الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ اليَمِينِ والشَّمائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وهم داخِرُونَ﴾ ﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مِن دابَّةٍ والمَلائِكَةُ وهم لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾
فِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا خَوَّفَ المُشْرِكِينَ بِالأنْواعِ الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ مِنَ العَذابِ أرْدَفَهُ بِذِكْرِ ما يَدُلُّ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ في تَدْبِيرِ أحْوالِ العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ وتَدْبِيرِ أحْوالِ الأرْواحِ والأجْسامِ، لِيُظْهِرَ لَهم أنَّ مَعَ كَمالِ هَذِهِ القُدْرَةِ القاهِرَةِ، والقُوَّةِ الغَيْرِ المُتَناهِيَةِ لا يَعْجِزُ عَنْ إيصالِ العَذابِ إلَيْهِمْ عَلى أحَدِ تِلْكَ الأقْسامِ الأرْبَعَةِ.
المسألة الثّانِيَةُ: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (أوَلَمْ تَرَوْا) بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ، وكَذَلِكَ في سُورَةِ العَنْكَبُوتِ: (أوَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ يَبْدَأُ اللَّهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [العنكبوت: ١٩] بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ، والباقُونَ بِالياءِ فِيهِما كِنايَةً عَنِ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ، وأيْضًا أنَّ ما قَبْلَهُ غَيْبَةٌ وهو قَوْلُهُ: ﴿أنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أوْ يَأْتِيَهُمُ العَذابُ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿أوْ يَأْخُذَهُمْ﴾ [النَّحْلِ: ٤٥ - ٤٦] فَكَذا قَوْلُهُ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا﴾ وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وحْدَهُ: (تَتَفَيَّأُ) بِالتّاءِ والباقُونَ بِالياءِ، وكِلاهُما جائِزٌ لِتَقَدُّمِ الفِعْلِ عَلى الجَمْعِ.
المسألة الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللَّهُ﴾ لَمّا كانَتِ الرُّؤْيَةُ هَهُنا بِمَعْنى النَّظَرِ وُصِلَتْ بِإلى؛ لِأنَّ المُرادَ بِهِ الِاعْتِبارُ، والِاعْتِبارُ لا يَكُونُ بِنَفْسِ الرُّؤْيَةِ حَتّى يَكُونَ مَعَها نَظَرٌ إلى الشَّيْءِ وتَأمُّلٌ لِأحْوالِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿إلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾ قالَ أهْلُ المَعانِي: أرادَ مِن شَيْءٍ لَهُ ظِلٌّ مِن جَبَلٍ وشَجَرٍ وبِناءٍ وجِسْمٍ قائِمٍ، ولَفْظُ الآيَةِ يُشْعِرُ بِهَذا القَيْدِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ اليَمِينِ والشَّمائِلِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ كَثِيفٌ يَقَعُ لَهُ ظِلٌّ عَلى الأرْضِ.
وقَوْلُهُ: ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ﴾ إخْبارٌ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿شَيْءٍ﴾ ولَيْسَ بِوَصْفٍ لَهُ، ويَتَفَيَّأُ يَتَفَعَّلُ مِنَ الفَيْءِ يُقالُ: فاءَ الظِّلُّ يَفِيءُ فَيْئًا إذا رَجَعَ وعادَ بَعْدَما نَسَخَهُ ضِياءُ الشَّمْسِ، وأصْلُ الفَيْءِ الرُّجُوعُ، ومِنهُ فَيْءُ المَوْلى وذَكَرْنا ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ فاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٦] وكَذَلِكَ فَيْءُ المُسْلِمِينَ لِما يَعُودُ عَلى المُسْلِمِينَ مِن مالِ مَن خالَفَ دِينَهم، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنهُمْ﴾ [الحشر: ٦] وأصْلُ هَذا كُلِّهِ مِنَ الرُّجُوعِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إذا عُدِّيَ فاءَ فَإنَّهُ يُعَدّى إمّا بِزِيادَةِ الهَمْزَةِ أوْ بِتَضْعِيفِ العَيْنِ. أمّا التَّعْدِيَةُ بِزِيادَةِ الهَمْزَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿ما أفاءَ اللَّهُ﴾ [الحشر: ٦] وأمّا بِتَضْعِيفِ العَيْنِ فَكَقَوْلِهِ: فَيَّأ اللَّهُ الظِّلَّ فَتَفَيَّأ وتَفَيَّأ مُطاوِعُ فَيَّأ. قالَ الأزْهَرِيُّ: تَفَيُّؤُ الظِّلالِ رُجُوعُها بَعْدَ انْتِصافِ النَّهارِ، فالتَّفَيُّؤُ لا يَكُونُ إلّا بِالعَشِيِّ بَعْدَما انْصَرَفَتْ عَنْهُ الشَّمْسُ، والظِّلُّ ما يَكُونُ بِالغَداةِ وهو ما لَمْ تَنَلْهُ الشَّمْسُ كَما قالَ الشّاعِرُ:(p-٣٤)
؎فَلا الظِّلُّ مِن بَرْدِ الضُّحى تَسْتَطِيعُهُ ولا الفَيْءُ مِن بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ
قالَ ثَعْلَبٌ: أُخْبِرْتُ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ أنَّ رُؤْبَةَ قالَ: كُلُّ ما كانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزالَتْ عَنْهُ فَهو فَيْءٌ، وما لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهو ظِلٌّ، ومِنهم مَن أنْكَرَ ذَلِكَ، فَإنَّ أبا زَيْدٍ أنْشَدَ لِلنّابِغَةِ الجَعْدِيِّ:
؎فَسَلامُ الإلَهِ يَغْدُو عَلَيْهِمْ ∗∗∗ وفُيُوءُ الغُرُوسِ ذاتُ الظِّلالِ
فَهَذا الشِّعْرُ قَدْ أُوقِعَ فِيهِ لَفْظُ الفَيْءِ عَلى ما لَمْ تَنْسَخْهُ الشَّمْسُ؛ لِأنَّ ما في الجَنَّةِ مِنَ الظِّلِّ ما حَصَلَ بَعْدَ أنْ كانَ زائِلًا بِسَبَبِ نُورِ الشَّمْسِ، وتَقُولُ العَرَبُ في جَمْعِ فَيْءٍ: أفْياءٌ، وهي لِلْعَدَدِ القَلِيلِ، وفُيُوءٌ لِلْكَثِيرِ كالنُّفُوسِ والعُيُونِ، وقَوْلُهُ: ﴿ظِلالُهُ﴾ أضافَ الظِّلالَ إلى مُفْرَدٍ، ومَعْناهُ الإضافَةُ إلى ذَوِي الظِّلالِ، وإنَّما حَسُنَ هَذا؛ لِأنَّ الَّذِي عادَ إلَيْهِ الضَّمِيرُ وإنْ كانَ واحِدًا في اللَّفْظِ وهو قَوْلُهُ: إلى ما خَلَقَ اللَّهُ، إلّا أنَّهُ كَثِيرٌ في المَعْنى، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ﴾ [الزخرف: ١٣] فَأضافَ الظُّهُورَ وهو جَمْعٌ، إلى ضَمِيرٍ مُفْرَدٍ، لِأنَّهُ يَعُودُ إلى واحِدٍ أُرِيدَ بِهِ الكَثْرَةُ وهو قَوْلُهُ: ﴿ما تَرْكَبُونَ﴾ هَذا كُلُّهُ كَلامُ الواحِدِيِّ وهو بَحْثٌ حَسَنٌ.
* * *
أما قوله: ﴿عَنِ اليَمِينِ والشَّمائِلِ﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ:
البحث الأوَّلُ: في المُرادِ بِاليَمِينِ والشَّمائِلِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ يَمِينَ الفَلَكِ هو المَشْرِقُ وشِمالَهُ هو المَغْرِبُ، والسَّبَبُ في تَخْصِيصِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ بِهَذَيْنِ الجانِبَيْنِ أنَّ أقْوى جانِبَيِ الإنْسانِ يَمِينُهُ، ومِنهُ تَظْهَرُ الحَرَكَةُ القَوِيَّةُ، فَلَمّا كانَتِ الحَرَكَةُ الفَلَكِيَّةُ اليَوْمِيَّةُ آخِذَةً مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، لا جَرَمَ كانَ المَشْرِقُ يَمِينَ الفَلَكِ والمَغْرِبُ شِمالَهُ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِها إلى وقْتِ انْتِهائِها إلى وسَطِ الفَلَكِ تَقَعُ الأظْلالُ إلى الجانِبِ الغَرْبِيِّ، فَإذا انْحَدَرَتِ الشَّمْسُ مِن وسَطِ الفَلَكِ إلى الجانِبِ الغَرْبِيِّ وقَعَ الأظْلالُ في الجانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَهَذا هو المُرادُ مِن تَفَيُّؤِ الظِّلالِ مِنَ اليَمِينِ إلى الشِّمالِ وبِالعَكْسِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فالأظْلالُ في أوَّلِ النَّهارِ تَبْتَدِئُ مِن يَمِينِ الفَلَكِ عَلى الرُّبْعِ الغَرْبِيِّ مِنَ الأرْضِ، ومِن وقْتِ انْحِدارِ الشَّمْسِ مِن وسَطِ الفَلَكِ تَبْتَدِئُ الأظْلالُ مِن شِمالِ الفَلَكِ واقِعَةً عَلى الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ مِنَ الأرْضِ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ البَلْدَةَ الَّتِي يَكُونُ عَرْضُها أقَلَّ مِن مِقْدارِ المِيلِ، فَإنَّ في الصَّيْفِ تَحْصُلُ الشَّمْسُ عَلى يَسارِها، وحِينَئِذٍ يَقَعُ الأظْلالُ عَلى يَمِينِهِمْ، فَهَذا هو المُرادُ مِنَ انْتِقالِ الأظْلالِ عَنِ الأيْمانِ إلى الشَّمائِلِ وبِالعَكْسِ. هَذا ما حَصَّلْتُهُ في هَذا البابِ، وكَلامُ المُفَسِّرِينَ فِيهِ غَيْرُ مُلَخَّصٍ.
البحث الثّانِي: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: ما السَّبَبُ في أنْ ذَكَرَ اليَمِينَ بِلَفْظِ الواحِدِ، والشَّمائِلَ بِصِيغَةِ الجَمْعِ ؟ .
وأُجِيبَ عَنْهُ بِأشْياءَ:
أحَدُها: أنَّهُ وحَّدَ اليَمِينَ والمُرادُ الجَمْعُ، ولَكِنَّهُ اقْتَصَرَ في اللَّفْظِ عَلى الواحِدِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: ٤٥] .
وثانِيها: قالَ الفَرّاءُ: كَأنَّهُ إذا وحَّدَ ذَهَبَ إلى واحِدَةٍ مِن ذَواتِ الأظْلالِ، وإذا جَمَعَ ذَهَبَ إلى كُلِّها، وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ما خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾ لَفْظُهُ واحِدٌ، ومَعْناهُ الجَمْعُ عَلى ما بَيَّنّاهُ فَيُحْتَمَلُ كِلا الأمْرَيْنِ.
وثالِثُها: أنَّ العَرَبَ إذا ذَكَرَتْ صِيغَتَيْ جَمْعٍ عَبَّرَتْ عَنْ إحْداهُما بِلَفْظِ الواحِدِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] وقَوْلِهِ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] .
ورابِعُها: أنّا إذا فَسَّرْنا اليَمِينَ بِالمَشْرِقِ كانَتِ النُّقْطَةُ الَّتِي هي مَشْرِقُ الشَّمْسِ واحِدَةً بِعَيْنِها، فَكانَتِ اليَمِينُ (p-٣٥)واحِدَةً. وأمّا الشَّمائِلُ فَهي عِبارَةٌ عَنِ الِانْحِرافاتِ الواقِعَةِ في تِلْكَ الأظْلالِ بَعْدَ وُقُوعِها عَلى الأرْضِ وهي كَثِيرَةٌ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ اللَّهُ تَعالى عَنْها بِصِيغَةِ الجَمْعِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المسألة الرّابِعَةُ: أما قوله: ﴿سُجَّدًا لِلَّهِ﴾ فَفِيهِ احْتِمالاتٌ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ السُّجُودِ الِاسْتِسْلامَ والِانْقِيادَ يُقالُ: سَجَدَ البَعِيرُ إذا طَأْطَأ رَأْسَهُ لِيُرْكَبَ، وسَجَدَتِ النَّخْلَةُ إذا مالَتْ لِكَثْرَةِ الحِمْلِ ويُقالُ: اسْجُدْ لِقِرْدِ السُّوءِ في زَمانِهِ، أيِ: اخْضَعْ لَهُ قالَ الشّاعِرُ:
؎تَرى الأُكْمَ فِيها سُجَّدًا لِلْحَوافِرِ
أيْ: مُتَواضِعَةً. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى دَبَّرَ النَّيِّراتِ الفَلَكِيَّةَ، والأشْخاصَ الكَوْكَبِيَّةَ، بِحَيْثُ يَقَعُ أضْواؤُها عَلى هَذا العالَمِ السُّفْلِيِّ عَلى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ. ثُمَّ إنّا نُشاهِدُ أنَّ تِلْكَ الأضْواءَ، وتِلْكَ الأظْلالَ لا تَقَعُ في هَذا العالَمِ إلّا عَلى وفْقِ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعالى وتَقْدِيرِهِ، فَنُشاهِدُ أنَّ الشَّمْسَ إذا طَلَعَتْ وقَعَتِ لِلْأجْسامِ الكَثِيفَةِ أظْلالٌ مُمْتَدَّةٌ في الجانِبِ الغَرْبِيِّ مِنَ الأرْضِ، ثُمَّ كُلَّما ازْدادَتِ الشَّمْسُ طُلُوعًا وارْتِفاعًا، ازْدادَتْ تِلْكَ الأظْلالُ تَقَلُّصًا وانْتِقاصًا إلى الجانِبِ الشَّرْقِيِّ إلى أنْ تَصِلَ الشَّمْسُ إلى وسَطِ الفَلَكِ، فَإذا انْحَدَرَتْ إلى الجانِبِ الغَرْبِيِّ ابْتَدَأتِ الأظْلالُ بِالوُقُوعِ في الجانِبِ الشَّرْقِيِّ، وكُلَّما ازْدادَتِ الشَّمْسُ انْحِدارًا ازْدادَتِ الأظْلالُ تَمَدُّدًا وتَزايُدًا في الجانِبِ الشَّرْقِيِّ. وكَما أنّا نُشاهِدُ هَذِهِ الحالَةَ في اليَوْمِ الواحِدِ، فَكَذَلِكَ نُشاهِدُ أحْوالَ الأظْلالِ مُخْتَلِفَةً في التَّيامُنِ والتَّياسُرِ في طُولِ السَّنَةِ، بِسَبَبِ اخْتِلافِ أحْوالِ الشَّمْسِ في الحَرَكَةِ مِنَ الجَنُوبِ إلى الشَّمالِ وبِالعَكْسِ، فَلَمّا شاهَدْنا أحْوالَ هَذِهِ الأظْلالِ مُخْتَلِفَةً بِسَبَبِ الِاخْتِلافاتِ اليَوْمِيَّةِ الواقِعَةِ في شَرْقِ الأرْضِ وغَرْبِها، وبِحَسَبِ الِاخْتِلافاتِ الواقِعَةِ في طُولِ السَّنَةِ في يَمِينِ الفَلَكِ ويَسارِهِ، ورَأيْنا أنَّها واقِعَةٌ عَلى وجْهٍ مَخْصُوصٍ وتَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ، عَلِمْنا أنَّها مُنْقادَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ خاضِعَةٌ لِتَقْدِيرِهِ وتَدْبِيرِهِ، فَكانَتِ السَّجْدَةُ عِبارَةً عَنْ هَذِهِ الحالَةِ.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: اخْتِلافُ حالِ هَذِهِ الأظْلالِ مُعَلَّلٌ بِاخْتِلافِ سَيْرِ النَّيِّرِ الأعْظَمِ الَّذِي هو الشَّمْسُ، لا لِأجْلِ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعالى وتَدْبِيرِهِ ؟ .
قُلْنا: قَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ الجِسْمَ لا يَكُونُ مُتَحَرِّكًا لِذاتِهِ، إذْ لَوْ كانَتْ ذاتُهُ عِلَّةً لِهَذا الجُزْءِ المَخْصُوصِ مِنَ الحَرَكَةِ، لَبَقِيَ هَذا الجُزْءُ مِنَ الحَرَكَةِ لِبَقاءِ ذاتِهِ، ولَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الجُزْءُ مِنَ الحَرَكَةِ لامْتَنَعَ حُصُولُ الجُزْءِ الآخَرِ مِنَ الحَرَكَةِ، ولَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَكانَ هَذا سُكُونًا لا حَرَكَةً، فالقَوْلُ بِأنَّ الجِسْمَ المُتَحَرِّكَ لِذاتِهِ يُوجِبُ القَوْلَ بِكَوْنِهِ ساكِنًا لِذاتِهِ وأنَّهُ مُحالٌ، وما أفْضى ثُبُوتُهُ إلى نَفْيِهِ كانَ باطِلًا، فَعَلِمْنا أنَّ الجِسْمَ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُتَحَرِّكًا لِذاتِهِ، وأيْضًا فَقَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ الأجْسامَ مُتَماثِلَةٌ في تَمامِ الماهِيَّةِ، فاخْتِصاصُ جِرْمِ الشَّمْسِ بِالقُوَّةِ المُعَيَّنَةِ والخاصِّيَّةِ المُعَيَّنَةِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بِتَدْبِيرِ الخالِقِ المُخْتارِ الحَكِيمِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: هَبْ أنَّ اخْتِلافَ أحْوالِ الأظْلالِ إنَّما كانَ لِأجْلِ حَرَكاتِ الشَّمْسِ، إلّا أنّا لَمّا دَلَّلْنا عَلى أنَّ مُحَرِّكَ الشَّمْسِ بِالحَرَكَةِ الخاصَّةِ لَيْسَ إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ كانَ هَذا دَلِيلًا عَلى أنَّ اخْتِلافَ أحْوالِ الأظْلالِ لَمْ يَقَعْ إلّا بِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَعالى وتَخْلِيقِهِ، فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ بِهَذا السُّجُودِ الِانْقِيادُ والتَّواضُعُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدانِ﴾ [الرحمن: ٦] وقَوْلُهُ: ﴿وظِلالُهم بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ [الرعد: ١٥] قَدْ مَرَّ بَيانُهُ وشَرْحُهُ.
والقَوْلُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ هَذا السُّجُودِ، أنَّ هَذِهِ الأظْلالَ واقِعَةٌ عَلى الأرْضِ مُلْتَصِقَةٌ بِها عَلى هَيْئَةِ (p-٣٦)السّاجِدِ. قالَ أبُو العَلاءِ المُعَرِّي في صِفَةِ وادٍ:
؎بِخَرْقٍ يُطِيلُ الجُنْحُ فِيهِ سُجُودَهُ ∗∗∗ ولِلْأرْضِ زِيُّ الرّاهِبِ المُتَعَبِّدِ
فَلَمّا كانَتِ الأظْلالُ تُشْبِهُ بِشَكْلِها شَكْلَ السّاجِدِينَ أطْلَقَ اللَّهُ عَلَيْها هَذا اللَّفْظَ، وكانَ الحَسَنُ يَقُولُ: أمّا ظِلُّكَ فَسَجَدَ لِرَبِّكَ، وأمّا أنْتَ فَلا تَسْجُدُ لَهُ بِئْسَما صَنَعْتَ، وقالَ مُجاهِدٌ: ظِلُّ الكافِرِ يُصَلِّي وهو لا يُصَلِّي، وقِيلَ: ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ ساجِدًا أمْ لا.
واعْلَمْ أنَّ الوجه الأوَّلَ أقْرَبُ إلى الحَقائِقِ العَقْلِيَّةِ، والثّانِي أقْرَبُ إلى الشُّبُهاتِ الظّاهِرَةِ.
المسألة الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿سُجَّدًا﴾ حالٌ مِنَ الظِّلالِ وقَوْلُهُ: ﴿وهم داخِرُونَ﴾ أيْ: صاغِرُونَ، يُقالُ: دَخَرَ يَدْخَرُ دُخُورًا، أيْ: صَغُرَ يَصْغُرُ صَغارًا، وهو الَّذِي يَفْعَلُ ما تَأْمُرُهُ شاءَ أمْ أبى، وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ الأشْياءَ مُنْقادَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وتَدْبِيرِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿وهم داخِرُونَ﴾ حالٌ أيْضًا مِنَ الظِّلالِ.
فَإنْ قِيلَ: الظِّلالُ لَيْسَتْ مِنَ العُقَلاءِ فَكَيْفَ جازَ جَمْعُها بِالواوِ والنُّونِ ؟ .
قُلْنا: لِأنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَهم بِالطّاعَةِ والدُّخُورِ أشْبَهُوا العُقَلاءَ.
* * *
أما قوله تَعالى: ﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مِن دابَّةٍ والمَلائِكَةُ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قَدْ ذَكَرْنا أنَّ السُّجُودَ عَلى نَوْعَيْنِ: سُجُودٌ هو عِبادَةٌ كَسُجُودِ المُسْلِمِينَ لِلَّهِ تَعالى، وسُجُودٌ هو عِبارَةٌ عَنِ الِانْقِيادِ لِلَّهِ تَعالى والخُضُوعِ، ويَرْجِعُ حاصِلُ هَذا السُّجُودِ إلى أنَّها في نَفْسِها مُمْكِنَةُ الوُجُودِ والعَدَمِ قابِلَةٌ لَهُما، وأنَّهُ لا يَتَرَجَّحُ أحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلى الآخَرِ إلّا لِمُرَجِّحٍ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: المُرادُ بِالسُّجُودِ المَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ السُّجُودُ بِالمَعْنى الثّانِي وهو التَّواضُعُ والِانْقِيادُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ اللّائِقَ بِالدّابَّةِ لَيْسَ إلّا هَذا السُّجُودَ، ومِنهم مَن قالَ: المُرادُ بِالسُّجُودِ هَهُنا هو المَعْنى الأوَّلُ، لِأنَّ اللّائِقَ بِالمَلائِكَةِ هو السُّجُودُ بِهَذا المَعْنى؛ لِأنَّ السُّجُودَ بِالمَعْنى الثّانِي حاصِلٌ في كُلِّ الحَيَواناتِ والنَّباتاتِ والجَماداتِ، ومِنهم مَن قالَ: السُّجُودُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ المَعْنَيَيْنِ، وحَمْلُ اللَّفْظِ المُشْتَرَكِ لِإفادَةِ مَجْمُوعِ مَعْنَيَيْهِ جائِزٌ، فَحَمْلُ لَفْظِ السُّجُودِ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى الأمْرَيْنِ مَعًا، أمّا في حَقِّ الدّابَّةِ فَبِمَعْنى التَّواضُعِ، وأمّا في حَقِّ المَلائِكَةِ فَبِمَعْنى سُجُودِ المُسْلِمِينَ لِلَّهِ تَعالى، وهَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ ثَبَتَ أنَّ اسْتِعْمالَ اللَّفْظِ المُشْتَرَكِ لِإفادَةِ جَمِيعِ مَفْهُوماتِهِ مَعًا غَيْرُ جائِزٍ.
المسألة الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿مِن دابَّةٍ﴾ قالَ الأخْفَشُ: يُرِيدُ مِنَ الدَّوابِّ وأخْبَرَ بِالواحِدِ كَما تَقُولُ: ما أتانِي مِن رَجُلٍ مِثْلُهُ، وما أتانِي مِنَ الرِّجالِ مِثْلُهُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ كُلَّ ما دَبَّ عَلى الأرْضِ.
المسألة الثّالِثَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: ما الوجه في تَخْصِيصِ الدَّوابِّ والمَلائِكَةِ بِالذِّكْرِ ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ:
الوجه الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في آيَةِ الظِّلالِ أنَّ الجَماداتِ بِأسْرِها مُنْقادَةٌ لِلَّهِ تَعالى وبَيَّنَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ الحَيَواناتِ بِأسْرِها مُنْقادَةٌ لِلَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ أخَسَّها الدَّوابُّ وأشْرَفَها المَلائِكَةُ، فَلَمّا بَيَّنَ في أخَسِّها وفي أشْرَفِها كَوْنَها مُنْقادَةً لِلَّهِ تَعالى كانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى أنَّها بِأسْرِها مُنْقادَةٌ خاضِعَةٌ لِلَّهِ تَعالى.
والوجه الثّانِي: قالَ حُكَماءُ الإسْلامِ: الدّابَّةُ اشْتِقاقُها مِنَ الدَّبِيبِ، والدَّبِيبُ عِبارَةٌ عَنِ الحَرَكَةِ (p-٣٧)الجُسْمانِيَّةِ، فالدّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوانٍ جُسْمانِيٍّ يَتَحَرَّكُ ويَدِبُّ، فَلَمّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى المَلائِكَةَ عَنِ الدّابَّةِ عَلِمْنا أنَّها لَيْسَتْ مِمّا يَدِبُّ، بَلْ هي أرْواحٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ، ويُمْكِنُ الجَوابُ عَنْهُ بِأنَّ الجَناحَ لِلطَّيَرانِ مُغايِرٌ لِلدَّبِيبِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
أما قوله تَعالى: ﴿وهم لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ .
فَفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: المَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ شَرْحُ صِفاتِ المَلائِكَةِ وهي دَلالَةٌ قاهِرَةٌ قاطِعَةٌ عَلى عِصْمَةِ المَلائِكَةِ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وهم لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم مُنْقادُونَ لِصانِعِهِمْ وخالِقِهِمْ وأنَّهم ما خالَفُوهُ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما نَتَنَزَّلُ إلّا بِأمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٦٤] وقَوْلُهُ: ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وهم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٧] وأما قوله: ﴿ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ فَهَذا أيْضًا يَدُلُّ عَلى أنَّهم فَعَلُوا كُلَّ ما كانُوا مَأْمُورِينَ بِهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى عِصْمَتِهِمْ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ.
فَإنْ قالُوا: هَبْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّهم فَعَلُوا كُلَّ ما أُمِرُوا بِهِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّهم تَرَكُوا كُلَّ ما نُهُوا عَنْهُ ؟ .
قُلْنا: لِأنَّ كُلَّ مَن نُهِيَ عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ أُمِرَ بِتَرْكِهِ، وحِينَئِذٍ يَدْخُلُ في اللَّفْظِ، وإذا ثَبَتَ بِهَذِهِ الآيَةِ كَوْنُ المَلائِكَةِ مَعْصُومِينَ مِن كُلِّ الذُّنُوبِ، وثَبَتَ أنَّ إبْلِيسَ ما كانَ مَعْصُومًا مِنَ الذُّنُوبِ بَلْ كانَ كافِرًا، لَزِمَ القَطْعُ بِأنَّ إبْلِيسَ ما كانَ مِنَ المَلائِكَةِ.
والوجه الثّانِي: في بَيانِ هَذا المَقْصُودِ أنَّهُ تَعالى قالَ في صِفَةِ المَلائِكَةِ: ﴿وهم لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ثم قال لِإبْلِيسَ: ﴿أأسْتَكْبَرْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ العالِينَ﴾ [ص: ٧٥] وقالَ أيْضًا لَهُ: ﴿فاهْبِطْ مِنها فَما يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيها﴾ [الأعراف: ١٣] فَثَبَتَ أنَّ المَلائِكَةَ لا يَسْتَكْبِرُونَ وثَبَتَ أنَّ إبْلِيسَ تَكَبَّرَ واسْتَكْبَرَ فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ مِنَ المَلائِكَةِ، وأيْضًا لَمّا ثَبَتَ بِهَذِهِ الآيَةِ وُجُوبُ عِصْمَةِ المَلائِكَةِ ثَبَتَ أنَّ القِصَّةَ الخَبِيثَةَ الَّتِي يَذْكُرُونَها في حَقِّ هارُوتَ ومارُوتَ كَلامٌ باطِلٌ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى وهو أصْدَقُ القائِلِينَ لَمّا شَهِدَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى عِصْمَةِ المَلائِكَةِ وبَراءَتِهِمْ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وجَبَ القَطْعُ بِأنَّ تِلْكَ القِصَّةَ كاذِبَةٌ باطِلَةٌ، واللَّهُ أعْلَمُ. واحْتَجَّ الطّاعِنُونَ في عِصْمَةِ المَلائِكَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالُوا: إنَّهُ تَعالى وصَفَهم بِالخَوْفِ، ولَوْلا أنَّهم يُجَوِّزُونَ عَلى أنْفُسِهِمُ الإقْدامَ عَلى الكَبائِرِ والذُّنُوبِ، وإلّا لَمْ يَحْصُلِ الخَوْفُ.
والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ.
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى مُنْذِرُهم مِنَ العِقابِ فَقالَ: ﴿ومَن يَقُلْ مِنهم إنِّي إلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٢٩] وهم لِهَذا الخَوْفِ يَتْرُكُونَ الذَّنْبَ.
والثّانِي: وهو الأصَحُّ أنَّ ذَلِكَ الخَوْفَ خَوْفُ الإجْلالِ، هَكَذا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، والدَّلِيلُ عَلى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطر: ٢٨] وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كُلَّما كانَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعالى أتَمَّ، كانَ الخَوْفُ مِنهُ أعْظَمَ، وهَذا الخَوْفُ لا يَكُونُ إلّا خَوْفَ الإجْلالِ والكِبْرِياءِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المسألة الثّانِيَةُ: قالَتِ المُشَبِّهَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الإلَهَ تَعالى فَوْقَهم بِالذّاتِ.
(p-٣٨)واعْلَمْ أنّا بالَغْنا في الجَوابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ﴾ [الأنعام: ١٨] والَّذِي نَزِيدُهُ هَهُنا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ مَعْناهُ: يَخافُونَ رَبَّهم مِن أنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمُ العَذابَ مِن فَوْقِهِمْ، وإذا كانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِهَذا المَعْنى سَقَطَ قَوْلُهم، وأيْضًا يَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ الفَوْقِيَّةِ عَلى الفَوْقِيَّةِ بِالقُدْرَةِ والقَهْرِ كَقَوْلِهِ: ﴿وإنّا فَوْقَهم قاهِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٢٧] والَّذِي يُقَوِّي هَذا الوجه أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ وجَبَ أنْ يَكُونَ المُقْتَضى لِهَذا الخَوْفِ هو كَوْنُ رَبِّهِمْ فَوْقَهم؛ لِما ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ الحكم المُرَتَّبَ عَلى الوَصْفِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الحكم مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الوَصْفِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: هَذا التَّعْطِيلُ إنَّما يَصِحُّ لَوْ كانَ المُرادُ بِالفَوْقِيَّةِ الفَوْقِيَّةَ بِالقَهْرِ والقُدْرَةِ؛ لِأنَّها هي المُوجِبَةُ لِلْخَوْفِ، أمّا الفَوْقِيَّةُ بِالجِهَةِ والمَكانِ فَهي لا تُوجِبُ الخَوْفَ، بِدَلِيلِ أنَّ حارِسَ البَيْتِ فَوْقَ المَلِكِ بِالمَكانِ والجِهَةِ مَعَ أنَّهُ أخَسُّ عَبِيدِهِ فَسَقَطَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ.
المسألة الثّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ مُكَلَّفُونَ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى، وأنَّ الأمْرَ والنَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِمْ كَسائِرِ المُكَلَّفِينَ، ومَتى كانُوا كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونُوا قادِرِينَ عَلى الخَيْرِ والشَّرِّ.
المسألة الرّابِعَةُ: تَمَسَّكَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الآيَةِ في بَيانِ أنَّ المَلَكَ أفْضَلُ مِنَ البَشَرِ في وُجُوهٍ:
الوجه الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مِن دابَّةٍ والمَلائِكَةُ﴾ وذَكَرْنا أنَّ تَخْصِيصَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ إنَّما يَحْسُنُ إذا كانَ أحَدُ الطَّرَفَيْنِ أخَسَّ المَراتِبِ، وكانَ الطَّرَفُ الثّانِي أشْرَفَها، حَتّى يَكُونَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ مُنَبِّهًا عَلى الباقِي، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونَ المَلائِكَةُ أشْرَفَ خَلْقِ اللَّهِ تَعالى.
الوجه الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وهم لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ تَكَبُّرٌ وتَرَفُّعٌ وقَوْلُهُ: ﴿ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ أعْمالَهم خالِيَةٌ عَنِ الذَّنْبِ والمَعْصِيَةِ، فَمَجْمُوعُ هَذَيْنِ الكَلامَيْنِ يَدُلُّ عَلى أنَّ بَواطِنَهم وظَواهِرَهم مُبَرَّأةٌ عَنِ الأخْلاقِ الفاسِدَةِ والأفْعالِ الباطِلَةِ، وأمّا البَشَرُ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ القُرْآنُ والخَبَرُ، أمّا القُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ﴾ [عبس: ١٧] وهَذا الحكم عامٌّ في الإنْسانِ، وأقَلُّ مَراتِبِهِ أنْ تَكُونَ طَبِيعَةُ الإنْسانِ مُقْتَضِيَةً لِهَذِهِ الأحْوالِ الذَّمِيمَةِ، وأمّا الخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«ما مِنّا إلّا وقَدْ عَصى أوْ هَمَّ بِالمَعْصِيَةِ غَيْرَ يَحْيى بْنِ زَكَرِيّا» “ ومِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ المُبَرَّأ عَنِ المَعْصِيَةِ والهَمِّ بِها أفْضَلُ مِمَّنْ عَصى أوْ هَمَّ بِها.
الوجه الثّالِثُ: أنَّهُ لا شَكَّ أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ المَلائِكَةَ قَبْلَ البَشَرِ بِأدْوارٍ مُتَطاوِلَةٍ وأزْمانٍ مُمْتَدَّةٍ، ثُمَّ إنَّهُ وصَفَهم بِالطّاعَةِ والخُضُوعِ والخُشُوعِ طُولَ هَذِهِ المُدَّةِ، وطُولُ العُمُرِ مَعَ الطّاعَةِ يُوجِبُ مَزِيدَ الفَضِيلَةِ لِوَجْهَيْنِ.
الأوَّلُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«الشَّيْخُ في قَوْمِهِ كالنَّبِيِّ في أُمَّتِهِ» “ فَضَّلَ الشَّيْخَ عَلى الشّابِّ، وما ذاكَ إلّا لِأنَّهُ لَمّا كانَ عُمُرُهُ أطْوَلَ، فالظّاهِرُ أنَّ طاعَتَهُ أكْثَرُ، فَكانَ أفْضَلَ.
والثّانِي: أنَّهُ ﷺ قالَ: ”«مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُها وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» “ فَلَمّا كانَ شُرُوعُ المَلائِكَةِ في الطّاعاتِ قَبْلَ شُرُوعِ البَشَرِ فِيها لَزِمَ أنْ يُقالَ: إنَّهم هُمُ الَّذِينَ سَنُّوا هَذِهِ السُّنَّةَ الحَسَنَةَ، وهي طاعَةُ الخالِقِ القَدِيمِ الرَّحِيمِ، والبَشَرُ إنَّما جاءُوا بَعْدَهم واسْتَنُّوا سُنَّتَهم، فَوَجَبَ بِمُقْتَضى هَذا الخَبَرِ أنَّ كُلَّ ما حَصَلَ لِلْبَشَرِ مِنَ الثَّوابِ فَقَدْ حَصَلَ مِثْلُهُ لِلْمَلائِكَةِ، ولَهم ثَوابُ القَدْرِ الزّائِدِ مِنَ الطّاعَةِ، فَوَجَبَ كَوْنُهم أفْضَلَ مِن غَيْرِهِمْ.
(p-٣٩)الوجه الرّابِعُ: في دَلالَةِ الآيَةِ عَلى هَذا المَعْنى قَوْلُهُ: ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ وقَدْ بَيَّنّا بِالدَّلِيلِ أنَّ هَذِهِ الفَوْقِيَّةَ عِبارَةٌ عَنِ الفَوْقِيَّةِ بِالرُّتْبَةِ والشَّرَفِ والقُدْرَةِ والقُوَّةِ، فَظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا شَيْءَ فَوْقَهم في الشَّرَفِ والرُّتْبَةِ إلّا اللَّهُ تَعالى، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِمْ أفْضَلَ المَخْلُوقاتِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":48,"ayahs":["أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَیۡءࣲ یَتَفَیَّؤُا۟ ظِلَـٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡیَمِینِ وَٱلشَّمَاۤىِٕلِ سُجَّدࣰا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَ ٰخِرُونَ","وَلِلَّهِ یَسۡجُدُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ مِن دَاۤبَّةࣲ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَهُمۡ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ","یَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ ۩"],"ayah":"وَلِلَّهِ یَسۡجُدُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ مِن دَاۤبَّةࣲ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَهُمۡ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق