامَ ذَلِكَ واوٌ. وقالَ لَبِيدٌ: ؎فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ فَصَدَّعا مَسْجُورَةً مُتَجاوِرًا قُلّامُها أيْ جَدْوَلًا. (الهَزُّ) التَّحْرِيكُ. (الرُّطَبُ) مَعْرُوفٌ واحِدُهُ رُطْبَةٌ، وجُمِعَ شاذًّا عَلى أرْطابٍ كَرُبْعٍ وأرْباعٍ وهو ما قُطِعَ قَبْلَ أنْ يَشْتَدَّ ويَيْبَسَ. الجَنِيُّ ما طابَ وصَلُحَ لِلِاجْتِناءِ. وقالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: لَمْ يَجِفَّ ولَمْ يَيْبَسْ. وقِيلَ: الجَنِيُّ ما تَرَطَّبَ مِنَ البُسْرِ. وقالَ الفَرّاءُ: الجَنِيُّ والمَجْنِيُّ واحِدٌ، وعَنْهُ الجَنِيُّ المَقْطُوعُ. قُرَّةُ العَيْنِ: مَأْخُوذٌ مِنَ القُرِّ، يُقالُ: دَمْعُ الفَرَحِ بارِدُ اللَّمْسِ ودَمْعُ الحُزْنِ سُخْنُ اللَّمْسِ. وقالَ أبُو تَمّامٍ: ؎فَأمّا عُيُونُ العاشِقِينَ فَأسْخَنَتْ ∗∗∗ وأمّا عُيُونُ الشّامِتِينَ فَقَرَّتِ وقُرَيْشٌ تَقُولُ: قَرَرْتُ بِهِ عَيْنًا، وقَرَرْتُ بِالمَكانِ أقَرُّ وأهْلُ نَجْدٍ قَرِرْتُ بِهِ عَيْنًا بِالكَسْرِ. الفَرِيُّ العَظِيمُ مِنَ الأمْرِ يُسْتَعْمَلُ في الخَيْرِ وفي الشَّرِّ، ومِنهُ في وصْفِ عُمَرَ: فَلَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ، والفَرِيُّ القَطْعُ، وفي المَثَلِ: جاءَ يَفْرِي الفَرِيَّ، أيْ: يَعْمَلُ عَظِيمًا مِنَ العَمَلِ قَوْلًا أوْ فِعْلًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الفَرِيُّ البَدِيعُ وهو مِن فَرْيِ الجِلْدِ. الإشارَةُ مَعْرُوفَةٌ تَكُونُ بِاليَدِ والعَيْنِ والثَّوْبِ والرَّأْسِ والفَمِ، وأشارَ ألِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ ياءٍ، يُقالُ: تَشايَرْنا الهِلالَ لِلْمُفاعَلَةِ. وقالَ كَثِيرٌ: ؎فَقُلْتُ وفي الأحْشاءِ داءٌ مُخامِرٌ ∗∗∗ ألا حَبَّذا يا عَزُّ ذاكَ التَّشايُرُ (p-١٧١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿كهيعص﴾ ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا﴾ ﴿إذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا﴾ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ ﴿وإنِّي خِفْتُ المَوالِيَ مِن ورائِي وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا﴾ ﴿يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ واجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ ﴿يازَكَرِيّا إنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾ ﴿قالَ رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا﴾ ﴿قالَ كَذَلِكَ قالَ رَبُّكَ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ ﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألّا تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا﴾ ﴿فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرابِ فَأوْحى إلَيْهِمْ أنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وعَشِيًّا﴾ ﴿يايَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾ ﴿وحَنانًا مِن لَدُنّا وزَكاةً وكانَ تَقِيًّا﴾ ﴿وبَرًّا بِوالِدَيْهِ ولَمْ يَكُنْ جَبّارًا عَصِيًّا﴾ ﴿وسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ ) . (p-١٧٢)هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كالسُّورَةِ الَّتِي قَبْلَها. وقالَ مُقاتِلٌ: إلّا آيَةَ السَّجْدَةِ فَهي مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ مُهاجَرَةِ المُؤْمِنِينَ إلى الحَبَشَةِ. ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى ضَمَّنَ السُّورَةَ قَبْلَها قَصَصًا عَجَبًا كَقِصَّةِ أهْلِ الكَهْفِ، وقِصَّةِ مُوسى مَعَ الخَضِرِ، وقِصَّةِ ذِي القَرْنَيْنِ، وهَذِهِ السُّورَةُ تَضَمَّنَتْ قَصَصًا عَجَبًا مِن وِلادَةِ يَحْيى بَيْنَ شَيْخٍ فانٍ وعَجُوزٍ عاقِرٍ، ووِلادَةِ عِيسى مِن غَيْرِ أبٍ، فَلَمّا اجْتَمَعا في هَذا الشَّيْءِ المُسْتَغْرَبِ ناسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ تِلْكَ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في أوَّلِ البَقَرَةِ عَلى هَذِهِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ الَّتِي في فَواتِحِ السُّوَرِ بِما يُوقَفُ عَلَيْهِ هُناكَ و(ذِكْرُ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هَذا المَتْلُوُّ مِن هَذا القُرْآنِ ذِكْرُ. وقِيلَ (ذِكْرُ) خَبَرٌ لِقَوْلِهِ ﴿كهيعص﴾ وهو مُبْتَدَأٌ؛ ذَكَرَهُ الفَرّاءُ. قِيلَ: وفِيهِ بُعْدٌ؛ لِأنَّ الخَبَرَ هو المُبْتَدَأُ في المَعْنى ولَيْسَ في الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ، ولا في ذِكْرِ الرَّحْمَةِ مَعْناها. وقِيلَ: (ذِكْرُ) مُبْتَدَأٌ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فِيما يُتْلى (ذِكْرُ) . وقَرَأ الجُمْهُورُ كافْ بِإسْكانِ الفاءِ. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ ضَمُّها، وأمالَ نافِعٌ هاءً وياءً بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وأظْهَرَ دالَ صادٍ عِنْدَ ذاكَ. (ذِكْرُ) وقَرَأ الحَسَنُ بِضَمِّ الهاءِ وعَنْهُ أيْضًا ضَمُّ الياءِ وكَسْرُ الهاءِ، وعَنْ عاصِمٍ ضَمُّ الياءِ وعَنْهُ كَسْرُهُما وعَنْ حَمْزَةَ فَتْحُ الهاءِ وكَسْرُ الياءِ. قالَ أبُو عَمْرٍو الدّانِيُّ: مَعْنى الضَّمِّ في الهاءِ والياءِ إشْباعُ التَّفْخِيمِ ولَيْسَ بِالضَّمِّ الخالِصِ الَّذِي يُوجِبُ القَلْبَ. وقالَ أبُو الفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أحْمَدَ بْنِ الحَسَنِ المُقْرِي الرّازِيُّ في كِتابِ اللَّوامِحِ في شَواذِّ القِراءاتِ خارِجَةُ عَنِ الحَسَنِ: (كافْ) بِضَمِّ الكافِ، ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ عَنْهُ بِضَمِّ الهاءِ وهارُونُ بْنُ مُوسى العَتَكِيُّ عَنْ إسْماعِيلَ عَنْهُ بِالضَّمِّ، وهَذِهِ الثَّلاثُ مُتَرْجَمٌ عَلَيْها بِالضَّمِّ ولَسْنَ مَضْمُوماتِ المَحالِّ في الحَقِيقَةِ؛ لِأنَّهُنَّ لَوْ كُنَّ كَذَلِكَ لَوَجَبَ قَلْبُ ما بَعْدَهُنَّ مِنَ الألِفاتِ واواتٍ بَلْ نُحِّيَتْ هَذِهِ الألِفاتُ نَحْوَ الواوِ عَلى لُغَةِ أهْلِ الحِجازِ، وهي الَّتِي تُسَمّى ألِفَ التَّفْخِيمِ بِضِدِّ الألِفِ المُمالَةِ فَأشْبَهَتِ الفَتَحاتِ الَّتِي تَوَلَّدَتْ مِنهُنَّ الضَّمّاتُ، وهَذِهِ التَّرْجَمَةُ كَما تَرْجَمُوا عَنِ الفَتْحَةِ المُمالَةِ المُقَرَّبَةِ مِنَ الكَسْرَةِ بِكَسْرَةٍ لِتَقْرِيبِ الألِفِ بَعْدَها مِنَ الياءِ انْتَهى. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ بِتَقْطِيعِ هَذِهِ الحُرُوفِ وتَخْلِيصِ بَعْضِها مِن بَعْضٍ فَرْقًا بَيْنَها وبَيْنَ ما ائْتَلَفَ مِنَ الحُرُوفِ، فَيَصِيرُ أجْزاءَ الكَلِمِ، فاقْتَضَيْنَ إسْكانَ آخِرِهِنَّ، وأظْهَرَ الأكْثَرُونَ دالَ صادٍ عِنْدَ ذالِ (ذِكْرُ) وأدْغَمَها أبُو عَمْرٍو. وقَرَأ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ وفِرْقَةٌ بِإظْهارِ النُّونِ مِن (عَيْنٍ) والجُمْهُورُ عَلى إخْفائِها. وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ يَعْمُرَ (ذَكَرَ) فِعْلًا ماضِيًا (رَحْمَةَ) بِالنَّصْبِ، وحَكاهُ أبُو الفَتْحِ وذَكَرُهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الحَسَنِ، أيْ: هَذا المَتْلُوُّ مِنَ القُرْآنِ ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ وذَكَرَ الدّانِيُّ عَنِ ابْنِ يَعْمُرَ (ذَكِّرْ) فِعْلُ أمْرٍ مِنَ التَّذْكِيرِ (رَحْمَةَ) بِالنَّصْبِ و(عَبْدَهُ) نُصِبَ بِالرَّحْمَةِ، أيْ: ذَكِّرْ أنَّ رَحْمَةَ رَبِّكَ عَبْدَهُ. وذَكَرَ صاحِبُ اللَّوامِحِ أنَّ (ذَكَّرَ) بِالتَّشْدِيدِ ماضِيًا عَنِ الحَسَنِ بِاخْتِلافٍ وهو صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ يَعْمُرَ، ومَعْناهُ أنَّ المَتْلُوَّ، أيِ: القُرْآنَ (ذَكَّرَ بِرَحْمَةِ رَبِّكَ) فَلَمّا نُزِعَ الباءُ انْتَصَبَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ أنَّ القُرْآنَ ذَكَّرَ النّاسَ تَذْكِيرًا أنْ رَحِمَ اللَّهُ عَبْدَهُ فَيَكُونُ المَصْدَرُ عامِلًا في ﴿عَبْدَهُ زَكَرِيّا﴾ لِأنَّهُ ذَكَّرَهم بِما نَسُوهُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، فَتَجَدَّدَ عَلَيْهِمْ بِالقُرْآنِ ونُزُولِهِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (ذَكَّرَ) عَلى المُضِيِّ مُسْنَدًا إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ. وقَرَأ الكَلْبِيُّ (ذَكَرَ) عَلى المُضِيِّ خَفِيفًا مِنَ الذِّكْرِ (رَحْمَةَ رَبِّكَ) بِنَصْبِ التّاءِ (عَبْدُهُ) بِالرَّفْعِ بِإسْنادِ الفِعْلِ إلَيْهِ. وقالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: (ذَكَرَ رَحْمَةَ رَبِّكَ عَبْدُهُ) يَحْيى بْنُ يَعْمُرَ و(ذَكِّرْ) عَلى الأمْرِ عَنْهُ أيْضًا انْتَهى. و(إذْ) ظَرْفٌ العامِلُ فِيهِ قالَ الحَوْفَيُّ: (ذِكْرُ) وقالَ أبُو البَقاءِ: و(إذْ) ظَرْفٌ لِـ (رَحْمَةِ) أوْ لِـ (ذِكْرُ) انْتَهى. ووَصْفُ نِداءٍ بِالخَفِيِّ. قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لِئَلّا يُخالِطَهُ رِياءٌ. مُقاتِلٌ: لِئَلّا يُعابَ بِطَلَبِ الوَلَدِ في الكِبَرِ. قَتادَةُ: لِأنَّ السِّرَّ والعَلانِيَةَ (p-١٧٣)عِنْدَهُ تَعالى سَواءٌ. وقِيلَ: أسَرَّهُ مِن مَوالِيهِ الَّذِينَ خافَهم. وقِيلَ: لِأنَّهُ أمْرٌ دُنْياوِيٌّ فَأخْفاهُ لِأنَّهُ إنْ أُجِيبَ فَذاكَ بُغْيَتُهُ، وإلّا فَلا يَعْرِفُ ذَلِكَ أحَدٌ. وقِيلَ: لِأنَّهُ كانَ في جَوْفِ اللَّيْلِ. وقِيلَ: لِإخْلاصِهِ فِيهِ فَلا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. وقِيلَ: لِضَعْفِ صَوْتِهِ بِسَبَبِ كِبَرِهِ، كَما قِيلَ: الشَّيْخُ صَوْتُهُ خُفاتٌ وسَمْعُهُ تاراتٌ. وقِيلَ: لِأنَّ الإخْفاءَ سُنَّةُ الأنْبِياءِ، والجَهْرُ بِهِ يُعَدُّ مِنَ الِاعْتِداءِ. وفي التَّنْزِيلِ ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: ٥٥] . وفي الحَدِيثِ: «إنَّكم لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غائِبًا» . ﴿قالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي﴾ هَذِهِ كَيْفِيَّةُ دُعائِهِ وتَفْسِيرُ نِدائِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (وهَنَ) بِفَتْحِ الهاءِ. وقَرَأ الأعْمَشُ بِكَسْرِها. وقُرِئَ بِضَمِّها لُغاتٌ ثَلاثٌ، ومَعْناهُ ضَعْفٌ وأُسْنِدَ الوَهَنُ إلى العَظْمِ لِأنَّهُ عَمُودُ البَدَنِ وبِهِ قِوامُهُ وهو أصْلُ بِنائِهِ، فَإذا وهَنَ تَداعى ما وراءَهُ وتَساقَطَتْ قُوَّتُهُ؛ ولِأنَّهُ أشَدُّ ما فِيهِ وأصْلَبُهُ فَإذا وهَنَ كانَ ما وراءَهُ أوْهَنَ، ووَحَّدَ ﴿العَظْمُ﴾ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى الجِنْسِ، وقَصَدَ إلى أنَّ هَذا الجِنْسَ الَّذِي هو العَمُودُ والقِوامُ، وأشَدُّ ما تَرَكَّبَ مِنهُ الجَسَدُ قَدْ أصابَهُ الوَهَنُ ولَوْ جُمِعَ لَكانَ قَصْدًا آخَرَ وهو أنَّهُ لَمْ يَهِنْ مِنهُ بَعْضُ عِظامِهِ ولَكِنْ كُلُّها. وقالَ قَتادَةُ: اشْتَكى سُقُوطَ الأضْراسِ. قالَ الكَرْمانِيُّ: وكانَ لَهُ سَبْعُونَ سَنَةً. وقِيلَ: خَمْسٌ وسَبْعُونَ. وقِيلَ: خَمْسٌ وثَمانُونَ. وقِيلَ: سِتُّونَ. وقِيلَ: خَمْسٌ وسِتُّونَ. وشُبِّهَ الشَّيْبُ بِشُواظِ النّارِ في بَياضِهِ وانْتِشارِهِ في الشَّعْرِ وفُشُوِّهِ فِيهِ وأخْذِهِ مِنهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعالِ النّارِ ثُمَّ أخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعارَةِ، ثُمَّ أسْنَدَ الِاشْتِعالَ إلى مَكانِ الشَّعْرِ ومَنبَتِهِ وهو الرَّأْسُ، وأخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيَّزًا ولَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفاءً بِعِلْمِ المُخاطَبِ أنَّهُ رَأسُ زَكَرِيّاءَ فَمِن ثَمَّ فَصَحَّتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ وشُهِدَ لَها بِالبَلاغَةِ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وإلى هَذا نَظَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ. فَقالَ: ؎واشْتَعَلَ المُبْيَضُّ في مُسْوَدِّهِ ∗∗∗ مِثْلَ اشْتِعالِ النّارِ في جَزْلِ الغَضا وبَعْضُهم أعْرَبَ (شَيْبًا) مَصْدَرًا قالَ: لِأنَّ مَعْنى ﴿واشْتَعَلَ الرَّأْسُ﴾ شابَ فَهو مَصْدَرٌ مِنَ المَعْنى. وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ، واشْتِعالُ الرَّأْسِ اسْتِعارَةُ المَحْسُوسِ لِلْمَحْسُوسِ إذِ المُسْتَعارُ مِنهُ النّارُ والمُسْتَعارُ لَهُ الشَّيْبُ، والجامِعُ بَيْنَهُما الِانْبِساطُ والِانْتِشارُ ﴿ولَمْ أكُنْ﴾ نَفْيٌ فِيما مَضى، أيْ: ما كُنْتُ ﴿بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ بَلْ كُنْتُ سَعِيدًا مُوَفَّقًا إذْ كُنْتَ تُجِيبُ دُعائِي فَأسْعَدُ بِذَلِكَ، فَعَلى هَذا الكافُ مَفْعُولٌ. وقِيلَ: المَعْنى ﴿بِدُعائِكَ﴾ إلى الإيمانِ (شَقِيًّا) بَلْ كُنْتُ مِمَّنْ أطاعَكَ وعَبَدَكَ مُخْلِصًا. فالكافُ عَلى هَذا فاعِلٌ، والأظْهَرُ الأوَّلُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعالى بِما سَلَفَ إلَيْهِ مِن إنْعامِهِ عَلَيْهِ، أيْ: قَدْ أحْسَنْتَ إلَيَّ فِيما سَلَفَ وسَعِدْتُ بِدُعائِي إيّاكَ، فالإنْعامُ يَقْتَضِي أنْ تُجِيبَنِي آخِرًا كَما أجَبْتَنِي أوَّلًا. ورُوِيَ أنَّ حاتِمًا الطّائِيَّ أتاهُ طالِبُ حاجَةٍ فَقالَ: أنا أحْسَنْتُ إلَيْكَ وقْتَ كَذا، فَقالَ حاتِمٌ: مَرْحَبًا بِالَّذِي تَوَسَّلَ بِنا إلَيْنا وقَضى حاجَتَهُ. ﴿وإنِّي خِفْتُ المَوالِيَ مِن ورائِي﴾ ﴿المَوالِيَ﴾ بَنُو العَمِّ والقَرابَةِ الَّذِينَ يَلُونَ بِالنَّسَبِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎مَهْلًا بَنِي عَمِّنا مَهْلًا مَوالِينا ∗∗∗ لا تَنْبِشُوا بَيْنَنا ما كانَ مَدْفُونا وقالَ لَبِيدٌ: ؎ومَوْلًى قَدْ دَفَعْتُ الضَّيْمَ عَنْهُ ∗∗∗ وقَدْ أمْسى بِمَنزِلَةِ المَضِيمِ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ وأبُو صالِحٍ ﴿المَوالِيَ﴾ هُنا الكَلالَةُ، خافَ أنْ يَرِثُوا مالَهُ وأنْ يَرِثَهُ الكَلالَةُ. ورَوى قَتادَةُ والحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أخِي زَكَرِيّا ما كانَ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَرِثُ مالَهُ» . وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّما كانَ مَوالِيهِ مُهْمِلِينَ الدِّينَ فَخافَ بِمَوْتِهِ أنْ يَضِيعَ الدِّينُ فَطَلَبَ ولِيًّا يَقُومُ بِالدِّينِ بَعْدَهُ، وهَذا لا يَصِحُّ عَنْهُ إذْ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «نَحْنُ مَعاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُورَثُ ما تَرَكْناهُ فَهو صَدَقَةٌ» والظّاهِرُ اللّائِقُ بِزَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن حَيْثُ هو مَعْصُومٌ أنَّهُ لا يَطْلُبُ الوَلَدَ لِأجْلِ ما يُخْلِفُهُ مِن (p-١٧٤)حُطامِ الدُّنْيا. وكَذَلِكَ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّما خافَ أنْ تَنْقَطِعَ النُّبُوَّةُ مِن ولَدِهِ ويَرْجِعَ إلى عُصْبَتِهِ؛ لِأنَّ تِلْكَ إنَّما يَضَعُها اللَّهُ حَيْثُ شاءَ ولا يُعْتَرَضُ عَلى اللَّهِ فِيمَن شاءَهُ واصْطَفاهُ مِن عِبادِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ كانَ مَوالِيهِ وهم عَصَبَتُهُ - إخْوَتُهُ وبَنُو عَمِّهِ - شِرارَ بَنِي إسْرائِيلَ فَخافَهم عَلى الدِّينِ أنْ يُغَيِّرُوهُ وأنْ لا يُحْسِنُوا الخِلافَةَ عَلى أُمَّتِهِ، فَطَلَبَ عَقِبًا صالِحًا مِن صُلْبِهِ يَقْتَدِي بِهِ في إحْياءِ الدِّينِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (خِفْتُ) مِنَ الخَوْفِ. وقَرَأ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ وابْنُ عَبّاسٍ وسَعِيدُ بْنُ العاصِي وابْنُ يَعْمُرَ وابْنُ جُبَيْرٍ وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ ووَلَدُهُ مُحَمَّدٌ وزَيْدٌ وشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ والوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ لِأبِي عامِرٍ (خَفَّتِ) بِفَتْحِ الخاءِ والفاءِ مُشَدَّدَةً وكَسْرِ تاءِ التَّأْنِيثِ ﴿المَوالِيَ﴾ بِسُكُونِ الياءِ والمَعْنى انْقَطَعَ مَوالِيَّ وماتُوا فَإنَّما أطْلُبُ ولِيًّا يَقُومُ بِالدِّينِ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ (خِفْتُ) مِنَ الخَوْفِ ﴿المَوالِيَ﴾ بِسُكُونِ الياءِ عَلى قِراءَةِ (خِفْتُ) مِنَ الخَوْفِ يَكُونُ ﴿مِن ورائِي﴾، أيْ: بَعْدَ مَوْتِي. وعَلى قِراءَةِ (خَفَّتِ) يَحْتَمِلُ أنْ يَتَعَلَّقَ ﴿مِن ورائِي﴾ بِـ (خَفَّتِ) وهو الظّاهِرُ، فالمَعْنى أنَّهم خَفُّوا قُدّامَهُ، أيْ: دَرَجُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنهم مَن لَهُ تَقَوٍّ واعْتِضادٌ، وأنْ يَتَعَلَّقَ بِالمَوالِي، أيْ: قَلُّوا وعَجَزُوا عَنْ إقامَةِ الدِّينِ. و﴿ورائِي﴾ بِمَعْنى خَلْفِي ومَن بَعْدِي، فَسَألَ رَبَّهُ تَقْوِيَتَهم ومُظاهَرَتَهم بِوَلِيٍّ يَرْزُقُهُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِن ورايَ مَقْصُورًا كَعَصايَ. وتَقَدَّمَ شَرْحُ العاقِرِ في آلِ عِمْرانَ، وقَوْلُهُ ﴿مِن لَدُنْكَ﴾ تَأْكِيدٌ لِكَوْنِهِ ولِيًّا مَرْضِيًّا بِكَوْنِهِ مُضافًا إلى اللَّهِ وصادِرًا مِن عِنْدِهِ، أوْ أرادَ اخْتِراعًا مِنكَ بِلا سَبَبٍ لِأنِّي وامْرَأتِي لا نَصْلُحُ لِلْوِلادَةِ. والظّاهِرُ أنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَهَبَهُ ولِيًّا ولَمْ يُصَرِّحْ بِأنْ يَكُونَ ولَدًا لِبُعْدِ ذَلِكَ عِنْدَهُ لِكِبَرِهِ وكَوْنِ امْرَأتِهِ عاقِرًا. وقِيلَ: إنَّما سَألَ الوَلَدَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿يَرِثُنِي ويَرِثُ﴾ بِرَفْعِ الفِعْلَيْنِ صِفَةً لِلْوَلِيِّ، فَإنْ كانَ طَلَبَ الوَلَدَ فَوَصْفُهُ بِأنْ تَكُونَ الإجابَةُ في حَياتِهِ حَتّى يَرِثَهُ لِئَلّا تَكُونَ الإجابَةُ في الوَلَدِ لَكِنْ يُحْرَمُهُ فَلا يَحْصُلُ ما قَصَدَهُ. وقَرَأ النَّحْوِيّانِ والزُّهْرِيُّ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ واليَزِيدِيُّ وابْنُ عِيسى الأصْبَهانِيُّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وقَتادَةُ بِجَزْمِهِما عَلى جَوابِ الأمْرِ. وقَرَأ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وابْنُ يَعْمُرَ والجَحْدَرِيُّ وقَتادَةُ وأبُو حَرْبِ بْنُ أبِي الأسْوَدِ وجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وأبُو نَهِيكٍ ﴿يَرِثُنِي﴾ بِالرَّفْعِ والياءِ وأرِثُ جَعَلُوهُ فِعْلًا مُضارِعًا مِن ورِثَ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: وفِيهِ تَقْدِيمٌ فَمَعْناهُ (فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا) مِن آلِ يَعْقُوبَ ﴿يَرِثُنِي﴾ إنْ مِتُّ قَبْلَهُ، أيْ: نُبُوَّتِي، وأرِثُهُ إنْ ماتَ قَبْلِي، أيْ: مالَهُ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ الحَسَنِ. وقَرَأ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ والجَحْدَرِيُّ ﴿يَرِثُنِي﴾ وأرِثُ ﴿مِن آلِ يَعْقُوبَ﴾ . قالَ أبُو الفَتْحِ هَذا هو التَّجْرِيدُ، التَّقْدِيرُ (يَرِثُنِي) مِنهُ وأرِثُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وأرِثُ، أيْ: (يَرِثُنِي) بِهِ وأرِثُ ويُسَمّى التَّجْرِيدُ في عِلْمِ البَيانِ، والمُرادُ بِالإرْثِ إرْثُ العِلْمِ؛ لِأنَّ الأنْبِياءَ لا تُوَرِّثُ المالَ. وقِيلَ: ﴿يَرِثُنِي﴾ الحُبُورَةَ وكانَ حَبْرًا ويَرِثُ ﴿مِن آلِ يَعْقُوبَ﴾ المُلْكَ، يُقالُ: ورِثْتُهُ ووَرِثْتُ مِنهُ لُغَتانِ. وقِيلَ: (مِن) لِلتَّبْعِيضِ لا لِلتَّعْدِيَةِ؛ لِأنَّ ﴿آلِ يَعْقُوبَ﴾ لَيْسُوا كُلُّهم أنْبِياءَ ولا عُلَماءَ. وقَرَأ مُجاهِدٌ (أُوَيْرِثٌ) مِن آلِ يَعْقُوبَ عَلى التَّصْغِيرِ، وأصْلُهُ وُوَيْرِثٌ فَأُبْدِلَتِ الواوُ هَمْزَةً عَلى اللُّزُومِ لِاجْتِماعِ الواوَيْنِ وهو تَصْغِيرُ وارِثٍ، أيْ: غُلَيْمٌ صَغِيرٌ. وعَنِ الجَحْدَرِيِّ (وارِثٌ) بِكَسْرِ الواوِ يَعْنِي بِهِ الإمالَةَ المَحْضَةَ لا الكَسْرَ الخالِصَ، والظّاهِرُ أنَّ يَعْقُوبَ هو ابْنُ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ. وقِيلَ: هو يَعْقُوبُ بْنُ ماثانَ أخُو زَكَرِيّاءَ. وقِيلَ: يَعْقُوبُ هَذا وعِمْرانُ أبُو مَرْيَمَ أخَوانِ مِن نَسْلِ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ، ورَضِيًّا بِمَعْنى مَرْضِيٍّ. ﴿يازَكَرِيّا﴾، أيْ: قِيلَ لَهُ بِإثْرِ الدُّعاءِ. وقِيلَ: رَزَقَهُ بَعْدَ أرْبَعِينَ سَنَةً مِن دُعائِهِ. وقِيلَ: بَعْدَ سِتِّينَ والمُنادِي والمُبَشِّرُ زَكَرِيّاءَ هُمُ المَلائِكَةُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى قالَ تَعالى ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ﴾ [آل عمران: ٣٩] الآيَةَ، والغُلامُ الوَلَدُ الذَّكَرُ، وقَدْ يُقالُ لِلْأُنْثى غُلامَةٌ كَما قالَ. ؎تُهانُ لَها الغُلامَةُ والغُلامُ والظّاهِرُ أنَّ (يَحْيى) لَيْسَ عَرَبِيًّا لِأنَّهُ لَمْ تَكُنْ عادَتُهم أنْ يُسَمُّوا بِألْفاظِ العَرَبِيَّةِ فَيَكُونُ مَنعُهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، وإنْ كانَ عَرَبِيًّا فَيَكُونُ (p-١٧٥)مُسَمًّى بِالفِعْلِ كَيَعْمُرُ ويَعِيشُ وقَدْ سَمَّوْا بِيَمُوتَ وهو يَمُوتُ بْنُ المُزَرَّعِ ابْنُ أُخْتِ الجاحِظِ. وعَلى أنَّهُ عَرَبِيٌّ. فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ يَحْيى بِالحِكْمَةِ والعِفَّةِ. وقِيلَ: يَحْيا بِهِدايَتِهِ وإرْشادِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وقِيلَ لِأنَّهُ يُسْتَشْهَدُ، والشُّهَداءُ أحْياءٌ. وقِيلَ: لِأنَّهُ يُعَمَّرُ زَمَنًا طَوِيلًا. وقِيلَ: لِأنَّهُ حَيِيَ بَيْنَ شَيْخٍ كَبِيرٍ وأُمٍّ عاقِرٍ. وقِيلَ: لِأنَّهُ حَيِيَ بِهِ عُقْرُ أُمِّهِ وكانَتْ لا تَلِدُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ وابْنُ أسْلَمَ: لَمْ نُسَمِّ قَبْلَهُ أحَدًا بِيَحْيى. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا شاهِدٌ عَلى أنَّ الأسامِيَ الشُّنُعَ جَدِيرَةٌ بِالأثَرَةِ، وإيّاها كانَتِ العَرَبُ تُنَحِّي في التَّسْمِيَةِ لِكَوْنِها أنْبَهَ وأنْوَهَ وأنْزَهَ عَنِ النَّفْرِ، حَتّى قالَ القائِلُ في مَدْحِ قَوْمٍ: ؎شُنُعِ الأسامِي مُسْبِلِي أُزُرٍ ∗∗∗ حُمْرٍ تَمَسُّ الأرْضَ بِالهُدُبِ وقالَ رُؤْبَةُ لِلنَّسّابَةِ البَكْرِيِّ: وقَدْ سَألَهُ عَنْ نَسَبِهِ أنا ابْنُ العَجّاجِ فَقالَ: قَصَّرْتَ وعَرَّفْتَ انْتَهى. وقِيلَ لِلصَّلْتِ بْنِ عَطاءٍ: كَيْفَ تَقَدَّمْتَ عِنْدَ البَرامِكَةِ وعِنْدَهم مَن هو آدَبُ مِنكَ، فَقالَ: كَنْتُ غَرِيبَ الدّارِ غَرِيبَ الِاسْمِ خَفِيفَ الحَزْمِ شَحِيحًا بِالأشْلاءِ. فَذَكَرَ مِمّا قَدَّمَهُ كَوْنُهُ غَرِيبَ الِاسْمِ إذْ كانَ اسْمُهُ الصَّلْتَ. وقالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ ﴿سَمِيًّا﴾، أيْ: مَثَلًا ونَظِيرًا وكَأنَّهُ مِنَ المُساماةِ والسُّمُوِّ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا فِيهِ بُعْدٌ لِأنَّهُ لا يُفَضَّلُ عَلى إبْراهِيمَ ومُوسى. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا لَمْ تَلِدِ العَواقِرُ مِثْلَهُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنَّما قِيلَ لِلْمَثَلِ سَمِيٌّ؛ لِأنَّ كُلَّ مُتَشاكِلَيْنِ يُسَمّى كُلُّ واحِدٍ مِنهُما بِاسْمِ المِثْلِ والشَّبِيهِ والشَّكْلِ والنَّظِيرِ فَكُلُّ واحِدٍ مِنهُما سَمِيٌّ لِصاحِبِهِ. وقِيلَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ في أنَّهُ لَمْ يَعْصِ ولَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ قَطُّ، وأنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ شَيْخٍ فانٍ وعَجُوزٍ عاقِرٍ وأنَّهُ كانَ حَصُورًا انْتَهى. (وأنّى) بِمَعْنى كَيْفَ: وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها في قَوْلِهِ ﴿قالَ رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وامْرَأتِي عاقِرٌ﴾ [آل عمران: ٤٠] في آلِ عِمْرانَ، والعِتِيُّ المُبالَغَةُ في الكِبَرِ، ويُبْسِ العُودِ. وقَرَأ أبُو بَحْرِيَّةَ وابْنُ أبِي لَيْلى والأعْمَشُ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ (عِتِيًّا) بِكَسْرِ العَيْنِ وباقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ، وعَبْدُ اللَّهِ بِفَتْحِ العَيْنِ، وصادِ (صَلِيًّا) جَعَلَهُما مَصْدَرَيْنِ كالعَجِيجِ والرَّحِيلِ، وفي الضَّمِّ هُما كَذَلِكَ إلّا أنَّهُما عَلى فُعُولٍ. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ومُجاهِدٍ (عُسُيًّا) بِضَمِّ العَيْنِ والسِّينِ كَمُسُوَّرَةٍ. وحَكاها الدّانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وحَكاها الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أُبَيٍّ ومُجاهِدٍ، يُقالُ عَتّا العُودُ وعَسّا يَبِسَ وجَسّا. ﴿قالَ كَذَلِكَ﴾، أيِ: الأمْرُ كَذَلِكَ تَصْدِيقٌ لَهُ ثُمَّ ابْتَدَأ ﴿قالَ رَبُّكَ﴾ فالكافُ رَفْعٌ أوْ نَصْبٌ بِـ (قالَ)، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ ونَحْوُهُ ﴿وقَضَيْنا إلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أنَّ دابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾ [الحجر: ٦٦] . وقَرَأ الحَسَنُ ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ ولا يَخْرُجُ هَذا إلّا عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، أيِ: الأمْرُ كَما قُلْتُ، وهو عَلَيَّ ذَلِكَ يَهُونُ، ووَجْهٌ آخَرُ وهو أنْ يُشارَ بِذَلِكَ إلى ما تَقَدَّمَ مِن وعْدِ اللَّهِ لا إلى قَوْلِ زَكَرِيّاءَ وقالَ: مَحْذُوفٌ في كِلْتا القِراءَتَيْنِ، أيْ: قالَ ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ وإنْ شِئْتَ لَمْ تُنَوِّهْ؛ لِأنَّ اللَّهَ هو المُخاطِبُ، والمَعْنى أنَّهُ قالَ ذَلِكَ ووَعَدَهُ، وقَوْلُهُ الحَقُّ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وقَوْلُهُ ﴿قالَ كَذَلِكَ﴾ قِيلَ إنَّ المَعْنى قالَ لَهُ المَلَكُ (كَذَلِكَ) فَلْيَكُنِ الوُجُودُ كَما قِيلَ لَكَ ﴿قالَ رَبُّكَ﴾ خَلْقُ الغُلامِ ﴿عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾، أيْ: غَيْرُ بِدْعٍ وكَما خَلَقْتُكَ قَبْلُ وأخْرَجْتُكَ مِن عَدَمٍ إلى وُجُودٍ كَذَلِكَ أفْعَلُ الآنَ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنى قَوْلِهِ (كَذَلِكَ)، أيِ: الأمْرُ أنَّ اللَّذانِ ذَكَرْتَ مِنَ المَرْأةِ العاقِرِ والكِبَرِ هو كَذَلِكَ ولَكِنْ ﴿قالَ رَبُّكَ﴾ والمَعْنى عِنْدِي قالَ المَلَكُ (كَذَلِكَ)، أيْ: عَلى هَذِهِ الحالِ ﴿قالَ رَبُّكَ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ انْتَهى. وقَرَأ الحَسَنُ ﴿هُوَ عَلَيِّ هَيِّنٌ﴾ بِكَسْرِ الياءِ. وقَدْ أنْشَدُوا قَوْلَ النّابِغَةِ: ؎عَلَيِّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ∗∗∗ لِوالِدِهِ لَيْسَتْ بِذاتِ عَقارِبِ بِكَسْرِ ياءِ المُتَكَلِّمِ، وكَسْرُها شَبِيهٌ بِقِراءَةِ حَمْزَةَ ﴿وما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: ٢٢] بِكَسْرِ الياءِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿وقَدْ خَلَقْتُكَ﴾ بِتاءِ المُتَكَلِّمِ. وقَرَأ الأعْمَشُ وطَلْحَةُ وابْنُ وثّابٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ (خَلَقْناكَ) بِنُونِ العَظَمَةِ ﴿ولَمْ تَكُ شَيْئًا﴾، أيْ: شَيْئًا مَوْجُودًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَيْئًا؛ لِأنَّ المَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، أوْ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: (p-١٧٦)عَجِبْتُ مِن لا شَيْءَ إذا رَأى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا. (قالَ)، أيْ: زَكَرِيّا ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾، أيْ: عَلامَةً أعْلَمُ بِها وُقُوعَ ما بُشِّرْتُ بِهِ، وطَلَبَ ذَلِكَ لِيَزْدادَ يَقِينًا كَما قالَ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠] لا لِتَوَقُّفٍ مِنهُ عَلى صِدْقِ ما وُعِدَ بِهِ، ولا لِتَوَهُّمِ أنَّهُ ذَلِكَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ؛ لِعِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وقالَ الزَّجّاجُ: وقَعَتِ البِشارَةُ مُطْلَقَةً فَلَمْ يَعْرِفِ الوَقْتَ فَطَلَبَ الآيَةَ لِيَعْرِفَ وقْتَ الوُقُوعِ. ﴿قالَ آيَتُكَ﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أنَّهُ لَمّا حَمَلَتْ زَوْجَتُهُ بِيَحْيى أصْبَحَ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُكَلِّمَ أحَدًا وهو مَعَ ذَلِكَ يَقْرَأُ التَّوْراةَ ويَذْكُرُ اللَّهَ، فَإذا أرادَ مُناداةَ أحَدٍ لَمْ يُطِقْهُ. و(سَوِيًّا) حالٌ مِن ضَمِيرٍ، أيْ: لا تُكَلِّمْ في حالِ صِحَّتِكَ لَيْسَ بِكَ خَرَسٌ ولا عِلَّةٌ، قالَهُ الجُمْهُورُ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عائِدٌ عَلى اللَّيالِي، أيْ: كامِلاتٍ مُسْتَوَياتٍ فَتَكُونُ صِفَةً لِثَلاثٍ، ودَلَّ ذِكْرُ اللَّيالِي هُنا والأيّامِ في آلِ عِمْرانَ عَلى أنَّ المَنعَ مِنَ الكَلامِ اسْتَمَرَّ لَهُ ثَلاثَةَ أيّامٍ بِلَيالِيهِنَّ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ (أنْ لا تُكَلِّمُ) بِرَفْعِ المِيمِ جَعَلَها أنِ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، التَّقْدِيرُ أنَّهُ لا يُكَلِّمُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِنَصْبِها جَعَلُوا أنِ النّاصِبَةَ لِلْمُضارِعِ ﴿فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرابِ﴾، أيْ: وهو بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِن كَوْنِهِ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُكَلِّمَ النّاسَ، ومِحْرابُهُ مَوْضِعُ مُصَلّاهُ، والمِحْرابُ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في آلِ عِمْرانَ ﴿فَأوْحى إلَيْهِمْ﴾، أيْ: أشارَ. قالَ قَتادَةُ وابْنُ مُنَبِّهٍ والكَلْبِيُّ والقُرْطُبِيُّ أوْحى إلَيْهِمْ أشارَ، وذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: ويَشْهَدُ لَهُ إلّا رَمْزًا. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ كَتَبَ لَهم عَلى الأرْضِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقالَ مُجاهِدٌ: بَلْ كَتَبَ لَهم في التُّرابِ وكِلا الوَجْهَيْنِ وحْيٌ انْتَهى. وقالَ عِكْرِمَةُ: كَتَبَ في ورَقَةٍ، والوَحْيُ في كَلامِ العَرَبِ الكِتابَةُ. ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: ؎سِوى الأرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّواتِي كَأنَّها ∗∗∗ بَقِيَّةُ وحْيٍ في بُطُونِ الصَّحائِفِ وقالَ عَنْتَرَةُ: ؎كَوَحْيِ صَحائِفٍ مِن عَهْدِ كِسْرى ∗∗∗ فَأهْداها لِأعْجَمَ طِمْطِمِىِّ وقالَ جَرِيرٌ: ؎كَأنَّ أخا اليَهُودِ يَخُطُّ وحْيًا ∗∗∗ بِكافٍ في مَنازِلِها ولامِ والجُمْهُورُ عَلى أنَّ المَعْنى ﴿أنْ سَبِّحُوا﴾ صَلُّوا. وقِيلَ أمَرَهم بِذِكْرِ اللَّهِ والتَّسْبِيحِ. قالَ المُفَسِّرُونَ كانَ يَخْرُجُ عَلى قَوْمِهِ بُكْرَةً وعَشِيًّا فَيَأْمُرُهم بِالصَّلاةِ إشارَةً. وقالَ صاحِبُ التَّحْرِيرِ والتَّحْبِيرِ: وعِنْدِي في هَذا مَعْنًى لَطِيفٌ وهو أنَّهُ إنَّما خُصَّ بِالتَّسْبِيحِ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّ العادَةَ جارِيَةٌ أنَّ كُلَّ مَن رَأى أمْرًا عَجِبَ مِنهُ أوْ رَأى فِيهِ بَدِيعَ صَنْعَةٍ أوْ غَرِيبَ حِكْمَةٍ يَقُولُ: سُبْحانَ اللَّهِ سُبْحانَ الخالِقِ، فَلَمّا رَأى حُصُولَ الوَلَدِ مِن شَيْخٍ وعاقِرٍ عَجِبَ مِن ذَلِكَ فَسَبَّحَ وأمَرَ بِالتَّسْبِيحِ انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ و(أنْ) مُفَسِّرَةٌ. وقالَ الحَوْفِيُّ ﴿أنْ سَبِّحُوا﴾ (أنْ) نُصِبَ بِـ (أوْحى) . وقالَ أبُو البَقاءِ: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وأنْ تَكُونَ بِمَعْنى أيْ. انْتَهى. وقَرَأ طَلْحَةُ أنْ سَبِّحُوهُ بِهاءِ الضَّمِيرِ عائِدَةً عَلى اللَّهِ تَعالى. ورَوى ابْنُ غَزْوانَ عَنْ طَلْحَةَ: أنْ (سَبِّحُنَّ) بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مِن غَيْرِ واوٍ؛ ألْحَقَ فِعْلَ الأمْرِ نُونَ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدِ. ﴿يا يَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّةٍ﴾ في الكَلامِ حَذْفٌ، والتَّقْدِيرُ فَلَمّا وُلِدَ يَحْيى وكَبُرَ وبَلَغَ السِّنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ، قالَ اللَّهُ لَهُ عَلى لِسانِ المَلَكِ. وأبْعَدَ التَّبْرِيزِيُّ في قَوْلِهِ إنَّ المُنادِيَ لَهُ أبُوهُ حِينَ تَرَعْرَعَ ونَشَأ، والصَّحِيحُ ما سَبَقَ لِقَوْلِهِ ﴿وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾ والكِتابُ هو التَّوْراةُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِلا خِلافٍ لِأنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ عِيسى ولَمْ يَكُنِ الإنْجِيلُ مَوْجُودًا انْتَهى. ولَيْسَ كَما قالَ بَلْ قِيلَ لَهُ كِتابٌ خُصَّ بِهِ كَما خُصَّ كَثِيرٌ مِنَ الأنْبِياءِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وقِيلَ: الكِتابُ هُنا اسْمُ جِنْسٍ، أيِ: اتْلُ كُتُبَ اللَّهِ. وقِيلَ: الكِتابُ صُحُفُ إبْراهِيمَ. وقالَ الحَسَنُ: وعَلَّمَهُ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ وأرْسَلَهُ إلى بَنِي إسْرائِيلَ، وكانَ يَصُومُ ويُصَلِّي في حالِ طُفُولِيَّتِهِ ويَدْعُو إلى اللَّهِ (p-١٧٧)بِقُوَّةٍ: بِجِدٍّ واسْتِظْهارٍ وعَمَلٍ بِما فِيهِ. والحُكْمُ: النُّبُوَّةُ أوْ حُكْمُ الكِتابِ أوِ الحِكْمَةُ أوِ العِلْمُ بِالأحْكامِ أوِ اللُّبُّ، وهو العَقْلُ، أوْ آدابُ الخِدْمَةِ أوِ الفِراسَةُ الصّادِقَةُ، أقْوالٌ. (صَبِيًّا)، أيْ: شابًّا لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الكُهُولَةِ. وقِيلَ: ابْنُ سَنَتَيْنِ. وقِيلَ: ابْنُ ثَلاثٍ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: ”ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ“ ﴿وحَنانًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى الحُكْمِ، والحَنانُ الرَّحْمَةُ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ والحَسَنُ وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ وأبُو عُبَيْدَةَ والفَرّاءُ وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ: ؎تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَداكَ المَلِيكُ ∗∗∗ فَإنَّ لِكُلِّ مَقامٍ مَقالًا قالَ: وأكْثَرُ ما تُسْتَعْمَلُ مُثَنًّى كَما قالَ: ؎حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِن بَعْضِ وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: المَعْنى وجَعَلْناهُ (حَنانًا) لِأهْلِ زَمانِهِ. وقالَ مُجاهِدٌ وتَعَطُّفًا مِن رَبِّهِ عَلَيْهِ. وعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: لَيِّنًا. وعَنْ عِكْرِمَةَ وابْنِ زَيْدٍ: مَحَبَّةً، وعَنْ عَطاءٍ تَعْظِيمًا. وقَوْلُهُ ﴿وزَكاةً﴾ عَنِ الضَّحّاكِ وقَتادَةَ عَمَلًا صالِحًا. وعَنِ ابْنِ السّائِبِ: صَدَقَةً تُصُدِّقَ بِها عَلى أبَوَيْهِ. وعَنِ الزَّجّاجِ تَطْهِيرًا. وعَنِ ابْنِ الأنْبارِيِّ زِيادَةً في الخَيْرِ. وقِيلَ ثَناءً كَما يُزَكَّي الشُّهُودُ. ﴿وكانَ تَقِيًّا﴾ . قالَ قَتادَةُ: لَمْ يَهُمَّ قَطُّ بِكَبِيرَةٍ ولا صَغِيرَةٍ ولا هَمَّ بِامْرَأةٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: جَعَلَهُ مُتَّقِيًّا لَهُ لا يَعْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ. وقالَ مُجاهِدٌ: كانَ طَعامُهُ العُشْبَ المُباحَ وكانَ لِلدَّمْعِ في خَدَّيْهِ مَجارٍ بائِنَةٌ ﴿وبَرًّا بِوالِدَيْهِ﴾، أيْ: كَثِيرُ البِرِّ والإكْرامِ والتَّبْجِيلِ. وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو جَعْفَرٍ في رِوايَةٍ وأبُو نَهِيكٍ وأبُو مِجْلَزٍ (وبِرًّا) في المَوْضِعَيْنِ بِكَسْرِ الباءِ، أيْ: وذا بِرٍّ ﴿ولَمْ يَكُنْ جَبّارًا﴾، أيْ: مُتَكَبِّرًا ﴿عَصِيًّا﴾، أيْ: عاصِيًا كَثِيرَ العِصْيانِ، وأصْلُهُ عَصُويٌ، فَعُولٌ لِلْمُبالَغَةِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ فَعِيلًا وهي مِن صِيَغِ المُبالَغَةِ. ﴿وسَلامٌ عَلَيْهِ﴾ . قالَ الطَّبَرِيُّ: أيْ أمانٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والأظْهَرُ أنَّها التَّحِيَّةُ المُتَعارَفَةُ، وإنَّما الشَّرَفُ في أنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وحَيّاهُ في المَواطِنِ الَّتِي الإنْسانُ فِيها في غايَةِ الضَّعْفِ والحاجَةِ وقِلَّةِ الحِيلَةِ والفَقْرِ إلى اللَّهِ، وذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ الحَسَنِ أنَّ عِيسى ويَحْيى - عَلَيْهِما السَّلامُ - التَقَيا وهُما ابْنا الخالَةِ، فَقالَ يَحْيى لِعِيسى: ادْعُ لِي فَأنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقالَ لَهُ عِيسى: بَلْ أنْتَ ادْعُ لِي فَأنْتَ خَيْرٌ مِنِّي؛ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ وأنا سَلَّمْتُ عَلى نَفْسِي. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: ﴿يَوْمَ وُلِدَ﴾، أيْ: أمانٌ عَلَيْهِ مِن أنْ يَنالَهُ الشَّيْطانُ ﴿ويَوْمَ يَمُوتُ﴾، أيْ: أمانٌ مِن عَذابِ القَبْرِ ﴿ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ مِن عَذابِ اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ. وفي قَوْلِهِ ﴿ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ تَنْبِيهٌ عَلى كَوْنِهِ مِنَ الشُّهَداءِ لِقَوْلِهِ ﴿بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩] وهَذا السَّلامُ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ وأنْ يَكُونَ مِنَ المَلائِكَةِ انْتَهى. والأظْهَرُ أنَّهُ مِنَ اللَّهِ لِأنَّهُ في سِياقِ ﴿وآتَيْناهُ الحُكْمَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب